كاتب وباحث ومفكر سوري

ياسين الحاج صالح

كان مؤتمر اللاجئين الذي عقد قبل أسابيع في دمشق بتدبير روسي، حملة علاقات عامة موجهة إلى أوروبا، تضع بيد تنظيمات اليمين الشعبوي الأوروبي ورقة تضغط بها على الحكومات، لتدفع اللاجئين السوريين إلى العودة. ولعل المؤتمر من وجه آخر مسعى لتطبيع نظام الانتداب الروسي على سوريا وتابعه المحلي.
رداً على هذا المسعى، أطلق ناشطون سوريون في ألمانيا حملة تقول إن سوريا غير آمنة، ومضى آخرون إلى القول إنه لا عودة مع بقاء الأسد. لكن تفاعل سوريا اللاجئة ـ نحو 30% من السوريين ـ مع المؤتمر الروسي أظهر أنه ليس لدى مجتمعات اللجوء السورية تصور عن العودة، أو سياسة في هذا الشأن. وهو ما تلح الحاجة إلى تداركه بأعمال بحثية وبنقاش سياسي.
السوريون الذين يناضلون من أجل اللاعودة في الشروط الراهنة هم أنفسهم من يناضلون من أجل العودة إلى سوريا جديدة، وعودتها إلى أهلها
تقديرياً، ما يحول دون عودة اللاجئين إلى سوريا، هو ما ساق أكثرهم في المقام الأول إلى اللجوء قريباً وبعيداً عن البلد المنكوب، وهو التهديد المباشر للحياة، أفراداً وأسراً وبيئات اجتماعية، من قبل النظام في الغالب، ثم من قبل مجموعات إسلامية وغيرها. متن اللجوء السوري وأقدمه مكون من هذه الفئة، هناك فئة ثانية ممن لم يريدوا أن ينخرطوا في جيش النظام، وإن كانوا موالين له، أو في القوات الكردية. ولم يتغير حديثاً شيء يدعو فئتي اللاجئين هاتين إلى العودة. الأوضاع المعيشية والخدمية المتدهورة في سوريا، لا تشجع على عودة من قد لا يواجهون مشكلات أمنية إن عادوا، لكن ليس لذلك لا يعود معظم اللاجئين، ولو مؤقتاً. فسوريا هي وطن لاجئي اليوم، وكانوا يعيشون فيها طوال أكثر من عشر سنوات وبشار الأسد يحكمها، لكن المذكور صار بعد الثورة المدير العام لآلة موت قتلت فوق نصف مليون منهم، وهجّرت خارج البلد ستة ملايين ونصف المليون، ولم يعد فقط ذلك الحاكم الوريث غير الشرعي لـ»الجمهورية»، الذي كانه قبل الثورة. ولا يختلف السوريون عن غيرهم في أنهم لا يريدون أن يتعرضوا للتعذيب والموت على يد وكالات القتل المتمرسة، التي يرمز لها الوريث. ما يراد في مثل هذه الظروف هو الحق في اللجوء، وهو حق لا يزال معظم اللاجئين لا يتمتعون به إلى اليوم.
يثير وضع اللاجئين السوريين سؤالاً معاكساً لما يثيره وضع اللاجئين الفلسطينيين: سؤال الحق في عدم العودة. ليس هذا لأن السوريين لا يريدون أن يعودوا إلى بلدهم، أو بعبارة أدق أن يكون لهم الحق في العودة إلى بلدهم، ولكن أساساً لأنهم غير آمنين على أنفسهم إن عادوا، ولأن النظام الذي انتخب شعبه «المتجانس» بعبارة بشار الأسد، وقام بعملية «تنظيف ذاتي» بعبارة بشار أيضاً، ينكر على عموم السوريين أن يكونوا حملة حقوق، ويحكمهم كرعايا وأتباع. وهو لا يفكر بعودة اللاجئين إلى البلد كحق لهم أصلاً. على أنه ليس ثمة تناقض بين حق العودة وحق عدم العودة، لأن الحق في عدم العودة، هو جزء من حق العودة، مثلما أن الحق في عدم الطلاق مضمّن في حق الطلاق. فما دام الأمر يتعلق بحق، فإن في وسع المعنيين به، اللاجئين في هذا السياق، التخلي عنه أو إرجاءه أو استخدامه المشروط. يركز الفلسطينيون على العودة كمضمون لحقهم، لأن هذا ما تنكره عليهم إسرائيل التي قامت على تفريغ فلسطين من أهلها، ويركز السوريون على الحق في عدم العودة، لأن ما ينكره عليهم النظام هو الحمايات القانونية، والحقوق السياسية المرتبطة بمفهوم المواطنة. ومثلما حق العودة مكون أساسي للوطنية الفلسطينية، فإن حق اللاعودة مكون للمواطنة السورية، لأن له مضموناً سياسياً واضحاً: معارضة الحكم الأسدي القائم على الرعوية. السوريون الذين يناضلون من أجل اللاعودة في الشروط الراهنة هم أنفسهم من يناضلون من أجل العودة إلى سوريا جديدة، ومن أجل عودة سوريا إلى أهلها. لكن لنفترض أن النظام الرعوي زال وتغيرت البيئة السياسية في البلد تغيراً دالاً، ماذا يحتمل أن يكون أثر ذلك في اللاجئين؟ لما كان معظم اللاجئين السوريين لا يحوزون حقوق اللاجئين، فالأرجح أنهم سيُدفعون للعودة من قبل حكومات بلدان اللجوء، خلال أمد زمني محدد. ولا يبعد وقتها أن يثار جدال بشأن مدى كون هذه العودة كريمة وآمنة. والأرجح في ما يخص النسبة المتواضعة ممن حازوا جنسيات بلدان اللجوء أن ينهجوا نهج سوريين كانوا في مثل أوضاعهم قبل الثورة: يقصدون البلد الأم في الصيفيات، يحافظون على روابطهم الاجتماعية، ويستفيدون من إجازة منخفضة الكلفة.
ما يمكن أن وجهة لتفكير مجتمعات اللجوء السورية في شؤون اللجوء والعودة الراهنة، هو التفكير في كليهما كحق، العمل من أجل نيل هذا الحق، والتصرف به وفقاً للظروف، ثم ربط ذلك بالتحويل الواجب لسوريا من سلطنة وراثية إلى دولة حق، وتحول السوريين من رعايا إلى مواطنين.
٭ كاتب سوري