لم تعد التحوّلات الجارية في الشرق الأوسط، تحديداً بعد التدخّل العسكري الروسي، مساندة لخيار الاستقلال الكردي، سواء في إطار إقليم كردستان في شمال العراق، أو في سياق “كردستان” التاريخية. والأحلام التي اعتقد رئيس الإقليم، مسعود البرزاني، أنها ستتحوّل إلى حقيقة، لا تزال تبدو بعيدة المنال. في الحسابات، يشكل الصراع السوري فرصة نادرة لأكراد سورية، لتكريس وجودهم في مجال الحكم الذاتي أو الإدارة المدنية، وفقاً لما يقومون به ميدانياً، ريثما ينالون لاحقاً ما هو أكثر في “سورية الجديدة”.
وأيضاً، في الحسابات العراقية، الصراع السلطوي في بغداد وتباعد الرئاسات الثلاث، وتطوّر وضع “الحشد الشعبي” المولود من المناطق الجنوبية في بلاد الرافدين، مع تمدّد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، تفسح هذه العوامل الثلاثة المجال لفكرة استقلالية كردية، في ظلّ وجود إقليم يُمكن أن يُشكّل قاعدة انطلاق لدولة عتيدة، لكن الأمر لا يعدو أكثر من مجرّد حسابات، على أن السبب في ذلك يعود إلى أمرين.
الأول، استعجال حزب العمال الكردستاني فتح معركة واسعة النطاق مع الجيش التركي، ما أدى إلى تجميد عملية السلام بينه وبين الحكومة التركية من جهة، وإلى إعادة السلطات التركية تشدّدها السياسي معه، مع تحقيق حزب العدالة والتنمية انتصاراً قاسياً في الانتخابات التشريعية في 1 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي من جهة أخرى. ومع وجود كتلة كردية وازنة مؤيدة لحكومة أنقرة، يُمكن القول إن “الكردستاني” تلقّى هزيمتين: سياسية ـ عسكرية وشعبية. ما قد يدفعه إلى خياراتٍ أخرى، خارجية، كما فعل رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، صلاح الدين دميرتاش، في زيارته إلى روسيا، الأربعاء الماضي. في تلك الزيارة، بدا دميرتاش كأنه فقد الأمل في المواجهة الداخلية، ما دفعه إلى تأييد الموقف الروسي في مسألة إسقاط تركيا طائرة “سوخوي 24″، التابعة لموسكو، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
الثاني، سعي البرزاني بالذات إلى تمتين علاقة إقليم كردستان مع تركيا، في زيارته إلى أنقرة يومي 9 و10 ديسمبر/كانون الأول الحالي. مع العلم أن العلاقة اتخذت بعداً عسكرياً، مع تدخّل قوات من البشمركة التابعة للبرزاني، في معارك عين العرب (كوباني) السورية الحدودية مع تركيا، العام الماضي. وقتها غادرت قوات البشمركة إلى هناك ثم عادت إلى كردستان من الأراضي التركية. كما أن البرزاني رفض، في الفترة الأخيرة، التوسّع الميداني لـ”الكردستاني” في شمال العراق، أي في منطقة نفوذه السياسي والإداري بحكم الدستور العراقي، خشية من تدهور الوضع الأمني في المنطقة. ومن الطبيعي، في هذا السياق، أن يتخذ البرزاني موقفاً مؤيداً لتركيا في موضوع “الكردستاني”.
ومع تمسّك كل من تركيا وروسيا بموقفيهما في مسألة طائرة السوخوي، مع استمرار الاستفزازات، الروسية خصوصاً، يبقى احتمال اصطدام “البشمركة” و”الكردستاني” وارداً في شمال العراق، لانحياز الفريقين الكرديين إلى روسيا وتركيا. وفي هذا الصدد، لن تشمل المعارك أكراد سورية الذين سيكونون، كما كان أكراد العراق بالذات، أيام الرئيس الراحل صدام حسين، حليفاً ميدانياً للتحالف الدولي ضد “داعش” بقيادة الولايات المتحدة، مع التعويل عليهم في المعارك ضد التنظيم في محافظات الحسكة والرقة وحلب. بالتالي، من شأن اصطدام الأذرع الأقوى لدى الأكراد أن يؤجل طرح موضوع “كردستان الكبرى”، أو حتى إقليم كردستان، حتى حقبة زمنية أخرى، لا أحد يعلم مصيرها. وهو أمر تتفق عليه كل دول الجوار، وحتى روسيا والولايات المتحدة، كل لحساباته الخاصة، على اعتبار أن نشوء دولة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، مثل كردستان، ستُبدّل من مواقع النفوذ السياسية والاقتصادية، وهو وضع لا يُمكن للمنطقة برمّتها، على الرغم من كثرة حروبها ومجازرها، تحمّله حالياً.
قليلاً، ولا يعود سؤال “متى تستقلّ كردستان؟” مطروحاً، بل سيُصبح “من سينتصر: البشمركة أم الكردستاني؟”.

بيار عقيقي

العربي الجديد