حتى الآن، لا يزال “الانتصار” العسكري الروسي في سوريا، أشبه بشيك من دون رصيد بعد كل المحاولات الفاشلة، وكثرة الرهانات على جديد لا يأتي، لصرف هذا الرصيد وقبض ثمنه. فمؤشرات الفشل لم تتوقف عند عجز موسكو عن قطف ثمار تدخلها في ساحةٍ صار ذراعها هو الأطول فيها، بل اتخذ أبعاداً جديدةً في ظل وجود توجهٍ أمريكي وأوروبي يعمل بمنهجية مشتركة على إغراقها في المستنقع السوري، واستنزاف قدراتها في تمرير أجندتها في هذا الملف.  

   يخشى الاحتلال الروسي بعد مضي أكثر من ٦ سنوات على محاولة استثماره للورقة السورية أن يكون قد أصبح بمنزلة من أُسقِط في يده، وأنه عاجلاً أم آجلاً سيجد نفسه مضطراً لملاقاة الإرادة الدولية عبر حل سياسي يفقده الكثير من طموحاته الدولية والإقليمية، أو أن تتفاقم تناقضاته مع المشروع الايراني ومواصلة تحديه للمجتمع الدولي، وتصيبه في مقتل بسبب وقوفه في الجانب الخاطئ.

   صحيح أن الملف السوري ليس من شواغل الإدارة الأمريكية الجديدة، وربما يكون بقاء الوضع الراهن في سوريا من خياراتها راهناً، مع وقف العمليات العسكرية وإيصال المساعدات وتجميد الملف سياسياً. إلا أن هذا الملف بحكم تموضعه الجيوسياسي والاستراتيجي يقع في صلب ملفات الاشتباك الدولي بين الجانبين سواء في تقاطعاتها أم تناقضاتها. كما أنه يحتل موقعاً حيوياً في إدارة تحالفات كل منهما، وهو ما يدفع الغرب عموماً للإصرار على حرمان موسكو من تحقيق مآربها للاستثمار في هذا الملف وتوظيفه كأداة ضغطٍ وسط احتدام التناقضات واصطدام المشاريع في منطقة الشرق الأوسط. 

 لعبة الاحتلال الروسي اليوم ليست جديدة، والتصعيد العسكري الذي بدأ مع شهر حزيران وشمل ما يسمى “منطقة خفض التصعيد الرابعة” على امتدادها، ليس سوى محاولة  لمواجهة مخاطر الفشل والإفلاس السياسي، وعقم جهوده في الالتفاف على القرارات الأممية ومحاولة التطاول عليها عبر إحياء مساري أستانا – سوتشي ومخرجاتهما واستخدام الضغط العسكري لفرض الأمر الواقع، لاسيما أن هذا التصعيد الذي يمعن اليوم أكثر من أي وقت مضى في استهداف حياة المدنيين والمنشآت الخدمية والطبية والاقتصادية عبر الاستخدام المكثف للطيران الحربي وصواريخ الـ “كرا سنو بول” الموجهة ذات الدقة العالية هدفه إجبار المدنيين على الاستسلام أو دفعهم للتهجير بالقوة، لكنه يخفي في طياته محاولةً لإجبار تركيا على التساوق أكثر مع الرؤية الروسية ، وتقديم تنازلات في سوريا، ومنعها من إنجاز تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الجديدة.

 الاستماتة التي يبديها الروس في الملف السوري تستهدف محورين: الأول هو المراهنة على أن تسهم سياسة الضغوط القصوى عسكرياً في منع الأتراك من أية استدارة نحو الغرب، وتستخدم في هذا السبيل ميليشيا الأسد وإيران، في محاولة التوغُّل برياً في مناطق المعارضة، لفتح الممرات المغلقة بالقوة لإنقاذ نظام الأسد، والمتاجرة بالفيتو الروسي للعمل على محاصرة إدلب وعزلها مع ملايينها لإجبارهم على الرضوخ. أما الثاني فهو سباق الزمن مع المجتمع الدولي الذي بدأت إدارة “بايدن” تحشده وراءها في عدد من القمم الدولية والإقليمية ومنها قمة “بايدن/بوتين”. والتي خيبت نتائجها آمال موسكو، وأفشلت مخططاتها للإسراع بالخروج من مأزقها السياسي في الملف السوري، وقد تخطف من يدها سلاح الفيتو وخاصة بعد اجتماع روما، الذي حشد الرأي العام العالمي حول ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية للاجئين وسحب سلاح التجويع التي كانت تزمع على إشهاره.

يبدو أن أوهام موسكو بنجاحها في فرض رؤيتها للحل السياسي وإعادة تأهيل النظام والشروع في إعادة الإعمار قد ذهبت أدراج الرياح بعد أن باءت بالفشل عمليات تسويق الأسد وبيعه في المزاد الدولي. إلا أن ما يثير قلقها ومخاوفها إلى حد كبير، وتستميت لإبعاد شبحه، هي عوامل انهيار نظام الأسد ومؤشراته المتصاعدة بسبب إفلاسه وافتقاره للموارد المطلوبة، ولأية قوة دفع ذاتية قادرة على إدارة محركات نظامه المتهالكة، ونتيجة للحصار السياسي والاقتصادي الذي لم يعد بإمكان موسكو إخراجه منه.