خاص للموقع من درعا

تستعر في الجنوب السوري، وخاصة في محافظة درعا، حالة من الغليان الشعبي العارم، مصحوبةً بأجواء من التوتر بين مختلف الفاعلين على الأرض. وتتجمع في سماءه سحب سوداء تنذر بالمزيد من المخاطر والتهديدات المتربصة بالمنطقة وكأنها على وشك انفجارات مفاجئة وغير محسوبة أيضاً. تتغذى هذه الحالة على عدة عوامل أهمها استفحال الفوضى والاضطرابات الأمنية وفلتان السلاح، في اعقاب تنكّر ميليشيا الأسد وأجهزته الأمنية لكافة بنود اتفاق التسوية الذي جرى بإشراف وضمانة من الروس في تموز 2018، ومن ممارسات النظام عبر تشديد قبضته الأمنية وتكرار حملات الاعتقال جنباً إلى جنب مع عمليات الاغتيال وحوادث الخطف والقتل والسرقات والاختفاءات القسرية التي تتزايد وتيرتها باستمرار. كما تترافق مع تعزيز التواجد الإيراني وتمدد ميليشياته في العديد من مناطق الجنوب، وخاصة في درعا.

 

ولعل ما يفاقم هذه الحالة ويزيد من حدتها هو استمرار تدهور الاوضاع الاقتصادية والمعيشية عموماً، وانتشار الفقر والبطالة بمعدلات مرتفعة وعلى نطاقٍ واسع. كل هذه الأجواء أصبحت منبعاً مولداً باستمرار لحالات من الغضب والاحتقان الشعبي الذي ينذر بالانفجار في كل لحظة. ففي تموز من عام2018، تمكن الروس من التوصّل إلى عقد اتفاق تسوية بين الفصائل المسلحة من جهة وميليشيا النظام من جهة أخرى، وبموافقة أمريكية وإسرائيلية وأردنية وقد تضمن هذا الاتفاق عدة نقاط من أبرزها إعادة كافة الخدمات إلى المدينة المنكوبة وضمان استقرارها والإفراج عن المعتقلين في سجون النظام ووقف الملاحقات الأمنية بحقهم مع السماح بعودة الموظفين لأعمالهم وسحب الجيش والحواجز الأمنية من المدن والبلدات كما تعهدت روسيا في بند خاص بالعمل على ابعاد الميليشيات الإيرانية مسافةَ 50 كم عن الحدود الأردنية وكذلك عن حدود الجولان المحتل.

 

معظم بنود التسوية المذكورة لم تنفذ بل كان من نتائج هذا الاتفاق ما يلي:

أ-استمرار إيران بتعزيز وجودها أكثر فأكثر في الجنوب وخاصة عبر التخفي بزي الجيش السوري مع رفد ميليشياتها بعناصر جديدة.

ب-إقدام النظام وأجهزته الأمنية على التصعيد في ملاحقة النشطاء واعتقال عدد كبير من عناصر التسوية المسلحين وقتل بعضهم تحت التعذيب وتزايد وتيرة الاغتيالات على يدها.

ج-استغلال إيران البشع لظواهر الفقر والبطالة والظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها ابناء المنطقة عبر اطلاق حملات متواصلة لتشييع السكان في الجنوب، وتجنيدهم في ميليشياتها مقابل إغراءات مالية، وصولاً إلى تشكيل خلايا شيعية من أهل المنطقة وتدريبها من قبل الفرقة الرابعة، جمعية البستان (التي أصبح اسمها درع الوطن).

د-حرص إيران على دمج ميليشياتها وإخفائها ضمن القطعات العسكرية السورية وتموضعهم في نفس مواقعها العسكرية وخاصة الفرقة الرابعة، والحرس الجمهوري، واللواء 105.

هـ-بسبب تنكر النظام لبنود الاتفاق وتزايد الخروقات الإيرانية، بدأت تظهر على السطح بوادر صراع ومواجهات بين أذرع موسكو وأذرع طهران في المنطقة، وخاصة بين الفرقة الرابعة المحسوبة على التيار الإيراني في النظام السوري وبين فرق عسكرية مقربة من موسكو وأصبحت مدن درعا مسرحاً لاغتيالات مدروسة وممنهجة طالت العديد من العناصر والقيادات المحسوبة على الطرفين.

و-لقد شكل هذا التطور المفاجئ سواءً من قبل النظام أو الميليشيات الإيرانية والانقلاب على الاتفاق والتنكيل بالمعارضين صدمةً كبيرة لعناصر التسويات، مما دفع بهم إلى مواجهتها وإعادة ترتيب صفوفهم وتشكيل خلايا للرد على عمليات الخطف والاعتقال والاغتيال من خلال مواجهات مع أجهزة الأمن وهجمات على مقراتها وتنفيذ بعض عمليات الاغتيال بحق عملائها في عدد من مناطق محافظة درعا.

 

لقد أصبح الجنوب السوري فريسةً لصراعات شتّى وتحت رحمة مخططات الفاعلين الرئيسيين الممثلين بكل من روسيا وإيران والنظام. فإيران التي استغلت عودة المناطق إلى سيطرة النظام بموجب هذا الاتفاق تواصل ترسيخ نفوذها خدمة لمشروعها التوسعي، معتمدةً استراتيجية خلط الأوراق والتخفي ضمن مواقع النظام، أما النظام فيواصل بكل السبل الانقلاب على الاتفاق لتمرير مخططه بشكل تدريجي بهدف إعادة فرض السيطرة الميدانية على كافة المناطق عبر المزيد من التعزيزات والحشود العسكرية، أما روسيا فهي تعمل على خدمة مشروعها الخاص بإخضاع تصرفات النظام لأجندتها وتوجيه حركة ميليشياته لصالحها، جنباً إلى جنب مع محاولة تقليص النفوذ الإيراني عبر تحالفات معقدة ومتحركة هدفها إبقاء هذا النفوذ تحت اشرافها وضبط تواجده بما يضمن لها القول الفصل ميدانياً.

 

إيران تحصد ثمار استراتيجية التخفي:

تمكنت إيران عبر استراتيجية التخفي خلف ستار قواعد النظام العسكرية من تعزيز حضورها العسكري على حدود الجولان المحتل، كما نجحت في تثبيت سيطرتها على منطقة (مثلث الموت) الذي بربط بين أرياف (دمشق ودرعا والقنيطرة). وأنشأت قواعد عسكرية جديدة فوق عدد من التلال الاستراتيجية: تل الحارّة-تل الجابية -تل الجموع…. وغيرها، التي أطلقت عليها اسم (تلال فاطمة الزهراء)، وأمّنت انتشاراً عسكرياً جديداً أيضاً في مدينة درعا وخربة غزالة وإزرع والعديد من القرى الأخرى إضافة إلى خان أرنبة ومدينة البعث في القنيطرة، وعلى تلال (الشعار-الشحم -مرعي). كما أسس حزب الله معسكراً للتدريب في حقل “الكريِّم” شمال درعا لتدريب العناصر القادمة من السويداء ودرعا وريف دمشق والقنيطرة.

 

على هذه الأرضية يأتي تحرك النظام مؤخراً، وحشده تعزيزاته العسكرية باتجاه محافظة درعا، حيث تسعى إيران لاستخدام ميليشيا الأسد وخاصة الفرقة الرابعة لإعادة السيطرة على درعا بهدف التخلص من كافة القوى القادرة علي مواجهة المشروع الإيراني في الجنوب السوري والمتمثل بالسيطرة عليه لاستنساخ تجربة جنوبي لبنان بخلق ما يعرف بالضاحية الجنوبية وزرع (حزب الله السوري) في مركزها ودائما بحجة القضاء على بقايا تنظيم داعش الإرهابي والرد على الاغتيالات التي حصلت لقوات النظام وعملائه في مناطق درعا.

 

لقد انبثقت عن اتفاقية التسوية هيئة سميت (اللجنة المركزية في درعا) وضمت الى جانب القادة السابقين في فصائل المعارضة في الجنوب وجهاء للعشائر وممثلين عن المجتمع المدني، وتحددت مهمتها في استكمال عملية التفاوض مع النظام في محافظة درعا، ومتابعة تقديم الخدمات للمنطقة والعمل على خفض مستوى التوتر والاضطراب الأمني فيها. إلا أن الأمور سارت بعكس الاتجاه تماماً بعد أن انقلب النظام على بنود التسوية وحولها إلى مصيدة للإيقاع بعناصر الفصائل والتنكيل بهم، وواصل حشد التعزيزات الأمنية والعسكرية بقصد إحكام قبضته وفرض التجنيد الإجباري والزج بعناصر المصالحات في أتون صراعاته في إدلب وغيرها مع التهديد باقتحام المدينة مما أعطى إنذاراً واضحاً بانهيار الاتفاق الذي كان يوفر لفصائل المعارضة هامشاً من الحرية في ظل احتفاظها بسلاحها الخفيف والمتوسط لإدارة مناطقها، بعد الانخراط ضمن التشكيلات العسكرية والأمنية للنظام كالمخابرات الجوية والأمن العسكري والفيلق الخامس وغيرها من التشكيلات. إلا أن حادثة مقتل تسعة عناصر من قوات الأمن الداخلي التابعة للنظام في بلدة “المزيريب” على يد عناصر متهمة بالارتباط بداعش وذلك انتقاماً من النظام بعد قتله عدد من عناصر التسويات. حولت ريف درعا الغربي إلى بؤرة شديدة التوتر و وضعت المنطقة على أبواب حرب طاحنة بين ثوار درعا من جهة والفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية من جهة أخرى، وكان اجتماع اللجنة المركزية مع ممثلين عن الفرقة الرابعة وعن الأجهزة الأمنية محاولة لاحتواء المخاطر والتهديدات وقطع الطريق على النظام لاقتحام المدينة وكان من نتائج هذه المفاوضات الخروج بقرارات بدت وكأنها تحظى بموافقة جميع الأطراف وأهمها، وقف اقتحام المدينة، والاكتفاء بنشر عناصر الفرقة الرابعة في الريف الغربي دون نصب حواجز على الطرقات العامة، مقابل ملاحقة خلايا داعش وتسليم أي شخص يتورط بأعمال قتالية ضد قوات النظام وتشكيلاته. إلا أن الفرقة الرابعة افتتحت مراكز لتجنيد الشبان في صفوفها، وتمكنت من فرض التجنيد على أكثر من 2700 مقاتل جديد من المنشقين والمطلوبين للخدمة العسكرية أو الاحتياطية أو الفروع الأمنية، وكان الإغراء هو الحصول على بطاقة عسكرية، وراتب شهري إلا أن جميع هذه الوعود كانت كاذبة ومجرد خداع للإيقاع بالشبان واعتقالهم.

 

تسابق العسكرة إلى إين؟!:

في السادس من آيار الماضي، دشنت الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد والمحسوبة على التيار الإيراني في النظام السوري، مراكز جديدة تابعة لها في ريف درعا الغربي لفتح باب التجنيد إلى صفوفها جاء ذلك بالتزامن مع فتح باب الانتساب الى اللواء الثامن في الفيلق الخامس التابع لروسيا في بصرى الشام بقيادة أحمد العوده (القيادي السابق لفصيل أنصار السنة في المعارضة). ربما يلخص هذا الإعلان المتزامن مشهد الصراع الذي يشهده الجنوب السوري، منذ توقيع اتفاق التسوية، وعلى مدى الشهور الثلاثة الماضية عملت عناصر التسويات علي تشكيل جسم عسكري وسياسي لمنطقة حوران للوقوف في وجه التمدد الإيراني، وقد سمح الجانب الروسي بفتح باب الانتساب إلى اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس في 8 حزيران، حيث بلغت عدد طلبات الانتساب عشرين ألفاً من شباب محافظة درعا، وانسحب عدد كبير منهم من الفرقة الرابعة بعد أن انتسبوا إليها، وقد جرى تدريب هؤلاء في معسكرات “سلمى” بريف اللاذقية الشمالي، وكان ملاحظاً درجة الاهتمام والعناية التي يمنحها الروس لعناصر الفيلق الخامس إلى أنهم تعرضوا في بصرى الشام، لعدة عمليات استهداف بعبوات ناسفة وعمليات اغتيال كان آخرها تفجير باص مبيت للفيلق على طريق بلدة “كحيل” في عشرين حزيران، مما تسبب بمقتل تسع عناصر وجرح أكثر من 25 وتشير عناصر الاتهام إلى حزب الله رداً على محاولات الفيلق الخامس تجنيد عناصر جدد من درعا وما يشكله ذلك من خطر على مشروع ايران التوسعي في جنوب سوريا. أما بالنسبة للموقف الروسي من التغلغل الإيراني في الجنوب والذي أخذ ظاهره عدم التدخل المباشر لمنعه، لكن بعض المراقبين يميلون الى الاعتقاد بأن ما يجري بين روسيا وإيران ليس صراعاً تناحرياً، بل هو محاولة من الروس لضبط هذا الوجود وتسخيره واستغلاله، وأن العلاقة بينهما ميدانياً، لاتزال رغم حصول بعض المواجهات هنا وهناك، علاقة تنسيق وتبادل أدوار. كما يميل البعض الآخر إلى أن روسيا تسكت عن التغلغل الايراني في الجنوب لرغبتها بالاحتفاظ بدور الوسيط القادر على إحلال التهدئة، والقدرة على استمالة المجتمع المحلي لصالحها، وتوظيف الضغط على الكيان الاسرائيلي، لكسب ود دول الجوار والأرجح أن روسيا تفضل مقايضة هذا الملف مع ملفاتها العالقة مع المجتمع الدولي في انتظار من يدفع لها الثمن.