تقرير سياسي! 

  الزلزال وتداعياته على الوضع السوري 

  طغت تداعيات الزلزال المدَمر وما أحدثه من كوارث وأهوال على كلِ ما عداها من أحداث طوال الأسبوع المنصرم، وبعد أن تكفل مع هزَاته الارتدادية المتكررة بنشر فواجعه ومآسيه في جنوب تركيا ومدن الشمال والساحل السوري ومحافظة حماه، متسبباً بقتل وجرح وإصابة ما يقارب المئة ألف إنسان حتى الآن. وسوف نكتشف كلَ يوم بل كل ساعة أن حجم الكارثة يفوق التوقعات، وأنَ نتائجها وفواجعها ستترك آثاراً عميقة في حياتنا ولسنوات طويلة. أودى الزلزال حتَى الآن بحياة أكثر من 40 ألف إنسان، بينهم أكثر من 5000 ضحية داخل سورية، عدا عن ألوف الضحايا والمصابين السوريين في تركيا. وسجلت الأمم المتحدة ومؤسساتها المعنية تقصيراً فاضحاً في إيصال الإغاثة لمستحقيها بالوقت المناسب. إذ لم تشهد مدن الشمال السوري المنكوبة أي دورٍ انقاذي أو إغاثي في الأسبوع الأول، مسجِلةً مع المجتمع الدولي فصلاً جديداً من فصول تقاعسهم وتخاذلهم عن حماية حياة السوريين، مقتربةً من حدود التواطؤ بحجَة عدم مخالفتها للقرارات الدولية، بينما وصلت عشرات الطائرات الإغاثية وحطَت رحالها في مطارات دمشق وحلب واللاذقية، وكذلك العديد من الوفود والاتصالات التي تواردت لتعزية الأسد بالضحايا. وهو يعوِل عليها كثيراً مع حلفائه كمنفذٍ لإنهاء عزلته العربية والإقليمية والدولية والمطالبة برفع العقوبات. بينما ملايين السوريين الذين تكدَسوا في المنافي والمخيَمات هرباً من بطشه واجرامه وبراميله المتفجرة، هم أكثر من تلقى نتائج الزلزال المدمِر.

يبقى من حقِ المنكوبين أن تحتضنهم فرق الإنقاذ الأممية والدولية -ولو وصلت متأخرة- بتوفير مراكز إيواء تجمع مشرديهم وتقيهم غوائل البرد والجوع، وتعالج المصابين منهم، كي لا يبقى المنكوبون ضحية الخذلان ونظام الأسد مرتين. لأن السوريين خبروا هذا النظام ولم يكن موقفه وسلوكه مفاجئاً لهم، اذ كيف يسعى لإنقاذهم بعد أن قتلهم ببراميله وسلاحه الكيماوي، ودمَر منازلهم فوق رؤوسهم وشرَدهم في كلِ أصقاع الارض!

 في هذه المحنة السوداء التي ألمَت بشعبنا السوري لا بد لنا أن نرى عظمة هذا الشعب في مقاومة ثقافة الموت وحب الحياة عبر جهود وتضحيات منظمة الخوذ البيضاء لما قدمه رجالها من عمل وطني وبطولي، ومعهم مئات المتطوعين من الشباب السوري، بالرغم من قلة الإمكانيات والظروف الشَاقة، وكذلك الروح الوطنية الخالصة التي تجلت في مبادرات التضامن الأهلي والأخوي بين السوريين بكلِ ما انطوت عليه من نبلٍ وشهامة.                                     

                                          أولاً: الأوضاع الدولية-الحرب الروسية الأوكرانية 

  أصبحت الحرب الأوكرانية ذات طابع وتأثير دوليين. ويرجح أن تستمر هذه الحرب، وما من مؤشرات في الأفق تفيد بقرب نهايتها، ومعاناة العالم من انعكاساتها. إن مراحل تطورها وما أسفرت عنه من نتائج وأزمات كان لها تأثير مباشر على الصعيد الدولي، إن كان على صعيد أزمتي الطاقة أو الغذاء، ووضعت دول العالم أمام تحديات سياسية واقتصادية واستراتيجية جديدة. وكان الانقسام والتموضع بين هذه الدول في التعاطي مع هذه الحرب، وفقاً للمصالح الآنية والاستراتيجية لكل دولة أو مجموعة من الدول. وبات مرجّحاً أن تتحكم الوقائع التي نشأت من جراء هذه الحرب، بمجريات الأحداث العالمية، وستلقي بظلالها على ما سيشهده العالم في الفترة المقبلة.

  لقد أثبتت هذه الحرب أنّ روسيا لم تعد قادرة على الاستمرار في كونها دولة عظمى وقطباً مواجهاً للولايات المتحدة والغرب، ولا يمكن لها أن تلعب في هذا العالم دوراً يفوق حجمها الاقتصادي المتواضع الريعي والمتخلّف رغم ما تمتلكه ثروات هائلة ومتنوّعة. فهي لا تمتلك من مقومات الدولة العظمى سوى ترسانتها النووية. أما نظامها السياسي فهو يندرج بين الأنظمة الشمولية المستبدة والفاسدة. وبالتالي من الصعب أن تضع نفسها في صراع مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. ولا يصلح تلويح بوتين بالسلاح النووي حتّى للابتزاز، فهناك دول أخرى تمتلك مثل هذا السلاح. ولقد كشفت هذه الحرب أيضاً، تخلف السلاح الروسي مقارنة بالسلاح الغربي، وهناك فجوة كبيرة بين روسيا والولايات المتحدة في كلّ ما له علاقة بنوعيّة السلاح.  كما تبين، جهل بوتين بالعالم وبالوضع الداخلي في أوكرانيا. إذ كان يعتقد أن هذا الغزو مجرد نزهة ستنتهي باستسلام أوكرانيا وفرار رئيسها. في الوقت الذي لم يتمكن جيشه من الدخول إلى العاصمة كييف، وكانت هنا أولى إشارات خسارته الحرب. 

   يبدو من أهمّ ما غاب عن ذهن بوتين أنّ غزو أوكرانيا هو تحرّش وقح بأوروبا، وأن كلّ دولها ستجد نفسها مهدّدة. وسوف يكون سقوط أوكرانيا سقوطاً لها، وعودة إلى ما قبل انتهاء الحرب الباردة. وهذا ما جعل السويد وفنلندا تطلبان الانضمام إلى حلف الناتو، وتخرج المانيا عن سياستها التقليدية المتبعة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وتخصّص مئة مليار يورو لتسليح جيشها في السنوات العشر المقبلة.

  فدول أوربا والولايات المتحدة، تعتبر نفسها معنية بشكل مباشر بهذه الحرب تحت شعارات الدفاع عن الحرية وحق الشعوب والدول بتقرير مصيرها. فكان دعمها لأوكرانيا هائلاً، فقد تجاوز الخمسين مليار دولار كمساعدات عسكرية وغيرها، كما فرضت على روسيا عقوبات اقتصادية ومالية غير مسبوقة، لتقليص دورها وتحجيم الطموحات البوتينية التي تصاعدت وتوسعت في السنوات العشر الأخيرة في العديد من أماكن الصراع، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. 

  كما أن غزو بوتين لأوكرانيا يعتبر نقطة انعطاف تاريخية لأوروبا، وتختمر الآن تدريجياً ملامح للتحول والتكيف مع التحديات الهائلة المقبلة. وتتبدل أوروبا كما لم يحصل من قبل، وتبدو الآن، رغم كل تناقضاتها، أكثر اتحاداً من أي وقت مضى، وتصبح الحرب الأوكرانية فرصة لتفكيك الخطر الروسي على السلم الأوروبي. وهذا ليس خياراً مجانياً، بل يكمن في صلب المصلحة الأوروبية، كما أنه خيار مكلف ومؤلم في آن، لما ينتج عنه من نقص في إمداد الطاقة وغيرها من الأمور. لكن مجرد أن تقرر أوروبا أن تذهب موحدة وبوعي كامل منها نحو أزمة اقتصادية، قد تدوم بضع سنين، وأن ترفض الخضوع للابتزاز الاستراتيجي الروسي، فهذا يعزز المشروع الأوروبي، ويتطلب الكثير من العزيمة السياسية والمرونة الاقتصادية، والكثير من التضحيات الاجتماعية.  وهذا ما دفع دول أوربا لمزيدٍ من الوحدة والتكافل والتضامن، ولتكتشف استراتيجيتها المتوسطية مجدداً. فماكرون يعمل مؤخراً على توطيد العلاقة مع الجزائر وإزالة مازال عالقا من آثار وآلام الحقبة الاستعمارية، وها هو شولتس يزور السعودية لعقد صفقات السلاح معها، الخ. تنجح أوروبا نجاحاً لافتاً في إدارة خلافاتها والتوافق على إعادة إنتاج أوروبا من جديد. نرى أن هذه الخيارات، ستسمح لها بالعودة كندّ في الشراكة مع الولايات المتحدة. 

     في المقابل نرى دولا انحازت علنا إلى موقف روسيا في حربها على أوكرانيا مثل بيلاروسيا وإيران وكوريا الشمالية وسوريا وفنزويلا. أما باقي الدول في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فكانت متباينة وتتحكم بها مصالح وسياسة كل دولة من هذه الحرب، فالصين التي تدعم الموقف الروسي سياسيا في مجلس الأمن اتخذت موقفاً وسطيا من الحرب فاستنكفت عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي آن تعمل على تخفيف حدة الحصار الاقتصادي واستمرت في استيراد الغاز والنفط الروسي، ونجد الموقف الإيراني قد تخطى البعد السياسي والاقتصادي الى البعد العسكري. كاشفاً عن عمق الحلف القائم بين روسيا وإيران. وأصبحت إيران من الدول التي ربطت مصيرها بمصير روسيا الى درجة أن مسيّراتها وصواريخها باتت جزءاً من الحرب على أوكرانيا، بكل ما في ذلك من تداعيات وإفرازات على العلاقات الأوروبية – الإيرانية، وتأثير ذلك على إحياء الصفقة النووية مع الولايات المتحدة. فجّر بوتين حرباً وبات يعتمد على الخيار الإيراني كي يستطيع مواصلة حربه. في كل الأحوال هذه نهاية تليق بنرجسية بوتين ولكنها لا تتلاءم بحلم إعادة بناء “الإمبراطورية الروسية”.

  إن عمق الحلف الروسي – الإيراني. جعل الإدارة الأميركيّة تتراجع في كلّ مبادراتها الهادفة إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي. ونلاحظ بداية اهتمام أميركي بالأحداث الداخليّة في إيران. صحيح أن من الصعب التكهن بالحد الذي سيذهب إليه بايدن في دعم ثورة الشعب الإيراني، لكنّ الصحيح أن هذه الثورة ستفرض نفسها عاجلاً أم آجلاً على نظام الملالي الذي لم يعد لديه ما يقدّمه لشعبه في أي مجال من المجالات. 

  كما يبرز الموقف التركي بسياسة براغماتية للاستثمار في هذا الصراع مستفيداً من الحقائق المتوفرة له. فهي الجغرافيا التي يشترك بها مع روسيا وأوكرانيا في البحر الأسود وتشرف على مضيق البوسفور كمعبر بحري وحيد لتصدير البضائع الروسية والأوكرانية, وتركيا  بنفس الوقت عضو في حلف الناتو، ويرتبط اقتصادها بالاقتصاد الغربي، وتشرف جنوبا على منطقة الشرق الأوسط وما تمثله من منطقة أزمات ومصالح متداخلة، لذا نرى أن هذا الوضع الفريد سمح لها بالتدخل وبأكثر من اتجاه وبالقدر الذي تقرره، من أجل تثبيت نفسها كلاعب إقليمي أساسي ومؤثر في أحداث المنطقة حاضراً ومستقبلاً، مما يساعدها  في إيجاد حل مناسب لها  في الحدود الجنوبية للمسألة الكردية في العراق وسوريا، وأن تكون شريكا في أي حل يطرح للصراع المفتوح بالمنطقة، إضافة لقضية قبرص التركية وثروات النفط والغاز المتفجرة في شرق البحر المتوسط , كما أنها تساعد نظام حزب العدالة والتنمية في معالجة القضايا الداخلية الملحة على أبواب الانتخابات، إن كان في الاقتصاد أو حماية أمنها القومي أو في مسألة اللاجئين السوريين. 

  وقد يكون للحرب الروسية الأوكرانية وانشغال العالم بها الفضل في افساح المجال لتوسيع هامش الحركة للدول الخليجية بعيداً عن التأثير المباشر للطرف الغربي وخاصة الأمريكي. فكانت زيارة بايدن للشرق الأوسط، والتي فرضتها نتائج الحرب الأوكرانية بشكل أساسي، ومن أجل تصحيح الاختلالات في السياسة الأمريكية مع دول الخليج، كما كانت هذه الزيارة فرصة للحوار العربي-الأمريكي، وإعادة تعزيز الثقة وفتح آفاق جديدة للتعاون بين الطرفين، وبما يحقق مصالحهما المشتركة.  فعُقِد مؤتمر جدة بإضافة مصر والأردن إليهم، اتسمت كلمات الزعماء العرب في هذا المؤتمر بالوضوح والدفاع الصريح عن مصالح دولهم، بسبب تزعزع ثقتهم بمصداقية سياسات أميركا تجاه حلفائها، وخاصة مواقفها الرخوة واللامبالية تجاه إيران وتدخلها في شؤون الدول العربية، وكذلك الموقف من ميلشيا الحوثي في اليمن، وإيقاف تصدير الأسلحة للسعودية كان خير مثال. وفي مجال الطاقة، لم يحصل بايدن على وعود خليجية بضخ كميات إضافية من النفط في السوق العالمية تلبي حاجة أوربا خلال الأزمة الأوكرانية. وتجلى لاحقاً إذ قررت “أوبك بلس” التي تقودها السعودية زيادة متواضعة في إنتاج النفط. فالدول الخليجية تدافع عن مصالحها وعدم تخريب علاقاتها مع منظمة الأوبك، وعلاقاتها التي نسجتها مؤخرا مع كل من روسيا والصين والهند. عبر زيارات متبادلة وكان أخرها زيارة الرئيس الصيني للسعودية، وتوجت هذه الزيارة بقعد اتفاقيات اقتصادية تفوق المئة مليار دولار. وليس جديداً أن تبدي الدول الخليجية مثل هذا المواقف والذي يحافظ على مصالح المشتركة بين الدول. فمن الواضح أن دول الخليج العربي وخاصة السعودية والإمارات يستخدمون بصراحة ووضوح لهجة استقلالية في خطابهم السياسي، وهذا يسهم بتعزيز الموقف العربي، كما قد يسهم مستقبلاً في خلق قوة إقليمية عربية مستقلة تدافع عن مصالح العرب وحقوقهم. 

من خلال هذا الاستعراض للمشهد العام لهذه الحرب وما تكشف من مجرياتها القائمة الى اليوم نستخلص:

   أصبحت هذه حرب عاملاً مؤثراً كبيراً على الوضع الدولي برمته، إلا انها إلى الآن غير قابلة للتوسع بسبب قوة الردع النووي المتوفرة لدى الطرفين، ومن الواضح أن أياً من أطراف الصراع لا يرغب باللجوء إليه كونه يعني دماراً شاملاً لن يكون لمصلحة أحد، من جانب آخر لا نرى جهات أخرى لديها الرغبة بالتدخل في الصراع الدائر بين الطرفين، بما فيها الدول الكبرى وخاصة الداعمة للطرف الأوكراني. كما يمكن القول إن الحرب مرشحة للاستمرار بمعركة عض الأصابع الدامية لصعوبة الخيارات المطروحة. وستبقى في المرحلة الراهنة جرحاً مفتوحاً على كل الاحتمالات، مراكمة مزيداً من الضحايا البشرية واللاجئين والنازحين، وتستنزف الكثير من الخسائر على صعيد الاقتصاد والبنى التحتية، وستبقى مستأثرة باهتمام العالم وخاصة الدول الفاعلة، غير تاركة مزيداً من الوقت لبحث ومعالجة القضايا الأخرى ومن أهمها قضيتنا السورية المستنقعة منذ أكثر من عقد. لكن يبقى الاستنتاج الجوهري، يكمن في أن من رحم هذه الحرب يولد عالم جديد. من سمات هذا العالم تراجع الدور الروسي على كلّ الصعد. فلقد تضاءل نفوذها الدولي وأدوارها الإقليمية، وتقلّصت شراكاتها. وحتى الصين لم تتسرّع في احتضانها، لا في بداية هذه الحرب، ولا الآن. وكذلك انتفاضة الشعب الإيراني على نظام الملالي الفاشي في طهران وإرهاصات تراجع نفوذها في الشرق الأوسط، ليبدو انهيار القوة الروسية، وتراجع إيران الاستراتيجي، وقائع على الطريق. 

 

                                              ثانيا: الوضع الإقليمي -الانتفاضة الإيرانية

   لا يوجد أدنى شك في أن انتفاضة الشعب الإيراني الصامدة صموداَ أسطورياً منذ أشهر في مواجهة آلة القمع الوحشية لنظام الملالي في طهران، تندرج ضمن الأحداث الكبرى الهامة التي تهز الشرق الأوسط في الوقت الراهن. إن معركة التغيير التي يخوضها الشعب الإيراني الآن في كافة الأقاليم والمدن، بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية، ببسالة وصمود أسطوريين لتحرير إيران من براثن نظام الفاشية الدينية التي تمارس ضده منذ ثلاثة وأربعين عاماً أوحش قمع في التاريخ، سوف تنعكس مفاعيلها ليس فقط على الأوضاع الاجتماعية والسياسية الكارثية في دول الإقليم المنخرطة في محور طهران، إنما تؤثر أيضا على كامل العالم العربي والشرق الأوسط عموماً وعلى الوضع الدولي وموازين القوى فيه. فلقد بدأت تطفو على السطح إمكانية تغيير نظام طهران الدموي التوسعي، ووقعنة هذه الإمكانية صارت محط اهتمام الكثير من الأطراف العربية الإقليمية والدولية، ويمكننا إدراج تلكؤ وتأجيل النقاش والتفاوض حول الملف النووي، وكذلك تصريحات المسؤولين الأميركيين حول خروج هذا التفاوض من دائرة اهتمامهم الآن، ضمن سياق اندلاع هذه الانتفاضة وقوة حراكها وصمودها واستمراريتها. ولاقت هذه الانتفاضة تأييداً وتضامنأً واسعين في العواصم والمدن الكبرى الأوربية والأميركية عبر مظاهرات ضخمةٍ ومرموقة. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإدارة الأميركية التي لاتزال مواقفها منها على تعليقات واستنكارات كلامية لقمع السلطة الإيرانية بعنف ووحشية للمظاهرات، منتظرة أن تكون الانتفاضة فرصة لتشكيل عامل ضغط كبير على السلطات الإيرانية لكي تقدم تنازلات وتلبي الشروط الأميركية في مفاوضات الملف النووي. وهذا الموقف المتواضع والخجول ليس جديداً على الحكومات الغربية، فبالتجربة التاريخية، لم تكن يوماً حريصة على الحرية والديمقراطية إلا في داخل بلدانها وليس في خارجها. وكذلك الموقف الأممي منها كان ضعيفاً ويفتقر لخطوات فعالة وداعمة لها.

  تستمد الانتفاضة الإيرانية التي تدور رحاها الآن، أفقها السياسي الواسع وبعدها الاستراتيجي الكبير من تمايزها عن سابقاتها، بشموليتها واستغراقها كامل البر الإيراني وأقاليمه ومدنه، وكل إثنياته ومكوناته، وكامل مذاهبه وطوائفه الدينية. وكذلك تتسم هذه الانتفاضة بطابعها الشبابي والدور البارز للمرأة فيها، ولقد انعكس طابع هذه البنية الثورية على رمزيات الانتفاضة وشعاراتها وأشكال أساليبها النضالية. إن قتل النظام الإيراني لمهسا أميني لم يشكل فقط شرارة للانتفاضة على حجاب المرأة وحريتها في اختيار لباسها، إنما فجر مخزوناً ثورياً عارماً طارحاً بقوة مسألة الحرية برمتها في المجتمع الإيراني. وكذلك رغم تفاقم سوء الوضع الاقتصادي وتدهور القدرة الشرائية للشعب الإيراني إلى الحضيض، نرى ان الانتفاضة لم تطرح نفسها كثورة جياع إنما ركز ثوارها على أولوية مستواها السياسي بوضوح عبر شعاراتها الرئيسية وممارساتها النضالية التي تطالب بالموت للديكتاتور وإسقاط نظام ولي الفقيه وحرق صور المرشد وصور قاسم سليماني، ومشاهد تعبير النساء والفتيات عن حريتهن بخلع الحجاب وقص شعورهن بتحد بارز. وبالإضافة إلى التأييد الواسع للانتفاضة من الشعب الإيراني وقيام الإضرابات في الجامعات والأسواق التجارية والمعامل، وتضامن الكثير من رموز الإصلاحيين معها كان لها انعكاساتها في صفوف الجيش وضباطه ووصلت اختراقاتها إلى داخل البرلمان الإيراني وحتى إلى أسرة المرشد علي خامنئي.

  بذل النظام الإيراني كل ما يملك من وسائل قمعٍ فاشية لكسر شوكة الانتفاضة وحرفها عن مستواها السياسي العالي النبرة، ومن ثم دفعه خوفه إن لم نقل رعبه منها إلى المناورة فأعلن عن حل شرطة الأخلاق في إيران التي اعتقلت الشابة الكردية الشهيدة مهسا أميني ولما لم يعطِ الثوار أذناً صاغية لكلام النظام، راح أحد رموز النظام ليعلن عن ضرورة تغيير نظام الثقافة في إيران، ومن ثم وصلت هذه المناورة التلفيقية للمرشد ولي الفقيه ليعلن عن أهمية دور المرأة في المجتمع وضرورة إشراكها في المناصب وإدارة البلاد. ولما لم يصدق المنتفضون كلام المُجَرَّب منذ أكثر من أربعة عقود، استمروا في شدِ أزرها وعزمها عاد النظام إلى تقليده المعروف، هو الإعدام ونصب المشانق للمتظاهرين من شبابٍ وشابات. في كل الأحوال الانتفاضة الإيرانية إسفين عميق في نظام الولي الفقيه، وإنذار صارخ لمثيلاته من الأنظمة الدينية الاستبدادية وكل حلفائه من الأنظمة المعادية للحرية والديمقراطية.

                                               ثالثاً: تطورات الملف السوري 

أ- في تطورات الأوضاع العامة: 

  مع اقتراب الذكرى الثانية عشرة لانطلاقة ثورة الشعب السوري المجيدة. يسود في جميع مناطق سيطرة الأسد، الفقر والجوع، وحالة من الاضطراب وفقدان الأمن والفوضى وانتشار الجريمة المنظمة والمخدرات، مع وصول الأوضاع الاقتصادية والمعيشية درجة من التردّي والاهتراء غير مسبوقة تنذر بانهيار شامل، بدأت تعكس نفسها بالمزيد من حالات الاختناق والتدهور في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصةً، في مجالات الصحة والتعليم والزراعة والصناعة والتجارة، وفقدان الكهرباء والماء وانعدام المحروقات وتعطُّل وسائل النقل  ومؤسسات الدولة عن العمل، مع ارتفاع جنوني بأسعار السلع والخدمات على خلفية تآكل قيمة الليرة السورية بعد أن وصل سعر الدولار الواحد إلى  حوالي 7000 ليرة. وبالتالي فشل نظام الأسد في توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة البسيطة للسوريين. مع تغول الفساد والإفساد المنظم في بقايا الدولة والسلطة والمجتمع، وعلى النهب الممنهج لميليشياته التي تحولت إلى مافيات مالية للاستيلاء على ما تبقى من مقدرات البلاد، وتحويل مناطق نفوذها الى سوق سوداء معممة، وتحرير أسعار السلع في الأسواق لصالح تجار الحرب، مع مواصلة نهب ومطاردة رجال الأعمال وأصحاب المصالح من تجار وصناعيين وصولاً إلى حرمان المواطن المسحوق من قوت يومه. لكنها تعكس أيضاً من جهة أخرى درجة تفاقم الصراع بين القوى المتدخلة عسكرياً حول مستقبل سوريا ومصير نظام الأسد، الذي أصبحت سلطته مجرد امتداد ومحصلة لهذا الصراع، ودريئةً يختبئ وراءها المتصارعون لتحقيق مصالحهم. وفي ظل هذا التضاؤل غير المسبوق لسلطته وفقدانه القدرة على اتخاذ القرار بعيداً عن مصالح عرابيه. لا يجد نظام الأسد أمامه سوى المناورة لإرضاء الجميع واللعب على تناقضاتهم بهدف إبقائه في الحكم.

ب- في التطورات السياسية:

 يتصدر ملف التقارب بين أنقرة ونظام الأسد واجهة التطورات السياسية. ورغم وصوله لمستوى اللقاء الثلاثي الذي عقد في موسكو برعاية وإدارة روسية كخطوة على طريق اجتماع وزيري الخارجية تمهيداً لقمة تجمع بين الرؤساء، ولا نرى أن هذه الخطوة مفروشة طريقها بالورود، نظراً لطبيعة الصراع وحجم التناقضات بين الطرفين، مع رفض واشنطن والأوربيين لأي تطبيع مع نظام الأسد قبل الوصول لحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254. خاصة وأن الأجندة الروسية هي من تقف وراء تحريك هذا الملف، ومواصلة جذب تركيا إلى جانبها، طمعاً في توطيد الشراكة معها وبناء القواسم المشتركة في محاولة لتخفيف وطأة الحصار والعقوبات عليها.

وإذا كان من جملة أسباب الاستجابة التركية هي الحفاظ على مصالح كثيرة باتت تربط أنقرة بموسكو، فإن هاجس الأمن القومي وضرورة وضع حد للتهديدات القوى الكردية الانفصالية إلى جانب ضرورة التخفيف من أعباء اللاجئين السوريين، يشكّلان مركز الثقل في مواجهة الاستحقاق الانتخابي التركي، بعد أن أدرك بوتين أن فوز أردوغان يصب في مصلحته. أما الأسد الذي ينصاع لرغبة حليفه الروسي، فهو يتعطش لجرعة إنعاش تنقذ نظامه المتهالك تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والعزلة السياسية، ويبحث باستماتة عن كل ما يجنبه المصير المحتوم بعد أن رفض الروس والايرانيون مده بما يخفف من وطأة أزماته الاقتصادية والمعاشية الخانقة، بسبب انشغال كل منهما بأزماته الخاصة.

  وإذا كان من الطبيعي أن تحتشد تظاهرات السوريين في مختلف مدن الشمال للتعبير عن غضبتهم إزاء مشروع المصالحة مع النظام، ويستشعرون الخطر جراء هذا التقارب، ليقينهم أنه لابد أن يكون على حساب قضيتهم، وأنه سيرمي عرض الحائط بتضحياتهم وآلامهم وآمالهم، وهم يتذكرون أن مسيرة الانعطاف التركي ليست جديدة بل سبقتها صفقة حلب الشرقية وصولاً إلى مسارَي أستانا وسوتشي، وانزلاقها الى الحل الروسي الإيراني، رغم معرفة الجميع بأن الحل السياسي يستوجب رحيل نظام الأسد المتوحش. 

ج-في ملف التطبيع ومالاته 

1- يبدو أن تسارع مسار التطبيع بين تركيا ونظام الأسد الذي ترعاه روسيا، قد اصطدم بمعيقات وعقبات عديدة ربما يقف في مقدمتها حالة الاستعصاء التي فرضها تناقض الأجندات واستحالة تسويتها بين القوى المتدخلة في الشأن السوري. إلا أن ما عكسه اللقاء الثلاثي في موسكو بين قادة أمنيين وعسكريين للأنظمة الثلاثة، والذي لا تتعدى حدوده وأهدافه إدارة مفاوضات عقيمة بما تنطوي عليه من مناورة واستكشاف آفاق ليس إلا، لكن هذا المسار استدعى تحركاً سياسياً ودبلوماسياً مكثفاً برز في العديد من اللقاءات والاتصالات بين قادة الدول المتدخلة في الشأن السوري.

 2ـ ولئن عبرت إيران عن سعادتها بالتقارب التركي الأسدي عبر تصريحات عبد اللهيان في دمشق، إلا أنها لم تخف انزعاجها الشديد من استبعادها عن المفاوضات الجارية سواء من قبل حليفتها روسيا أو من نظام الأسد الذي انصاع للإرادة الروسية دون التشاور معها، ولعل هذا ما يفسر ابتزازها للأسد برفضها تقديم قروض مالية جديدة له، وامتناعها عن تزويده بالنفط بالسعر التفضيلي، بل ومطالبته بدفع ثمنه نقداً، إضافة لوجوب تسديد ديونه المتأخرة، إلا أن ما يوضح عمق استياء طهران من سلوك الأسد وصب جام غضبها عليه، هو أن الأخير لم يضعها في المكانة اللائقة بها في حساباته، والتي تفرض عليه أن لا يقدم على أية خطوة من دون إذنها وأخذ دورها ومصالحها كأولوية في اعتباراته، فتحركت بسرعة لعرقلة التفاهم الروسي التركي حيث تعتقد أن هدف هذا التفاهم إبرام تسوية مشتركة في الشمال السوري بين الأطراف الثلاث دون اعتبار لمصالحها، الأمر الذي يعكس استخفافا بدورها واستبعادها من بازار المقايضات المطروحة، وقد وجدت ضالتها في معاقبة الأسد مع تحذيره بضرورة ضبط تحركاته وموازنتها في ضوء ارتباط مصيره بالمصلحة العليا لإيران. 

 3-جاءت تصريحات الأسد التصعيدية بعد لقائه الوزير الإيراني لامتصاص غضب إيران، إلا أن طرح اشتراطاته التعجيزية كأساس للتقارب مع أنقرة، دفع الأخيرة لرد تصعيدي مقابل، بأن التطبيع معه ليس خيارها الوحيد، وأن العمل العسكري مازال مطروحا على الطاولة، وذهب مستشار أردوغان أبعد من ذلك عبر التهديد بالسيطرة على حلب لتأمين عودة مليوني لاجئ سوري إليها، كما أن هذا التصعيد الأسدي سيستدعي مزيداً من الضغوط الروسية عليه للقبول بالمقترح الروسي بتوسيع اتفاق أضنة كأساس للتقارب، ومن المرجح أن يكون استياء موسكو من التحرك الإيراني ودورها لعرقلة مشروعها وتعطيل جهودها الخاصة، سبباً في عدم حماسها لاستقبال عبد اللهيان، وخاصة أن الأسد استغل ضغوط الحليف الايراني في مواجهة الضغط الروسي الذي فرض عليه التقارب مع تركيا على الضد من حساباته، والخوف على سلطته، وفي هذا السياق جاء رفضه الاستجابة لدعوات روسيا وتركيا للاتفاق على موعد المرحلة الثانية والمتضمن عقد اجتماع بين وزراء خارجية.

4ـ كان من الطبيعي أن يستدعي التحرك الروسي في الملف السوري تحركاً أمريكياً مضاداً، فقد جدد البنتاغون رفضه القاطع لأية عملية عسكرية تركية، كما أعلنت وزارة الخارجية رسمياً رفضها لكل اشكال التطبيع مع الأسد، وتعمل على تشديد القيود عليه، وكان أخرها “قانون مكافحة مخدرات الأسد” الذي حوَّل الأسد من رئيس دولة إلى زعيم عصابة لتهريب المخدرات وسيكون مطلوباً دولياً، مغلقةً الباب على أية فرص للتطبيع معه أو لعقد أي نوع من الاتفاقات والتسويات، و الملاحظ أن إدارة بايدن رغم قلة تصريحاتها في الشأن السوري إلا أنها تعد العدة لاستباق التطورات، وتعمل على إعادة ترتيب تواجدها العسكري والسياسي في شرق الفرات وفي قاعدة التنف خصوصاً، وما تزال تؤكد على توجهها بإغراق روسيا وإيران ونظام الأسد في المستنقع السوري كما عبر عنه السفير جيمس جيفري، مع مواصلة السعي لاحتواء تركيا وتحذيرها من مغبة الذهاب بعيداً في تورطها مع الروس أو من خرقها للعقوبات المفروضة على نظام الأسد.

وطالما لم تظهر أية مؤشرات على تفاهمات جديدة بين واشنطن وأنقرة بعد مباحثات وزيري خارجيتهما، واكتفى البيان المشترك عن هذا اللقاء بإعادة التأكيد على العملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254، مع مواصلة التنسيق في محاربة الإرهاب. فمن المرجح عدم وجود مقايضات راهنة في الملف السوري، وسيبقى يواجه المزيد من التعقيدات كما أن تراجع الحماس الذي فرضه تباعد الرؤى وتناقض المصالح قد يفتح الباب واسعاً أمام تصاعد الصراع واحتدامه بين الدول المنخرطة في الصراع على سورية.

د-تطورات القضية السورية في المستجدات الدولية   

من الأسئلة التي ستطرح نفسها بحدّة عن مدى تأثير تلك التحولات في المنطقة العربيّة، وخصوصاً في الوضع السوري، حيث أن نظام الأسد يدين بكلّ شيء، بما في ذلك بقاء بشّار الأسد في السلطة، لدعم موسكو وطهران.

بغزو أوكرانيا، انهارت التوافقات السابقة في سوتشي والقدس وتفويضات الولايات المتحدة لروسيا بالشأن السوري، بل أصبحت هزيمة بوتين، هدفاً للولايات المتحدة. تضغط على دول الإقليم، بما فيها إسرائيل، لحسم التحالفات الإقليمية وتكون الأولوية للولايات المتحدة. فـ”إما معنا أو ضدنا”.  كما أدى انسداد الأفق أمام المَخرَج العسكري المشرّف لبوتين إلى إضعاف القوة الروسية بشكل استراتيجي. فلم تعد روسيا تملك القدرة حتى على دعم نظام الأسد في أزمته الاقتصادية، مما يخلق فراغاً استراتيجياً. يغري أردوغان للتفكير بما بعد روسيا، وتحضر إسرائيل لتصعيد إقليمي أبوابه العربية مفتوحة. وعلى إيقاع هزيمة الروس تتحرك القوى الدولية في سورية بحذر ولكن بثبات، ليصبح احتمال اشتعال الخطوط قضية وقت. 

   أمام هذا الواقع، لا تزال سياسة إدارة بايدن، تجاه القضية السورية غامضة. فباستثناء البيانات والنوايا الحسنة، لا نجد لديها حتى الآن أي خطة أو رؤية تجاه هذه القضية. وقد ألحق التردد والتقلب الأميركي الطويل، ضرراً كبيراً بالسوريين وقضيتهم وبالمنطقة وحتى بأميركا ومصداقيتها. وهي تترك العنان للتفاعلات الإقليمية والسورية، لعل حراك الوقائع يفرز جديداً يمكن البناء عليه. وهي تدرك، أن الأحداث المتسارعة ستقحمها قريباً في الصراع.  

     صحيح أن لا حرب في سورية من دون القوى المحتلة، وأن لا سلام فيها، من دون السوريين. لكن السوريين هم الحلقة الغائبة في الصراع، وفي ظل استمرار غيابهم، تبقى قضيتهم على رف القضايا المؤجلة. أو تعمد القوى الدولية لخياطة الجرح السوري بقيحه، وبعيداً عن مصالحهم وطموحاتهم بالحرية والكرامة والعدالة، وهذا يعني عودة الصراع إلى المربع الأول، لتعاود دورة العنف والتفكك من جديد. ومع ذلك، يبقى السوريون هم الغائب الحاضر، وقبل فوات الآوان، يحتاج السوريون إلى بديل وطني. يتمسك بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ويتمسك بأهداف الثورة والقرار الوطني المستقل وصياغة عقد اجتماعي جديد للشعب السوري. 

دمشق 21 شباط 2023

                                                                         اللجنة المركزية 

                                                   لحزب الشعب الديمقراطي السوري