زياد ماجد

تتسارع منذ أشهر وتيرة التطبيع السياسي بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. فبعد الإمارات والبحرين، تبدو اليوم السعودية والسودان على مقربة من خطوات اعتراف ديبلوماسي بتل أبيب أو تبادل زيارات وبحث في تعاون ثنائي أمني واقتصادي معها. وإذا كان في توقيت القرارين الإماراتي والبحريني (غير المفاجئين) ما وشى بمحاولتين بائستين من أبو ظبي والمنامة لدعم حملة دونالد ترامب الانتخابية في شوطها الأخير، فإن في السعي السعودي والسوداني راهناً ما يرتبط بمحاولات تبييض صفحة وليّ عهد الرياض أمريكياً (في جريمة قتل الصحافي جمال الخاشقجي) من جهة، وجذب استثمارات بعد رفع عقوبات واشنطن عن الخرطوم مؤخّراً من جهة ثانية.
على أن مسألة التطبيع هذه تتطلّب، بمعزّل عمّا يعكسه توقيتها من مضامين سياسية وقانونية وأخلاقية، نقاشاً حول ما يُثار من مقولات تبريرية لها في بعض الدوائر السياسية والثقافية العربية، وتحديداً التي تعدّ نفسها معنية بقضايا الديمقراطية والحرّيات العامة والخاصة وحقوق الإنسان.
ذلك أن بعض المبرّرين يعتبرون أن في التطبيع ما سيقضم مع الوقت ثقافة الابتزاز بالقضية الفلسطينية واستغلالها في الخطاب الغوغائي لأنظمة “الممانعة” الإقليمية وتيّاراتها تغطيةً على جميع الموبقات والجرائم التي ارتكبتها الأنظمة والتيارات تلك بحقّ المجتمعات والأفراد منذ أن ساد شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. كما أنه، أي التطبيع، سيكون مقدّمة لتقليص الموازنات العسكرية التي استنزفت الاقتصادات الوطنية في أكثر من بلد على حساب التنمية البشرية، بما يحجّم أجسام الجيوش والأجهزة الأمنية والمخابراتية الممسكة بمفاصل الدول منذ عقود، وغير القادرة في أي حال على مجابهة إسرائيل.
وإذا صحّ ما ورد، فهذا يعني بعِرفهم بدءاً لتحوّل سياسي قد يُفضي إلى شكل من أشكال الديمقراطية، أو على الأقل قد يتيح نشوء ثقافة سياسية في المنطقة متحرّرة من أعباء وقيود كبّلتها طويلاً ومنعت عنها رؤية العالم الواسع وفهم ما فيه بعيداً عن عدسة القضية الفلسطينية الضيقة وابتذالات المتاجرة بها.
لكن التدقيق بالمقولات المذكورة يُظهر، رغم صحّة تشخيصها لمنطق الممانعة ومراميها، تهافتها في ما يخصّ تداعيات التطبيع ونتائجه. فمصر مثلاً، التي سبقت الجميع إلى التطبيع مع إسرائيل متذرّعة بعبء الصراع الذي انخرطت في ثلاث من حروبه – على العكس من الدول المطبّعة مؤخّراً التي لم تكن مرّة طرفاً مباشراً في جهده الحربي – لم يتعدّل سلوك نظامها في ما خصّ قمع الحرّيات، ولم يتراجع دور المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات فيها ولا تغيّرت بنية موازناتها لتسمح بقيام التنمية المنشودة. والأرجح أن الفساد تضاعف في إداراتها بعد كامب دافيد ثم طيلة العقود الثلاثة من عهد حسني مبارك والضبّاط ورجال الأعمال المرتبطين به. وانتهى الأمر اليوم في عهد السيسي بأن حلّت شعارات الاستقرار والأمان وحماية الحدود ومكافحة التطرّف مكان “سيادة صوت المعركة” لتسحق الحرّيات وتكسب دعماً أو صمتاً غربيّاً تدجّجه صفقات سلاح وتنسيق أمنيّ حرصاً على “الدولة المسالمة مع إسرائيل”.
وإذا نظرنا في أحوال البحرين والإمارات، لوجدنا مفارقات تُبعد كل المقولات التي ترى التطبيع سبيلاً إلى “التحرّر من الابتزاز” أو منطلقاً لديناميات وعلاقات جديدة عن أي مقدار من الوجاهة. فالاستبداد في البحرين يبحث عن استقواء بأمريكا وإسرائيل يغطّي على كل انتقادٍ لانتهاكاته المستمرة بحقّ معارضيه الموسومين بالعمالة لإيران. والسياسات الإماراتية الإقليمية، المتدخّلة في اليمن وفي ليبيا والسودان والقائدة منذ العام 2013 لدفّة الثورات العربية المضادة، تريد تكريس تقدّمها في المنطقة (في مواجهة منافسيها في الدوحة وأنقرة) عبر نيل التبنّي أو الغطاء الأمريكي من نافذة التطبيع مع تل أبيب. وليست مصادفةً أن يأتي تطبيعها هذا بعد مدّة قصيرة من تطبيعها مع نظام التوحّش الأسدي “الممانع”، لتكون الدولة العربية الأولى التي تعيد فتح سفارتها في دمشق بعد إقفال، في وقت لم يكن من سفارة عربية مستمرّة في أعمالها بلا انقطاع هناك غير سفارة البحرين إياها، المطبّعة اليوم!
وإن بنينا على مبدأ نيل الرضا الأمريكي من خلال التطبيع مع تل أبيب، سيبدو منطقياً ما يُشاع عن تشجيع الإمارات لنظام الأسد للسير بخطوات مشابهة تُعيد تعويمه دولياً رغم كل المجازر التي ارتكبها في سوريا. وقد تكون العقبة الرئيسية التي تحول دون الأمر حتى الآن إيرانية، لحضور طهران العسكري والسياسي الوازِن المباشر أو عبر الحلفاء، داخل الأراضي السورية.
وبالعودة إلى توقيت التطبيع الإماراتي والبحريني وإلى احتمالاته المتزايدة سعودياً وسودانياً، يفيد القول أيضاً إن محاولة دعم دونالد ترامب وما يمثّله من شعبوية وعنصرية وعداءٍ لفلسفة الديمقراطية عبر تجيير إنجاز في السياسة الخارجية له عشية الانتخابات، والسعي لكسب دعم نتنياهو وما تجسّده حكومته من نزعات فاشية تضاف إلى عنصريّتها وانتهاكاتها المستمرّة في الأراضي المحتلة، لا يوحيان بأن للفعل التطبيعي علاقة بأيّ تحوّل “إيجابي” ممكن في الثقافة والقيم السياسية للقائمين به. بل العكس هو الأصحّ. وحتى التحجّج بإيران وسياساتها العدوانية في المنطقة – وهي بالفعل مبعث خطر كبير على الاستقرار في أكثر من بلد – لا يُجدي في شيء، إلّا إن ظنّ البعض أن مجرّد الالتصاق بتل أبيب سيقيه من التهديد الإيراني وسيحوّل الإسرائيليين إلى متطوّعين لحراسة حدوده.
بهذا يمكن القول إن التطبيع لا يشكّل في الظروف الحالية إلا ترسيخاً لثقافة استبداد وفساد وتسابق على صفقات التسلّح وإنفاق على بسط النفوذ. وهو بالتالي صنو الممانعة في ريائها وابتذالها، إذ مقابل استخدامها صراعها الافتراضي مع إسرائيل لتكريس حُكم أنظمتها ومخابراتها فوق جماجم ضحاياها، يلجأ هو إلى استخدام طي صفحة الصراع لتعزيز سطوة أنظمته وتبييض ممارساتها. وكلّ ذلك تمّ ويتمّ على حساب العدالة والتنمية والديمقراطية وحقوق الفلسطينيين وسائر مواطني هذه المنطقة.