على مدى الأسابيع الستة المنصرمة، وخاصة بعد إنفاذ قانون قيصر، كثّفت موسكو تحركها على الصعيدين العسكري والدبلوماسي بالتوازي. كان في مقدمته التصعيد العسكري المفاجئ في محيط إدلب وسهل الغاب وجبل الزواية وعلى تلال “الكبّانة” في ريف اللاذقية، كرسالةِ تهديد مبطن، للانقلاب على اتفاق آذار مع تركيا، ثم في عودة جديدة إلى سياسة تبادل الرسائل النارية معها، عبر قصف مناطق خارج الاتفاق وتخضع للنفوذ التركي وخاصة في مدينتي الباب وعفرين. وعلى الصعيد السياسي أطلقت موسكو حملةً دبلوماسية بعقد مجموعة من اللقاءات والاجتماعات مع ممثلين عن الطوائف والقوميات وحتى مع وجهاء القبائل التي يتنافس على كسب ودّها عدد من القوى الإقليمية والدولية. لا يمكن بأي حال تفسير هذا التحرك الروسي المتسارع ومعرفة دوافعه إلا وفق منظورين اثنين، الأول: هو محاولة كسر الحلقة المفرغة التي وضعهم داخلها قانون قيصر مهدداً بالإطاحة بما حققوه من مكاسب، والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالحهم. أما الثاني: فهو يعكس نيةً مبيّتة لإعادة خلط الأوراق وشراء الوقت بانتظار نتائج الانتخابات الأميركية، والبحث عن زوادة سياسية يمكن وضعها على طاولة اللجنة الدستورية التي ستعمل بوحي من موسكو لوضع أسس “فيدرالية الطوائف” بوصفها الحل الأمثل لما تراه موسكو من حرب أهلية بين مكونات الشعب السوري، إمعاناً في تقسيمه و تشتيته، وتسويقه للرأي العام وخاصة الأوروبي كدليل على جدية الخطوات الروسية نحو الحل السياسي وفق رؤيتهم.

        

          منذ تدخلهم العسكري في سوريا -بتفويض أمريكي وموافقة دولية-تتعزز قناعة الروس بنجاعة منهجهم الذي يقوم على أن كل إنجاز سياسي يتم انتزاعه بالقوة الغاشمة، يستوجب البناء عليه واستكمال نجاحه استخدام المزيد من القوة. وأن كل فشل أو إخفاق في التقدم على المسار السياسي كتتويج للجهود العسكرية، لا يمكن تجنبه إلا باعتماد أسلوب الرعب والصدمة. واستطراداً، يكون الحفاظ على “الإنجازات والانتصارات” الميدانية التي تم كسبها على دماء السوريين، عبر جرعات جديدة من التوحش والأرض المحروقة. حصل ذلك مراراً وتكراراً في حلب الشرقية وفي درعا، وسائر أرياف دمشق وحمص وحماه تحت تسميات مختلفة. وأصبح المسار السياسي في القاموس الروسي لا يعني سوى الحل العسكري، الذي يستهدف قتل المدنيين وتدمير شروط حياتهم.

 

         الغرور العسكري الروسي، ليس سوى الوجه الآخر لآفة القصور السياسي التي ابتُلي بها زعيم الكرملين، والتي لم تعد تقتصر على قصور في الرؤية السياسية وأدواتها فحسب، بل أظهرت قزامة النظام المافيوي الروسي أمام اللاعبين الدوليين الكبار، وكشفت مستوىً من الهشاشة والركاكة حتى على صعيد قدرته على حماية المصالح الاستراتيجية للدولة الروسية. تجلى ذلك بوضوح في الإصرار على الإنكار والتنكر لحقائق الأزمة السورية ومجريات الصراع حولها، وهو بالضبط ما يعقّد مساعي موسكو ويضعها مرة تلو المرة في خانة الفشل الذريع. لكن تطورات الصراع على سوريا وتعقيداته، بسبب تناقض المصالح وتضارب الأجندات للأطراف المتدخلة، وعلى رأسها جيوش الاحتلال المباشر، مع تراجع ملحوظ في قدرة موسكو على التوفيق بينها، لابد أن يلقنها درساً جديداً، ويضعها أمام حقيقة تفقأ العين، بأنها لن تكون الطرف المقرر، وبأن أي حل سياسي للأزمة المستعصية من دون موافقة الأطراف الأخرى وتحقيق مصالحها لن يكون له فرصة للحياة.

 

     التصريحات الأمريكية المتوالية، على لسان “جيمس جيفري” ومطالعاته المتكررة عن أهداف وآفاق قانون قيصر، والتي تندرج في مجملها تحت عنوان ” الغموض البنّاء”، حملت المزيد من الرسائل والإنذارات لم يهمه الأمر، لكنها وضعت الدور الروسي في خانة “اليَكْ”، ورفعت من منسوب القلق والتوتر لدى موسكو، بعد أن أدركت نصيبها من هذا الاستهداف الجديد، وأشعرتها بوطأة الدور الأمريكي الثقيل الذي وضع حداً لمناوراتها في اللعب على التناقضات، وقلص من قدرتها على العمل خلسةً لزرع وقائع جديدة بهدف إنجاح استراتيجيتها القديمة في إعادة إنتاج سلطة الأسد مع بضع المخادعات وعمليات التجميل، كما أن إنفاذ قانون قيصر أبرز قدرة واشنطن على التأثير المباشر على مصالحها، وجعل من الدور الأمريكي كابوساً يقضُّ مضاجع الروس ويدفعهم للتحرك سريعاً هرباً من حصار محكم نحو مزيد من التخبط  وردود الفعل للخروج من الحلقة المفرغة والعودة للنهج القديم ولو من باب المجازفة  للانقلاب على تفاهمات لا تضمن مصالهم، والتهديد بقلب الطاولة على أطراف تم التوافق معها، وأصبح التمادي في خرقها مصحوباً بالكثير من المخاطر.

 

     كثيرةٌ هي المؤشرات التي تبديها موسكو لتعطيل إنجاح الحل السياسي رغم ادعائها المعاكس، لاسيما أن الأمريكان أعربوا عن عدم استعدادهم للتفاوض معهم حول الملف السوري، وبالتالي رفضهم لعقد صفقة تمكن الروس من بيع الأسد مقابل تنازلات أمريكية حول ملفاتهم الحيوية في سورية وخارجها ، يضاف إلى ذلك عدم توفر ضمانات غربية بخصوص إعادة الإعمار التي علقها قانون قيصر لأجل غير مسمى، وأمام انسداد الآفاق ، لم يبقَ لدى موسكو من خيار سوى العودة إلى سياسة تبادل الرسائل النارية مع تركيا، والتهديد بتحريك ملف إدلب عسكرياً للانقلاب على اتفاق آذار، بدأتها بالقصف المركز في معظم مناطق الاتفاق رغم إدراكها العميق بأن هذه الورقة ليست مضمونة النتائج، بل هي مغامرة محفوفة بالكثير من المخاطر والخسارات الاستراتيجية التي قد تطيح بكل ما سعت إلى تحصليه من نفوذ ومكاسب.