بروكار برس:10/4/2020
بينما ينهمك النظام السوري بصناعة بيانات يتبرّأ فيها من أنفاس السوريين التي خطفها خنقاً بالكيماوي حسبما أثبت تقرير جديد صادر عن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، تنهمر دموع أم وأبٍ أقعدهما فراق وحيدهما يائسين في بلاد النزوح، وزوجة مع أطفالها الأربعة تحكي لهم كم كان والدهم عظيماً، وكيف مات بهجومٍ قديمٍ لقوات النظام أعاد تقرير المنظمة بعثه مجدّدا ليبدو وكأنّه وقع الآن، مع فارقٍ يكمن بتحديد هوية القاتل.
في الخامس والعشرين من آذار/ مارس 2017، كان الطبيب علي الدرويش في غرفة عملياتٍ جراحية تحت الأرض بعمق نحو 20 متراً، يؤدّي عملية جراحية لأحد المصابين بقذائف النظام، قبل أن تقصف المستشفى مروحيةٌ تابعة للأخير ببرميل يحتوي على غاز الكلور السام.
في “المستشفى المغارة” المحفور تحت الأرض اتّقاءً لصواريخ النظام وبراميله، كانت حالة الكادر الطبي والمراجعين مأساوية، لقد تسرّب الكلور السام بينهم، وسادت الفوضى والصراخ واستجداء السماء، هناك من كان يركض دون وعي للنجاة بروحه، ومن يحاول تنبيه الآخرين للخطر القادم. كلّ ذلك كان خارج غرفة العمليات الجراحية التي تسرّب إليها الغاز السام، وفقاً لشهود.
وفي ذلك الجو الممتلئ بالضجيج، تنبّه مساعد الطبيب لما يجري، وأخبره بذلك لكنّ الأخير أصرّ على إتمام العملية، كانت الدماء تغطي قفازيه وهو يحاول إنقاذ المصاب.
لم يخرج الطبيب علي من غرفة العمليات على الفور، لقد تأخّر لينقذ روحاً من الموت، لكنّ الغاز كان قد ملأ رئتيه وتمكّن منه.
“أسعفونا إلى مستشفى مدينة كفرزيتا المجاورة، وكانت حالة الطبيب علي هي الأسوأ، فتقرّر إسعافه شمالا لكنّه توفي على الطريق، لقد خنقه كيماوي الأسد”، يقول أحمد السلوم وهو من الكادر الطبي الذي شهد القصف بتفاصيله الدقيقة وكان أحد ضحاياه الناجين.
ويضيف في حديث لـ بروكار برس، أنّ أهوال ذلك اليوم تشبه الكابوس الذي يلتصق بالذاكرة، ويكبر فيها على مهله بعيداً عن نعمة النسيان، مترحماً على الطبيب علي “المحبوب والطيب”.
وأول أمس الأربعاء 8 نيسان/ أبريل، أصدرت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تقريرها الذين يحمّل لأول مرة، النظام مسؤولية 3 هجمات كيماوية استهدفت بلدة اللطامنة في ريف حماة، خلال أيام 24، و25، و30 آذار/ مارس 2017، لكنّ النظام وروسيا سارعا كعادتهما إلى نفي ما خلصت إليه لجنة التحقيق، وانهمكت وسائل إعلامهما بصناعة عناوين تشير إلى قيام الأهالي والفصائل بقصف أنفسهم بالكيماوي مرارا وتكرارا دون أن يقصفوا به ولو مرة واحدة عدوّهم (النظام)!
ووفقاً للمنظمة فإنّ 106 أشخاص تضرّروا في الهجمات الـ 3 على اللطامنة.
عائلة الطبيب تعيش مرارة الفقد ووجع التذكر
فتح التقرير الصادر عن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية جراح عائلة وأصدقاء الطبيب علي، فلم تمر أسابيع على الذكرى الثالثة لوفاته، حتّى صدر التقرير، واستصدر في نفوس أهل الطبيب ذكراه مجدداً، “لقد قتله النظام بالكيماوي حمداً لله أنّ العالم أقرّ بذلك”، يقول ابن عمه حسن الدرويش لـ بروكار برس.
ويضيف: بين الحين والحين، تتفتّح في صدورنا جراح الفقد، لقد كان الشهيد ابن عمي وأخي الأكبر، وعزاؤنا أنّه استشهد واقفا وهو ينقذ روحاً أخرى في أكثر الأماكن خطراً.
وعن أهل الطبيب، يوضّح الدرويش أنّ والده طريح الفراش حزناً على وحيده، وأمّه ما فتئت تبكي ذكرى ابنها الذي اختطف كيماوي الأسد أنفاسه وهو الولد الوحيد (من الذكور) والأب لأربعة أطفال، والمعيل الوحيد لهم ولعائلة شقيقته التي قتل زوجها على يد النظام أيضا.
أكّد الدرويش أنّ ابن عمّه رفض كلّ عروض العمل في تركيا وغيرها، واختار البقاء في مستشفيات ريف حماة حيث ولد ودرس وعرفه الناس وأحبوه, كما أنّه ورغم الهجوم بالكيماوي على اللطامنة ذاتها قبل يوم واحد من الهجوم اللاحق، لم يترك العمل ويذهب ليرتاح بعيداً عن الخطر.
ليست المرّة الأولى
والطبيب علي من مواليد مدينة كفرزيتا 1977م، مختصّ بالجراحة العظيمة، وتذكر مديرية الصحة في حماة على موقعها الرسمي، أنّ الطبيب عمل في مستشفى المغارة في كفرزيتا تطوّعاً منذ بداية التدخل الروسي واشتداد القصف وما خلّفه من قتلى وجرحى.
ووفقاً للمديرية التي أكّدت أنّه بقي صامداً في غرفة العمليات بوجه الغاز السام، فإنّ الطبيب تعرض لموقف شبيه حين تم قصف مستشفى كفرزيتا التخصصي، وآنذاك رفض الخروج والمريض تحت العملية وكُتبت له النجاة.
أمنية محبّيه
تعدّدت مصادر بروكار برس للحديث عن يوم كيماوي اللطامنة، وعن الطبيب الذي مات واقفاً، لكنّ الأمل كان واحداً، فجميعهم فرحوا بما توصّلت إليه لجنة التحقيق، معربين عن أملهم في أن يدلوا بشهاداتهم ضدّ رأس النظام السوري بشار الأسد وهو قابع في قفص العدالة، يواجه أسماء قتلاه خنقاً بالكيماوي أو تعذيباً في المعتقلات، أو تشظيّاً بالبراميل المتفجّرة أو حزناً وقهراً.
وتكمن أهمية ما توصّل إليه التحقيق بشأن هجوم اللطامنة في أنّه يعدّ إدانة سياسية مبرمة ضدّ النظام، ويقطع الطريق أمام أي محاولة لتعويمه، علاوة عن كونه أداة اتّهام قضائية مستقبلاً، كما أنّ العالم لن يتهاون مع مستخدمي السلاح الكيماوي لأنّ ذلك معناه “منح المجرمين ضوءا أخضرا لاستخدامها ببساطة على نحو واسع وهذا يعني تهديدا للعالم كله. لذلك لن يكون هناك أي تهاون أو تسامح من المجرمين الذين يستخدمون هذا السلاح”، وفقاً للمحامي أنور البني.