مركز حرمون للدراسات
6 /7 / 2020
أولًا: مقدمة
تناقلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، في الأسبوعين الأخيرين، أخبارًا عن لقاءين منفصلين عقدهما مسؤولون روس مع جهات “معارضة”، لبحث الملف السوري، وسُبل تسهيل إنجاز حلّ سياسي يستند إلى القرار الأممي رقم 2254 لعام 2015. في اللقاء الأول، اجتمع ميخائيل بوغدانوف (معاون وزير الخارجية الروسية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) في العاصمة القطرية الدوحة، بالشيخ معاذ الخطيب، الرئيس السابق لائتلاف قوى الثورة والمعارضة؛ وفي اللقاء الثاني، اجتمعت مجموعة، سمّت نفسها “علويون مؤثرون”، في 15 حزيران/ يونيو الجاري، بسيرغي ميشين (رئيس البعثة الروسية للأمم المتحدة في جنيف) للهدف ذاته: بحث سُبل السير في الحل السياسي للصراع الدائر في سورية. وقد تحمل الأيام القادمة أخبارًا عن لقاءات أخرى، في الداخل السوري أو في الخارج، في السياق والهدف نفسيهما. وقد أثارت هذه اللقاءات، بغض النظر عن النتائج التي تمخضت عنها، كثيرًا من الأسئلة والتكهنات، حول دوافع التحركات الروسية في هذا التوقيت، وتزامنها مع سريان تطبيق “قانون قيصر” الذي سوف يزيد تداعي الاقتصاد السوري الذي يقف على شفا الانهيار لافتقاده مقومات الثبات، بسبب الحرب التي شنها نظام الأسد على الشعب السوري، وبسبب الفساد المنهجي والمديد. وتذهب بعض التحليلات والمتابعات إلى الاستنتاج بأن هناك تفاهمًا ما، بين الروس والولايات المتحدة، حول تطبيق القرار الأممي المذكور أعلاه، في حين تعزو تحليلات أخرى هذه التحركات إلى وجود قلق روسي من التطورات الأخيرة، ومنها “قانون قيصر” وانعكاساته على المصالح الروسية المتوخاة من تدخلها في سورية، على المستويين الاقتصادي والسياسي، الأمر الذي يدفع القيادة الروسية إلى محاولة إنجاز حلّ سياسي يتوافق -قدر الإمكان- مع رؤيتها للحل، في إطار القرار 2254، ويضمن استمرار مصالحها في سورية. وأيًا كانت بواعث التحركات الروسية؛ فإن السؤال الأهمّ -في ظل تعقيدات الصراع وتعدد الدول المتدخلة واختلاف أجنداتها وأهدافها وقدراتها على التأثير- يدور حول حظوظ التحركات الروسية من النجاح.
ثانيًا: طبيعة التحركات الروسية وممكناتها
إن متابعة اللقاءات الأخيرة، في ضوء غياب المعلومات الدقيقة، حول ما عرضه الروس وما سمعوه، وحول غرضهم من هذه المداخل غير المؤثرة في مجريات الصراع، تُحيل إلى التخمين والربط والاستنتاج أكثر ممّا تحيل إلى التحليل والتقرير، وإن معرفة المعطيات التي رافقت كلًا من اللقاءين وردود الأفعال حولهما تساهم في بناء استنتاج منطقي ومقبول.
أ – لقاء بوغدانوف – الخطيب
في 23 حزيران/ يونيو الجاري، اجتمع ميخائيل بوغدانوف (نائب وزير الخارجية الروسي لشؤون الشرق الأوسط، والمسؤول السابق عن الملف السوري لدى الإدارة الروسية)، في مدينة الدوحة، مع معاذ الخطيب ذي التوجه الإسلامي وذي العلاقة الوطيدة بتجار دمشق، الذي ترأس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة خمسة أشهر، بين عامي 2012 و2013.
لم تُعلن تفاصيل ما دار في الاجتماع، لكن هناك تسريبات لا يمكن الركون إليها، حيث أصدرت حركة “سورية الأم” التي يرأسها الخطيب بيانًا مقتضبًا وعموميًا، قالت فيه: “إن اللقاء استعرض مسيرة الحل السياسي، وفق آليات القرار 2254 لعام 2015″، بينما ذكر آخرون (من دون توثيق) أن “التركيز في اللقاء كان على جانبين: الأول يتعلق بشكل المرحلة الانتقالية التي ينصّ عليها القرار الأممي؛ والثاني حول تحديد شكل الدولة القادمة أمركزية هي أم فدرالية”، وفي هذا السياق، نقل الناشط الحقوقي السوري فراس حاج يحيى، على صفحته في (فيسبوك)، ما وصفه بأنه “معلومات” تلقاها من مصادر لم يسمّها حول الاجتماع، تفيد بأن الروس عرضوا على الخطيب “رئاسة حكومة وحدة وطنية (واسعة الصلاحيات وليست كاملة)، مع بقاء بشار الأسد في الرئاسة، وحقه بأن يرشح نفسه مرة واحدة فقط، ومع تمسك الروس ببقاء الأجهزة الأمنية”، وتابع أن الخطيب “لم يوافق على هذا الطرح، بل قدّم ملاحظات وطلبات، لتُدرس من قبل الجانب الروسي”، وقد قيّم حاج يحيى اللقاء -وفقًا لمصادره- بأنه “كان ذا طابع تفاوضي، لا حواري”، إلا أن الخطيب ردّ على مجمل المعلومات التي نشرها حاج يحيى وغيره، حول ما دار في اللقاء مع بوغدانوف بالقول : إن “نصف الأمور خطأ”، ويقصد المعلومات المتداولة، وأضاف أن “النقل عن مجهول لا قيمة له”، وعلى الرغم من أن الخارجية القطرية لم تشارك ولم ترعَ اللقاء، لأسبابها الخاصة، فإن وكالة الأنباء القطرية (قنا)، قد نقلت أن “نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدولة لشؤون الدفاع خالد بن محمد العطية، التقى بوغدانوف، وجرى خلال اللقاء استعراض العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تعزيزها وتطويرها”، لكن لماذا اختار بوغدانوف الدوحة؟! ربّما لعلاقاتها الجيدة بالإسلاميين السوريين، أو ربما طلبًا لمساعيها الحميدة في تخفيف التوتر المتصاعد بين روسيا وتركيا، على خلفية الصراع الدائر في ليبيا، وربما تكون هناك غايات أخرى.
وفي السياق ذاته، جاء في بيان وزارة الخارجية الروسية بخصوص اللقاء أن “اللقاء جرى خلال زيارة عمل يقوم بها بوغدانوف إلى الدوحة”، وأنه “تم خلال اللقاء تبادل مفصّل لوجهات النظر، حول الوضع الحالي في سورية وحولها، مع التركيز على آفاق التسوية السياسية للأزمة في البلد وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي”.
إن بيان الخارجية الروسية، حول اللقاء، يدل على أن المسؤول الروسي اختار الخطيب والاجتماع به، لجسّ نبض الإسلامين السوريين حول التحركات الروسية، لتسهيل إيجاد حل سياسي، يشاركون فيه وفقًا للتصور الروسي للحلّ الذي لا يبدو أنه تغير عما كان عليه منذ العام 2012، الحل الذي يُبقي الأسد والأجهزة الأمنية عنصرين أساسيين وثابتين في أي ترتيبات قادمة. فالروس على دراية بأن الخطيب ليس مفوضًا من أحد، وأنه لا يشغل موقعًا يُبرر لقاء مسؤول بهذا المستوى معه في الدوحة، للبحث ليس في الوضع الحالي في سورية بل “حولها”، ونظرًا لأن الخطيب لم يحصل على موافقات أو تفويضات من الإسلاميين، على ما يبدو، فقد جاء بيان الخارجية الروسية ليقلل من قيمة اللقاء ومدلولاته، بالقول إنه جاء على هامش “زيارة عمل” لبوغدانوف إلى الدوحة، لم يكشف عن طبيعتها، وربما يؤكد ذلك ما قاله المحلل الروسي أندريه أونتيكوف، لموقع (المدن): “لا مجال للحديث عن تغيير في الموقف الروسي تجاه القيادة السورية”، وقد أضاف أن “روسيا أكدت مرارًا أن سورية حليف إستراتيجي، وأن اللقاء الأخير مع الخطيب ليس الأول من نوعه، فقد زار موسكو عام 2014، وتحدث في مقالة له حينذاك (هل تشرق الشمس من موسكو) عن لقائه بوغدانوف وسيرغي لافروف”.
ب – بيان من قبل شخصيات علوية
صدر توضيح من قبل الناشط عيسى إبراهيم، حول اجتماع جرى بتاريخ 15 حزيران/ يونيو 2020 لمدة ساعتين، مع رئيس البعثة الروسية لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف، ردًا على ما قال إن ما نشره مسهّل اللقاء ليس دقيقًا لما جرى في اللقاء، على الرغم من الاتفاق مسبقًا على عدم النشر، ويؤكد التوضيح أن “الشخصيات السياسية التي حضرت اللقاء تعتز بهويتها الفرعية العلوية، مع وضعهم الانتماء الوطني أولًا، وأن اللقاء كانت بغاية تبادل بعض الأفكار المتعلقة بالوضع السوري”. وخلاصة ما قاله المفوض الذي تحدث باسمهم في اللقاء “أن سورية كانت دولة أقاليم تجمعها اللامركزية، وأن حزب البعث حوّلها إلى دولة مركزية، وأن النظام مسؤول عما وصلت إليه الأمور، ولا يهمّه مستقبل سورية، وهو لا يمثل الطائفة العلوية بل هو نظام طغمة، وأن المجموعة لا تقبل أن يمثلها النظام كطائفة في أي مفاوضات قادمة، وأن النظام منع تنمية المناطق العلوية ليُجبر أبناءها على الالتحاق بمؤسستيه العسكرية والأمنية، وأن المجموعة ترى أن المخرج يكون عبر مؤتمر وطني ودستور جديد يتوافق عليه السوريون، في دولة غير مركزية ونظام ديمقراطي علماني”، وقد حمّلت المجموعة روسيا مسؤولية انحيازها إلى طرف النظام، ورفضها رئيسًا سنيًا، ورأت أن “هذا الموقف يضر بمصالحها مستقبلًا، وأن العلويين أقرب إلى روسيا من إيران، لأسباب ثقافية”، بينما جدّد المسؤول الروسي رواية بلاده وحرصها على نظام قوي في دمشق، وحمّل الدول الغربية مسؤولية تأخر الحل السياسي، لعدم تعاونها ولفرضها العقوبات على النظام السوري.
وبغض النظر عن صحة ما جاء في التوضيح أو المنشور، وباستثناء عيسى إبراهيم الذي يمكن أن يكون له صوت مسموع، فإن التساؤل حول مدى تمثيل هؤلاء يبقى مشروعًا، فضلًا على أسئلة أخرى تفرض نفسها: لماذا لا يصرّحون بأسمائهم، ما داموا خارج سورية؟ ولماذا اجتمع معهم الروس بهذه الصفة؟
ت – تصريحات جيم جيفري حول الحل السياسي في سورية
كثرت في الآونة الأخيرة تصريحات المسؤولين الأميركيين حول سورية، وجاء معظمها في سياق توضيح تأثيرات قانون قيصر والأشخاص والمجالات التي سوف يشملها، والتأكيد أن الغاية الأساسية منه الضغط على النظام والأطراف الداعمة له، للقبول بحل سياسي وفقًا للقرار الأممي 2254، وأنه لا يستهدف معاقبة الشعب السوري وتجويعه.. لكن التصريح الأبرز، من بين كل التصريحات الأميركية التي لفتت اهتمام المتابعين، جاء على لسان جيم جيفري الممثل الأميركي الخاص إلى سورية، في أكثر من مقابلة أو اجتماع، وتركز -بحكم موقعه- حول الحل السياسي وموقف الولايات المتحدة الواضح من أنها لا تطالب برحيل الأسد، وحول الموقف من الوجود الروسي في سورية. وربما تكثف تصريحاته الأخيرة، في مؤتمر افتراضي لمعهد الشرق الأوسط، مجمل تصريحاته المتواترة في الأسابيع الأخيرة، حيث قال: “إن ما يميز منهجنا هو أننا لا نطالب بالانتصار المطلق”، وإن “محاولات تحقيق خروج الروس من سورية ليست جزءًا من سياسة بلادي، لكن الولايات المتحدة تفضّل ألا يكون الروس في سورية”، وإن “الوضعين العسكري والاقتصادي والعقوبات والمحاسبة ستسمح للولايات المتحدة بأن تضغط على الروس لتحقيق تسوية”.
ومن هنا؛ يمكن أن نفهم من تصريحات جيفري النقاط التالية:
أن أحد أهداف قانون قيصر هو الضغط على الروس والنظام، لفرض إطار تفاوضي يفضي إلى تطبيق القرار 2254، ومما يؤكد هذا التوجه أن القانون يخوّل الرئيس الأميركي تعليق العمل بالقانون، كليًا أو جزئيًا، إذا كان هناك تقدّم على طريق الحل السياسي، ومن غير المرجح -سياسيًا- أن يكون دافع قانون قيصر هو مناكفة الروس، حيث إن لدى الولايات المتحدة وسائل أخرى متوفرة على ساحة الصراع، محليًا وإقليميًا، وعلى مستوى المجتمع الدولي.
ليس هناك من عُرف في العلاقات الدولية يُبرر لدولة أن تطالب برحيل رئيس دولة أخرى، لكن هذا لا يمنعها من العمل على تغييره، إذا أرادت ذلك وامتلكت القدرة والآلية المناسبة، مع الأخذ بالحسبان أن تغيير الأسد لم يكن أولوية أميركية، في يوم من الأيام، وأن تغيير النظام شيء وإعادة تأهيله شيء آخر، وهذا هو المهم، ويُعدّ قانون قيصر أهمّ إجراء في قطع الطريق على إعادة تأهيل الأسد.
موضوع حديث جيفري، الذي يتطرق إليه لأول مرة مسؤول أميركي، بأن ليس من أهداف سياسة الولايات المتحدة خروج روسيا من سورية مع أنها لا ترغب في هذا الوجود، يبعث رسالة ترغيبٍ إلى روسيا، للضغط على النظام من أجل تسهيل الحل السياسي، لكن من دون فتح طاولة تفاوض أو حوار مع الروس.
إن قول جيفري “ما يميز منهجنا أننا لا نطالب بالانتصار الكامل”، وهذا ما لا تعرفه ولم تعمل به السياسات الأميركية، على الأقلّ بعد الحرب العالمية الثانية، يتضمن رسالةً إلى الروس مضمونها أن الولايات المتحدة تهتم بمصالحها على المدى البعيد، وأن هدفها الراهن يتمثل بخروج إيران من سورية، وأن على الروس المساعدة في ذلك.
على الرغم من تأكيد الولايات المتحدة الدائم على تطبيق القرار الأممي رقم 2254، فإنها لم تبدِ حتى الآن أي بادرة لفتح مفاوضات جدية مع الروس، لا حول القرار المذكور، ولا حول أي حل آخر قابل للتطبيق، ويرجح هذا الأمر أن الولايات المتحدة لا تريد تسهيل خروج الروس من مأزقهم في سورية، بل ربّما أنها تعمل على تعميق هذا المأزق، وهو الأرجح.
ثالثًا: خاتمة واستنتاجات
في ضوء المعطيات المتوفرة، بالترافق مع تطورات الصراع على المستويين الداخلي والإقليمي؛ يمكن تلمس الاستنتاجات التالية:
ما برحت روسيا، منذ تدخلها عسكريًا في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، تبحث عن حل سياسي، يوافق رؤيتها وتحوّل به انتصارها العسكري على دماء السوريين ودمارهم، إلى انجاز سياسي يحفظ مصالحها، وعلى الرغم من الفشل الذي لاحق مساعيها من أستانا إلى سوتشي، فإنها ما زالت تبحث عن هذا الحل.
التحركات الروسية دافعُها مفاعيل قانون قيصر الذي قد يطيح بكل مصالحها ونفوذها، كما أن التصريحات الأميركية لا تشي بوجود تفاهم مع الروس، حتى الآن، للسير في الحل وفقًا للقرار الأممي، وإلا كانت الجهود الروسية اتجهت إلى جنيف مباشرة.
إن اجتماع مسؤولين روس مع الخطيب لجسّ نبض الإسلاميين، أو مع مجموعة من العلويين، يؤكد أن موسكو تنظر إلى الصراع في سورية على أنه صراع سنّي – علوي، على السلطة، أو أنه نوع من حرب أهلية بين مكونات، متجاهلة ثورة الشعب السوري وتضحياته وحقه في الحرية والكرامة، وهذا يعقّد مساعيها ويركنها في خانة الفشل.
إذا بقيت روسيا مصرّة على اعتماد هذه الرؤية، ومن ضمنها التمسك بالأسد والأجهزة الأمنية؛ فإنها سوف تتحول -موضوعيًا- إلى قوة احتلال، هي عاجزة عن حمل أعبائه وتحمّل تبعاته، وسوف يعمق ذلك مأزقها في سورية.
الوقائع العنيدة في الصراع السوري، وتعقيداته، لا بد أن تُقنع الروس -في المآل- بعجزهم عن إنجاز أيّ حلّ، من دون موافقة الدول المتدخلة في الصراع، وبأن أي حل لا يحقق قدرًا معقولًا من العدالة سوف يولد ميتًا، ويميت معه أطماع المتدخلين، وفي مقدمتهم الروس.