أولاً: الوضع الدولي ومؤثّراته في القضية السورية:

لم يكن الوضع الدولي مأزوماً منذ نهاية الحرب الباردة بين القطبين، كما هو في الحقبة الراهنة. فالعولمة وثورة المعلومات والاتصالات وحركة التجارة الدولية، جعلت للصراع الدولي أشكالاً جديدة ومتنوعة وأدواتٍ مختلفة ومتباينة تبعاً للموقع الجيوسياسي الذي يجري فيه الصراع. وخلقت حالة من الفوضى والانقسام في مواقف وتوجهات القوى الدولية، الأمر الذي أدى إلى اختلاف مقارباتها للأزمات الناشئة في العالم. فيأخذ اللاعبون الدوليون مواقفهم بطبيعة الحال وفقاً لمصالحهم الحيوية المتعارضة، ولكن في هذه الحقبة، التي يشهد العالم فيها تراجعاً للديمقراطية الليبرالية أمام الشعبوية الصاعدة، نراهم لا يأخذون أي اعتبار لمصالح وتطلعات الشعوب على الإطلاق، ويتنكرون للاتفاقيات والمواثيق الدولية، ويضربون عرض الحائط بالقرارات الأممية.

استغل النظام الموقع الجيوسياسي لسورية، في سعيه لدور وظيفي وبناء تحالفات إستراتيجية إقليمية ودولية تضمن استمرارية تسلطه، كما تضمن له دوراً فاعلاً في المنطقة وقضاياها الكبرى. وهو ما حول سورية إلى ساحة للصراع على المصالح وتناقض الأهداف بين القوى الدولية، التي أخذت بدورها تشكل اصطفافات إقليمية، تعمل لمصالحها وأطماعها الخاصة، وهذا ما أدى إلى زيادة الأوضاع تضخماً وتعقيداً في مواطن الأزمات، وأدى تعددها في منطقة الشرق الأوسط إلى أن يكون الانقسام في الموقف الدولي سيداً في كل الصراعات الإقليمية، وتجلى هذا الانقسام في سورية بـ 16 فيتو روسي، شاركت الصين بستة منها خلال 9 سنوات.

لقد ارتكزت الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على ثلاثة ثوابت:

1-ضمان أمن اسرائيل وحماية حدودها. 2- ضمان أمن تدفق النفط من المنطقة. 3- حماية المصالح الأمريكية وتحالفاتها. ورغم توجه واشنطن نحو آسيا والمحيط الهادئ، إلا أن ثوابتها لم تتغير. وما تغير هو أسلوب إدارة المصالح والسياسات بعيداً عن الحروب والتدخلات العسكرية المباشرة. فقد تم استبدالها منذ عهد “أوباما” بآليات الإدارة من الخلف وعبر الوكلاء وعقد الصفقات وتطبيق العقوبات وصولاً للحصار السياسي والاقتصادي ومثالها تطور الأزمة مع إيران.

ولكن الاستراتيجية الأمريكية تجاه القضية السورية، اتّسمت بسياستها الانسحابية من الشرق الأوسط، وإبقاء الصراع فيها مفتوحاً، وتتم إدارته من الخلف، مع الإمساك بخيوطه ونتائجه، ومنع أي طرف من تحقيق الانتصار. وعلى الرغم من اعتمادها محاربة الإرهاب وتحجيم الدور الإيراني والدفع إلى الانتقال السياسي، فإن بوصلة سياستها كانت تؤشّر دوماً صوب أمن إسرائيل، انطلاقاً من مصلحتها في إجهاض ثورات الربيع العربي وتحويلها إلى أزمات مفتوحة، يسهل التحكم بمآلاتها من أجل ضمان مصالحها، وليس الانتصار لحقوق السوريين.

لقد عملت الولايات المتحدة على إدارة الصراع السوري والتحكّم بكل مآلاته منذ البداية، وذلك عبر استنزاف بعض القوى الإقليمية والدولية المتصارعة، وإغراقها في المستنقع السوري، وتركها تدفع أكلاف هذه الحرب من رصيدها السياسي والاقتصادي والعسكري. وجعلت القضية السورية في دائرة الاهتمام الأميركي عبر “قانون قيصر” والحصار الخانق على إيران؛ لفرض إرادتها في الحلّ اعتماداً على قرار مجلس الأمن 2254، مستخدمة أسلوب الضغط بالعقوبات، مستثمرة للمتغيرات على الأرض حيناً، وصانعة لبعضها حيناً آخر، في عملية توضيب للجميع تمهيداً لصفقة دولية تحقق أهدافها، وترضي كافة المشاركين.

أمّا بالنسبة إلى استراتيجية روسيا في سورية، فهي تدعي التمسّك بمقولة احترام النظام الدولي واحترام سيادة الدول، وعدم قبول تغيير الأنظمة من الخارج. ومن هنا قامت سياستها على حسم الصراع عسكرياً، بعد احتلالها سورية، بهدف منع انهيار النظام وتثبيته وإعادة إنتاجه وتأهيله مع الحفاظ على هيكلية السلطة لضمان مصالحها في سورية والشرق الأوسط عموماً، بما يجعل منها قوة دولية مؤثرة. واستمرت تحاول منذ بداية الأزمة شرعنة بقاء النظام واستمراره عربياً ودولياً، تمهيداً لفرض حلّ يتماشى ورؤيتها، وفي الوقت نفسه تحقق أهدافها في صراعاتها الدولية مع الغرب، إذ تمكّنت من فرض نفسها شريكاً ومنافساً دولياً في إدارة الأزمات وتسويق السلاح والطاقة، مع التزامها مثل أميركا بأمن إسرائيل. لكنها فشلت في الاستثمار السياسي لحملتها العسكرية، فحاولت تعطيل مسار جنيف وقرارات مجلس الأمن، وعرقلة استصدار قرارات تخدم قضية السوريين. فدأبت على خلق مسارات بديلة مثل “أستانا وسوتشي”، التي وإن ساهمت في إنجازاتها العسكرية، فهي قد أفشلت من جهة أخرى سعيها في إقناع المجتمع الدولي بجدوى التصوّر الروسي وقدرته على تحقيق الحل بمضمون القرارات الدولية.

أمّا الاتحاد الأوربي فعلى الرغم من أنه يعتبر نفسه معنيّاً بشكل مباشر بأحداث المنطقة، ليس فقط بسبب قربه من منطقة الشرق الأوسط، وإنما بسبب ما أصابه من نتائج الصراع (الإرهاب، والهجرة، الكلفة المادية، الإغاثة…)، فهو يرى مصلحته في إيقاف هذا الصراع ولملمة نتائجه. إلا أنه لا يملك القرار السياسي المستقل والقوة القادرة على ذلك، إذ يبدو الحلقة الأضعف في الكباش الدولي المتصاعد، ويتعرّض لضغط وابتزاز اقتصادي وسياسي، في الوقت الذي يواجه صعوبات جدّية تجاه أزماته الداخلية وحالات الانقسام وتضارب المصالح بين دوله. وهذا ما أدى إلى بروز سياسات وتقديرات أوربية مختلفة، وتحديات كبيرة بالنسبة إلى حماية دوره وحفظ مصالحه على الساحة العالمية، وتصديه لمحاولات تهميشه وإلحاقه بسياسات أمريكا في مختلف القضايا الإقليمية والدولية. وعلى الرغم من ذلك يمتلك الاتحاد الأوربي في القضية السورية ورقة هامة من أوراق الصراع، وهي ورقة إعادة الإعمار المرتبطة بالحل السياسي، وأوراقاً سياسية أخرى مثل ورقة اللاجئين والورقة الحقوقية والحصار الاقتصادي المترافق بالضغط السياسي والدبلوماسي.

أمّا ما يتعلّق بموقف الهيئات الدولية فإننا نرى أن ارتباك المشهد الدولي، وتباعد مواقف وتوجهات القوى الدولية المؤثرة، واختلاف مقارباتها للأزمات الإقليمية والدولية، قد أثر تأثيراً بالغاً على الهيئات الدولية وأدى إلى تراجع دورها في إيجاد حلولٍ للصراعات الإقليمية. فسيادة تغليب المصالح الضيقة، وتنكّر الدول للمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان، واستمرار الحروب بالوكالة، واعتماد العقوبات الاقتصادية لفرض وقائع وسياسات على الدول، قد وفَّر إمكانية استدامة المعاناة السورية، على الرغم من اتفاق جميع الأطراف الدولية المتصارعة بأن حلّ القضية السورية لا يمكن أن يكون عسكرياً، بل سياسياً عبر بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254، لكنه لن

يكون راسخاً إلا بحلول قضايا المنطقة كافة، تأخذ بعين الاعتبار مصالح شعوب المنطقة، ومصالح الدول المتصارعة إقليمياً ودولياً. كما بات من الضروري اصلاح الهيئات الدولية وخاصة مجلس الأمن الدولي.

ثانياً: الوضع الإقليمي ومؤثراته في القضية السورية

منطقة الشرق الأوسط، من أكثر مناطق العالم عرضةً للتقلّبات والهزّات السياسية والأمنية، نظراً لموقعها الجيوسياسي الحيوي ووفرة مواردها الطبيعية وتنوّعها ووقوعها على خطّ تقاطع المصالح الدولية وأجنداتها. إلا أن العامل الأكثر تأثيراً عليها هو صراعات المشاريع الإقليمية الفاعلة (المشروع الصهيوني، والمشروع الايراني القومي، والمشروع التركي). وتجد هذه المشاريع ضالّتها في استهداف أمن دول المنطقة وشعوبها ومواردها ووحدة أراضيها، في ظلّ غياب المشروع العربي الذي يحمي أمن العالم العربي ومصالحه الحيوية. لقد حول الصراع بين هذه المشاريع المنطقة برمتها، وخاصة في ظل ثورات الربيع العربي وانعدام الوزن النوعي للمنظومة العربية، إلى بؤرة للاستقطاب والتنافس الاقليمي والدولي، وساحةً للصراعات المتعدّدة الأطراف. وجعل دولها تفتقر للاستقرار، وتحوّل بعضها إلى دول فاشلة، وبدأ الاستعمار يعود إليها لكن بحلّة جديدة.

1-الدور الإسرائيلي:

لقد نجحت إسرائيل في استغلال حالة الاهتراء العربي بعد انكشاف الأنظمة أمام شعوبها إثر ثورات الربيع العربي. ولم تخفِ دعمها لبقاء نظام الأسد. فقد تغاضت عن تدخل إيران وحزب الله والمليشيات الأخرى لحمايته، ورأت في جرائمه بحقّ الشعب السوري ما يغطّي على جرائمها. وهي تقف اليوم في مقدمة اللاعبين المستفيدين من المحنة السورية، فقد وفّر لها تدمير أركان الدولة السورية من قبل الأسد وقوى الاحتلال حزمة من المكاسب السياسية والعسكرية والاقتصادية، لم تكن لتحلم بها. كما وفرّ لها الفرصة لمواجهة النفوذ الإيراني واستنزافه من البوابة السورية، بما يجعلها أكثر قبولاً في المنطقة، بالعمل على تحويل الصراع فيها إلى صراع فارسي-عربي. وها هي تدفعهم للالتحاق بالسياسة الأمريكية والإسرائيلية لحماية عروشهم من التساقط ودولهم من الانهيار ثمناً لإطلاق يدها في الجولان والأراضي الفلسطينية وغور الأردن.

2-الدور الإيراني:

دأب نظام ملالي طهران على تصدير “ثورتهم” من أجل تحقيق حلمهم القومي في الهيمنة على المنطقة عبر المتاجرة بشعار العداء لإسرائيل. وقد تمحورت سياساتهم حول فكرة تحويل إيران إلى قوة إقليمية كبرى، من خلال مشروعها المذهبي والقومي التوسعي، مستفيدةً من برنامجها النووي، ومن السكوت الأميركي، على تدخّلها العسكري والميليشياوي في العديد من دول المنطقة، واختراق أمن مجتمعاتها وتفتيت وحدتها ونشر النزعات المذهبية والطائفية فيها، وتعريض أمن واستقرار دولها للصراعات والحروب المفتوحة في ظل

الانكفاء الأميركي وعدم وجود مشروع عربي. ولقد شكّل نظام آل الأسد حجر الزاوية في مشروع ملالي طهران، وأمَّن جسراً لتواصلهم البرّي مع وكيلهم الإقليمي حزب الله اللبناني. وبعد انطلاق الثورة السورية، رأت إيران أن سقوط نظام الأسد يعني ضرباً لإستراتيجيتها وإضعافاً لدورها، فوجدت بذلك فرصتها لترسيخ نفوذها الإقليمي ودعماً لبقاء نظامه في آن. فحشدت لذلك إمكانات مادية وعسكرية وبشرية ضخمة، وأنشأت عشرات الميليشيات الطائفية واستقدمتها من شتى أصقاع الأرض إلى جانب الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني انطلاقاً من قناعتها بأن انتصار الثورة السورية يشكّل هزيمة لمشروعها، وخطراً على مستقبل نظامها.

3-الدور التركي:

عملت تركيا كل ما بوسعها في بداية الثورة لعدم خسارة الشريك السوري، إلا أن تعنّت الأسد دفعها لقطع علاقتها معه في آب ٢٠١١ وإعلان تعاطفها مع الشعب السوري في ثورته، فاستقبلت ملايين اللاجئين، واحتضنت مؤسسات الثورة والمعارضة السياسية والفصائل العسكرية ومنظمات المجتمع المدني المتعدّدة. أرادت تركيا أن تستفيد من التغيير في سورية. فهي لاعب إقليمي تمتدّ مصالحه إلى مختلف بلدان المنطقة، وتشكّل سورية بوابة العبور لتجارته نحو العالم العربي وخاصة دول الخليج. كما أن حاجة تركيا لمصادر الطاقة تدفعها دائماً للبحث عن مصادر جديدة. وقد وجدت في الأراضي السورية ممرّاً ملائماً يصلها بالغاز القطري. ولأسباب جيوسياسية، رأت الفرصة ملائمة لتصحيح موازين القوى لصالحها ودعم نـظام بديل يكون حليفاً إستراتيجياً لها يُمكّنها من دعم حركات الإسلام السياسي، بما يصبّ في تعظيم نفوذها ومكانتها ودورها في المنطقة، ويتيح لها حماية أمنها القومي ومنع قيام كيان كردي انفصالي على حدودها الجنوبية. ورغم أن تركية دولة أطلسية، لكنها اندفعت للشراكة مع روسيا في مسارات ” أستانا ” و “سوتشي” التي رمت ظلالاً قاتمة على قضية الشعب السوري، وأضرت بثورته كثيراً. وهي ما تزال أسيرة سياساتها المعقّدة للتكيّف مع المتغيّرات الإقليمية والدولية المتسارعة، في إطار سعيها للحفاظ على مصالحها ودورها في سورية وطموحاتها في المنطقة. فأرسلت قواتها المسلحة داخل الأراضي السورية في إدلب وعفرين وشرق الفرات لتمتين مواقعها على الأرض وتعزيز مصالحها ومكانتها في الحلّ السياسي. وتواجه في هذا المسعى العديد من التحدّيات، أبرزها مواقف واشنطن الغامضة والمتغيّرة تجاه دورها وسياساتها المتشابكة، وكذلك حجم التناقضات المتزايدة مع شريكيها الروسي والإيراني. لكنها في مواجهة هذه الخيارات الصعبة تبدي حرصها على عدم القطع مع الولايات المتحدة رغم اكتوائها بسياساتها، وتبقي على شعرة معاوية مع الأوروبيين رغم كثرة تناقضاتها معهم. وكذلك تبدي تركيا تمسّكها بمحور ” أستانا “، وبعلاقاتها المؤثّرة والفاعلة في منظمات قوى الثورة والمعارضة ومؤسساتها السياسية والعسكرية لضمان حضورها الفاعل في الملفّ السوري.

4- الدور الخليجي:

قبل انطلاق الثورة، حظي نظام الأسد بعلاقات طبيعية ومستقرة مع دول الخليج. وعلى رأسها السعودية وجمعته علاقة مميّزة مع قطر. غير أن دور النظام في خدمة الإستراتيجية الإيرانية وسياساتها الإقليمية وتدخّلاتها في البلدان العربية، تسبَّب بمزيد من ابتعاد الخليجيين عن نظام الأسد. فوجدوا في الثورة فرصة للتغيير ونقل سورية من موقع الحليف لإيران إلى الجهة المقابلة. كما أن أحداث البحرين واتّهام إيران بتأجيجها كان العنصر الحاسم في تحديد توجّهات هذه الدول للوقوف ضد نظام الأسد بوصفه جزءاً من المشروع

الإيراني، بعد أن تلمّست أخطاره على أمنها ومصالحها. فسَعَتِ السعودية ومعها بعض دول الخليج إلى حرمان إيران من حليفها السوري، بعد تفرّد طهران بالسيطرة على العراق وتمدّد نفوذها لتشكيل ” الهلال الشيعي “. وبالإضافة إلى خوف دول الخليج من تصاعد نفوذ إيران في اليمن وتدخّلاتها المستمرّة في شؤونها الداخلية وتهديداتها لأمن الملاحة والعبث بالتركيبة الديمغرافية في المنطقة، تعاملت إيجابياً مع الثورة السورية ودعمت المعارضة بجناحيها السياسي والعسكري. لكن الجزء الأكبر من هذا الدعم صبّ في خدمة فصائل معينة ساهمت في تشتيت قوى الثورة وحرفها عن أهدافها. وبدأ تراجعها التدريجي بعد الغزو الروسي لسورية، وانحسار فكرة القيام بعمل عسكري أمريكي ضد طهران. كما أن تعثّرها في اليمن، وتفجّر الخلاف مع قطر، والمتغيّرات السياسية الإقليمية والدولية دفعتها لإعادة تموضعها من جديد والبحث عن خيارات أخرى سعياً وراء مصالحها التي بقيت وحدها ثابتة. لكنها بقيت تؤكّد أن حلّ الأزمة السورية لن يكون إلا سياسياً وعبر بيان جنيف والقرار 2254.

“من الوثيقة البرنامجية:

 تمت المصادقة على هذه الوثيقة من قبل المجلس الوطني لحزب الشعب الديمقراطي السوري، الذي عقد في أواسط كانون الأول 2020.