كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

انقضت عشرون سنة، إذن، على شهر تموز (يوليو) 2000، العجائبي في حياة سوريا الحديثة والمعاصرة لأنه شهد مهازل توريث بشار الأسد سلطة متابعة «الحركة التصحيحية – 2»؛ أي اعتناق، ثمّ الذهاب أبعد/ أسوأ في تثبيت، مبادئ الانقلاب العسكري الذي قاده والده حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970. وكانت أولى حلقات المهزلة المفتوحة قد بدأت فور موت باسل، الوريث المعتمَد، في حادث سيارة، سنة 1994: تحوّل بشار الطبيب إلى عسكري، تخرّج من الكلية الحربية برتبة نقيب (على نقيض القوانين العسكرية المعمول بها في الكلية، حيث يتخرّج الطالب الضابط برتبة ملازم)؛ وبعد شهرين فقط رُفّع إلى رتبة رائد، رغم أنّ القوانين تنصّ على خدمة لا تقلّ عن أربع سنوات قبل الترفيع إلى رتبة عليا جديدة؛ ولم يمض عام آخر حتى رُفع الرائد إلى عقيد، من دون المرور برتبة مقدّم؛ وفي حزيران (يونيو) 2000، بعد ساعات أعقبت موت أبيه، رُفّع العقيد إلى رتبة فريق أوّل، وقائد عامّ للجيش والقوات المسلحة؛ ثم مضت أيّام قليلة قبل أن يصبح أميناً عاماً قطرياً لحزب البعث الحاكم (رغم أنه لم يكن عضواً في القيادة القطرية)، وأميناً عاماً قومياً (حتى من دون أن ينعقد المؤتمر القومي للبعث)؛ ومرشحاً لرئاسة الجمهورية، بعد اجتماع ما يُسمى «مجلس الشعب» وتعديل الدستور بما يتيح للوريث أن يتجاوز عقبة سنّ الـ40 كشرط للترشيح.
حاضر الوريث ماثل للعيان اليوم أمام السوريين أوّلاً، وعلى مسمع ومرأى العالم بأسره ثانياً: تدمير البلد طوال السنوات التي أعقبت الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011، وإزهاق أرواح مئات الآلاف من رجال ونساء وشيوخ وأطفال، واستخدام الأسلحة الفتاكة كافة وعلى رأسها الكيميائية، وتشريد وتهجير الملايين داخل سوريا وخارجها، وتسهيل صعود الجهاديين الإرهابيين والتيارات الإسلامية المتشددة من باب إقناع العالم بأنّ ما تشهده سوريا ليس انتفاضة شعبية بل هجمة إرهابية، وصولاً إلى وضع مقدّرات البلد رهن احتلالات إيرانية وروسية وأمريكية وتركية أُضيفت إلى الاحتلال الإسرائيلي… لكنّ بذور هذا الحصاد الدامي تضرب في تربة إعداد الوريث لملاقاة مهازل ذلك الشهر التموزي الإعجازي، ولعلّ كاشفها الأبكر والأوضح كان خطاب الأسد الابن أمام كرنفال التصفيق والهتاف والبصم الذي يطلق عليه النظام تسمية «مجلس الشعب»؛ والذي شهد السوريون أحدث طرائفه، المملّة المكرورة الممجوجة، في «انتخابات» الأيام القليلة الماضية.
ولقد شاءت أعراف «الحركة التصحيحية ـ 2» أن يلتزم الوريث بالخطوة التي تُجبر المواطن السوري على استذكار يومٍ لا يذكّر إلا بالبارحة؛ لأنّ نسبة الاستفتاء على «رئاسة» الأسد الابن بلغت 97,29، وكانت تلك تذكرة بما تكرر في الماضي من نسب مماثلة شهدتها مهازل التجديد لـ«رئاسة» الأسد الأب. ذاك كان التراث الذي شكّل، في كلّ مرّة، مصادرة صريحة للعقل الطبيعي والمنطق السليم، فضلاً عن كونه إهانة مباشرة لمواطن لم يكن له من حول أو إرادة في ما يُزوّر باسمه من مسارح الـ99٪. ويومها لم يتجاسر أيّ من المراهنين على اختلاف عهد الأسد الابن عن عهد أبيه (وبعضهم كان في صفوف «معارضة» من نوع ما، وفي عدادهم مَنْ تصدّر بعدئذ في «المجلس الوطني» و«الائتلاف»!)، على القول بأنّ هذه النسبة صحيحية في أية حال؛ كما لم يتجاسر أيّ من هؤلاء على النظر إلى فارق الـ2٪، بين الأب والابن، بوصفه بشارة خير. الأكثر دلالة، في المقابل، أنّ أياً من المراهنين على «الرئيس الشاب» لم يتطوّع فيفسّر لنا سبب موافقة الأخير على هذه النسبة، إذْ كان في وسعه أن يخفضها إلى 60٪ مثلاً؛ وتلك نسبة كان سيغار منها الرئيس الأمريكي بيل كلنتون، أو الرئيس الفرنسي جاك شيراك!

إذا كان الأسد الابن وريث أبيه في نظام الاستبداد والفساد، فكيف لا تكون سحائبه المبكرة هي التي أمطرت، وما تزال تمطر، على سوريا وبال الدم والبراميل وغاز السارين

وفي خطاب القسم، يوم 17 من ذلك الشهر العجائبي، أعلن الوريث أنه لا يملك «عصا سحرية لتحقيق المعجزات»، وكأنّ الشعب السوري، أو حتى بطانة الوريث نفسه يومذاك (عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس في الواجهة، وأنيسة مخلوف وماهر الأسد وآصف شوكت ومحمد ناصيف في باطن الدولة العميقة)، كان يطالبه باجتراح السحر. فهل كان في باب المعجزات إطلاق تعهد أمام المواطنين بإلغاء الأحكام العرفية، على سبيل المثال؟ والذي كان يقبض لتوّه على السلطات كافة، كيف رأى في أمر مثل هذا ما يشبه المعجزة التي لا تنجزها إلا العصا إياها؟
وهل إعادة تنظيم الحياة السياسية بما يكفل بعض التعددية، وبعض حريات التعبير والتجمع والتنظيم (بعض مجدداً، وليس كاملها وكلّها) أمر خارق لا يقدر عليه إلا ساحر؟ وهل احتاج الأردن والمغرب، مثلاً، إلى تلك العصا كي تُرفع الرقابة عن الصحف، أو كي يجاهر المواطن ببعض رأيه دون فزع، أو كي يذهب إلى صندوق الانتخاب البرلماني أو النقابي أو المهني تحت سلطة ضميره وليس تحت سوط السلطة؟
وكما كان منتظَراً، ومحتوماً في الواقع، أعاد الوريث إنتاج خطاب أبيه بشأن التعددية السياسية، حن كال المديح لصيغة «الجبهة الوطنية التقدمية»، بوصفها المثال على «نموذج ديمقراطي تمّ تطويره من خلال تجربتنا الخاصة؛ متناسياً ما يعرفه كلّ مواطن سوري راشد: أنّ هذه «الجبهة» خُلقت جثة هامدة منذ البدء، وأنها تعفنت طويلاً وزكمت رائحة موتها الأنوف، وأحزابها ليست سوى حلقات تصفيق وتهليل ومباركة ومبايعة، ولا تملك من حقوق التعبير عُشر ما يملكه لاعب كرة قدم. وإذا كان الوريث قد تحدث، يومها، عن ضرورة تطوير صيغة عملها «بما يستجيب لحاجات التطوير الذي يتطلبه واقعنا المتطور والمتنامي»، فإنّ الأسد الأب كان قد سبق ابنه في هذا الطراز من اللغو، وفي كلّ خطاب قسم خلال 30 سنة.
ويُعترف للوريث أنه، بصدد الديمقراطية، تفوّق على أبيه في اللغة الفلسفية المتحذلقة التي استخدمها كاتب خطبه، والتي اختلفت عن اللغة الاستعلائية المتغطرسة التي كان يستخدمها كاتب خطب الأسد الأب. وذات يوم، حين انطلقت عمليات البيريسترويكا في الاتحاد السوفييتي، أعلن الأسد أنّ سوريا سبقت ميخائيل غورباتشوف في هذا النوع من العلانية والإصلاح والمحاسبة، وضرب مثلاً على ذلك في… «الجبهة الوطنية التقدمية»، دون سواها! وريثه، في خطاب القسم الأوّل، تفلسف هكذا: «الديمقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقاً لنا»، أي أنّ ممارسة الديمقراطية ليست حقّ المواطن أوّلاً، بل هي التالية بعد واجبه تجاه «الآخرين»؛ الذين لا يمكن أن يكونوا، في منطوق آل الأسد، سوى النظام ذاته. يؤدي المواطن واجبه أوّلاً، وبعدها نبحث في حقوقه؛ وذاك كان جوهر الحذلقة في التهرّب من المسألة المبدئية التي تقول إنّ انفصال الحقوق عن الواجبات، أو تفصيل الحقوق على مقاس الواجبات في عبارة اخرى، هو المدخل الكلاسيكي الذي مكّن أنظمة القمع والاستبداد من تدجين المواطن وتغييب حقوقه تحت مظلة واجبه تجاه «الوطن»، الذي ليس سوى مزرعة القاهر وملعب المستبدّ.
ومَن أفهم الوريث أنّ سوريا لم تعرف في الماضي تجارب في الديمقراطية البرلمانية كانت رائدة على نطاق المشرق بأسره، حتى تحتاج من آل الأسد إلى «فكر» ديمقراطي؟ ومَن أنساه حقيقة أنّ عهود حزب البعث المتعاقبة، منذ انقلاب 1963، هي التي أجهزت على الممارسات الديمقراطية وخنقت الفكر الديمقراطي، وانتزعت السياسة من المجتمع؟ وإذا كان الأسد الابن وريث أبيه في إدامة نظام الاستبداد والفساد، فكيف لا تكون سحائبه المبكرة تلك هي التي أمطرت، وما تزال تمطر على سوريا، وبال الدم والبراميل وغاز السارين!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس