هذه هي الحرب النفطية الثّانية التي تخوضها السعوديّة في هذه الألفية، الأُولى كانت عام 2014م، عندما بدأت الولايات المتّحدة التأثير في سوق النفط العالمية، فقرّرت القيام بخطوات لحفظ موقعها وخنق المنافس الأمريكي الذي بدأ لتوّه برفع الإنتاج من البترول الصخري وتصديره للخارج بأسعار تنافسية، وسرعان ما هوى سعر البرميل من 120 دولاراً إلى أقلّ من 30 دولاراً، ليدخل جميع المنتجين في فترة معاناة.
الغاز الصخري
وتُعدّ هذه الحرب الثانية بين روسيا والسعودية، والأولى قد حدثت في الثمانينيات من القرن الماضي بسبب إغراق الرياض للأسواق بالنفط وتحطيم الأسعار إلى 10 دولارات، كانت السبب في حدوث أزمة مالية في روسيا وكانت من عوامل تسريع انهيار الاتحاد السوفييتي سابقاً.
بدأت هذه الحرب مطلع هذا العام بين روسيا والسعودية حين قرّرت روسيا رفض التعاون مع باقي دول «أوبك +» خفض إنتاجها لتتمكّن الدول المنتجة للنفط من مواجهة تداعيات فيروس كورونا وخاصّة السعودية التي تواجه تحدّيات كبيرة بما فيها الحرب في اليمن وكذلك مواجهة الديمقراطية في العالم الإسلامي، ما تسبّب في نزول سعر النفط الذي قارب 40 دولاراً، وصرّح حينها بوتين قبل أسبوع من اجتماع «أوبك+» في فيينا، أنّ سعر 40 دولاراً للبرميل سعر مقبول بالنسبة إلى بلاده، وهو يغطّي فوق تكلفة الإنتاج نوعاً ما.
مستغلّاً تداعيات تفشّي فيروس كورونا الذي ضرب أسعار السوق النفطية فرصة لضرب اقتصاد أمريكا التي تحارب تمدد روسيا في أسواق الطاقة الأوروبية وتحظر شركاتها أملاً في انتزاع سوق الغاز منها
معروف أنّ شركات النفط والغاز الصخري في أمريكا تعاني حالياً من أزمات مالية ذات شقَّين، أحدهما: عدم القدرة على خِدمة الديون المتراكمة وسط انخفاض أسعار النفط والغاز، والثانية: أزمة الحصول على تمويلات جديدة بعد هروب المستثمرين من أسهمها وسنداتها في سوق «وول ستريت» بسبب تحطيم فيروس كورونا للطلب داخل أمريكا وفي آسيا.
وكانت وكالة(موديز) للتصنيف الائتماني قد حذّرت سابقاً من المخاطر المالية التي تواجه شركات الطاقة الأمريكية، وأنّ هذه الشركات تعاني حالياً من أزمة في الحصول على تمويلات جديدة والقدرة على السداد، وهو ما يعني أنّ العديد منها ربّما ستسجّل نفسها للحماية من الإفلاس إذا استمرّت أسعار النفط منهارة لفترة أكثر من ستّة أشهر أخرى جرّاء فيروس كورونا(العالمي) وحرب النفط بين روسيا والسعودية وأمريكا.
ما يعني أنّ بوتين -وضمن استراتيجية الهيمنة على أسواق الطاقة وممرّاتها في أوروبا وآسيا- يسعى للإبقاء على أسعار النفط والغاز منخفضة لأطول فترة ممكنة حتى يتمكّن من تحطيم صناعة الغاز والنفط في أمريكا، ويفسح المجال لصناعة الطاقة الروسية بالتمدّد في أوروبا وآسيا حتى وإن كان ذلك سيكّبد الشركات النفطية الروسية بعض الخسائر على المدى المتوسّط، تلك الخسائر التي ستُعوّض من مداخيل صفقات الأسلحة(الكبيرة) التي أبرمتها روسيا مع عدّة دول منها الجزائر.
لذا فإنّ تلك الخطوة من روسيا في اتجاه أمريكا برفض خفض الإنتاج من أجل استقرار الأسعار دفعت بالسعودية لاتخاذ قرارها هذا في رفع إنتاجها ردّاً على السياسة الروسية بإغراق السوق حتى وصل السعر تحت عتبة 40 دولاراً الذي يخدم السعودية خلاف روسيا إذا نظرنا إلى تكلفة إنتاجه.
طبّقت السعودية خطّة الإغراق (سلاحها المعتاد) بهدف ضرب الاقتصاد الروسي لدفع روسيا إلى مراجعة موقفها، ولكن من المؤكّد أنّ روسيا لم تكن تضع في حسابها ردّة فعل السعودية المفاجئة مستغلّة تقاربها مع الرياض عن طريق مشاريع وتباعدها من واشنطن بانهيار أسعار النفط إلى هذه المستويات المتدنّية تحت تكلفة سعر إنتاجه بعد أن عملت أمريكا في الماضي القريب على عرقلة مدّ خط الغاز الروسي تحت بحر البلطيق الذي يُعرف باسم «نورث ستريم 2» إلى ألمانيا، عبر مجموعة من قرارات الحظر والعقوبات أثّرت في الاقتصاد الروسي.
وقامت حينها الشركات الأمريكية المنتجة للغاز الصخري إلى تسويق شحنات الغاز الصخري المسال إلى الدول الأوروبية منذ سنة بديلاً عن الغاز الروسي المحظور، وقد أنشأت نحو 20 محطّة لتسييل الغاز وشحنه في الموانئ الأمريكية بغرض أخذ حصّة كبيرة من سوق الغاز في الدول الأوروبية.
إنّ إنتاج النفط الصخري الأمريكي أحدث تغييراً في توازنات القوى النفطية في العالم في السنوات الأخيرة، وبات التأثير الأمريكي في الأسواق العالمية مؤكَّداً، حيث وصل حجم الإنتاج إلى 13 مليون برميل يومياً، حسب تقارير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
وهذه الكمّيات جعلت من أمريكا لتصبح أكبر منتج للنفط الخام في العالم، ومكّنتها من خفض تبعيتها الخارجية من استيراد النفط من دول الخليج وخاصّة السعودية، بل إنّها باتت تصدّره وتنافس السعودية وروسيا.
إغراء إدارة ترامب
ما أدّى إلى زحزحة مكانة السعودية من شريك استراتيجي إلى علاقات عامّة في نظر أصحاب القرار في واشنطن، ما مكّن النفوذ الإيراني من التوسّع في المنطقة دون ردع من الدول الغربية مستغلّاً وضعية السعودية الجديدة، ما دفع بالسعودية إلى أن تغيّر من سياستها إلى التحوّل إلى إسرائيل حليفاً في الوقت الضائع بديلاً لواشنطن في مواجهة عدّو مشترك مقابل امتيازات وتنازلات تُعطى لتل أبيب والتي نراها اليوم.
ومع محاولات من السعودية إغراء إدارة ترامب بضخّ ملايين الدولارات على صورة استثمارات وفي شراء أسلحة لتسترجع مكانتها السابقة إلا أنّها فشلت كلّها؛ لأنّ إدارة ترامب تنظر إلى موازنة بين تكلفة الحرب العسكرية على إيران والأرباح التي ستجنيها من استثمارات السعودية، فاختارت أمريكا التموقع في الوسط بابتزاز السعودية والاكتفاء بالحرب الاقتصادية على إيران لضرب عصفورَين بحجر، من جهة التصدّي للنفوذ الأوروبي المستفيد من البترول الإيراني ما يسمح له بكسب أكبر سوق للنفط في أوروبا بعد السوق الصينية من حيث الاستهلاك، ومن جهة أخرى محاولة تركيع إيران بإبرام اتفاق جديد للحدّ من تخوّفات دول الخليج حيال المشروع النووي الإيراني، وكذلك يمكّنها من التوغّل والتحكّم في الاستثمارات داخل إيران لزحزحة الشركات الأوروبية من السوق الإيرانية.
وتُعَدُّ جزءاً من استراتيجية ترامب الرامية إلى تحطيم الزعامات المنافسة لبلاده في العالم وخاصّة المعسكر الروسي الصيني من جهة والمعسكر الأوروبي من جهة أخرى.
وختاماً: إنّ حرب الأسعار بين هذه الدول، إلى جانب فيروس كورونا الذي ينتشر في العالم، كلاهما من العوامل التي جعلت التوقّعات تشير إلى أنّ سعر برميل النفط قد يصل إلى مستويات أقلّ من 40 دولاراً في الأشهر المقبلة، خاصّة وأنّ الطلب عليه سيكون في أدنى مستوياته جرّاء الركود الاقتصاد غير المسبوق في التاريخ الحديث الذي أحدثه وباء كورونا للدول الكبرى.
والجانب المشرق في هذه الحالة هو أنّ هذا السعر سيساعد اقتصادات بعض الدول المتضرّرة من فيروس كورونا على التعافي بسرعة، مستفيدة من انخفاض أسعار المحروقات، وفي المقام الأول الصين وتركيا، وهذا مؤشّر جدُّ إيجابي في حال عرفت تركيا استغلاله في بناء محور اقتصادي ينافس أوروبا وأمريكا؛ لأنّ تداعيات فايروس كورونا ستكون كبيرة ومنهكة لاقتصاديات الدول الكبرى على المدى المتوسّط حال قُضي على الفيروس هذا الصيف، وهذا مستبعد؛ نظراً لما يملكه هذا الوباء من قوّة الانتشار والتأقلم مع المتغيّرات المناخية.
باحث سوري في مركز مقاربات للتنمية السياسية-إسطنبول