لم تجانب الصواب تلك العبارة التي عنونت بحثًا عن المعارضة السورية منذ بضع سنوات، والتي كانت صيغتها:
“المعارضة السورية: كلّ شيء إلا السياسة”، ففضلًا عن النتيجة التي أصبحت ملء السمع والبصر عن قلة باع هذه المعارضة في تعاطي الشأن السياسي، فإن تحليل الخطاب السياسي الذي صدر عنها بأطيافها المختلفة كفيل بتقديم حجة قاطعة على قصور ها السياسيّ.
فقد افتقر خطاب هذه المعارضة إلى ما يجعله خطابًا مقنعًا للطرفين المستهدفين به: الشعب السوري، والمجتمع الدولي.
فبينما يعجز الطيف الإسلامي عجزًا مفهومًا عن الخروج من الصندوق الأيديولوجي، يصرّ الطيف غير الديني -الذي يفترض أنه أكثر قدرة على مقاربة الشأن السياسيّ- على تملق المزاج العام تارة، أو الضرب صفحًا عنه لصالح الانصياع لأجندات إقليمية ودولية تارة أخرى.
وليت الأمر توقف عند حد التملق أو الانصياع، بل إنه يأتي في الحالين مغلفًا بشحنة أيديولوجية تنأى به بعيدًا عن وصف الخطاب السياسيّ العلميّ.
وإذا كنا نثمن موقف المعارضة السورية اليوم من مؤتمر سوتشي الذي يعدّ له الروس، فإننا والحال التي ذكرناها لا نثق ثقة كاملة بأن الموقف قد اتخذ بإرادة لا تنوس بين التملق والانصياع.
فالمزاج الشعبي رافض للمؤتمر؛ لأنه يعده محاولة لتأهيل نظام الأسد، والحلفاء الغربيون يرفضونه؛ لأنه يساهم في تقويض مسار التفاوض الأصليّ.
ولكن إذا كان المزاج الشعبي محقًا في رفضه تأهيل قاتله، فإن الحليف الغربي لا ينظر -برفضه للمؤتمر- إلى مصلحة السوريين كأولوية، ويمكن بدون تشاؤم غير مبرر الارتياب في ما يخطط له من مستقبل لسورية.
فهو لم يعد يخفي تأييده لمشروع الفدرلة من جهة، ولا يقدم بالمقابل ضمانات للمعارضة بعدم تركها هدفًا سهلًا للاستهداف الروسي كعقاب لها على رفضها المشاركة.
ويتضح قصور التصور الاستراتيجي لدى بعض الموافقين على المشاركة في المؤتمر بتسويغ موافقتهم بما يسمى بالغطاء الذي يقدمه الحليف التركي الذي يحضّ المعارضة على المشاركة متناسين أو غافلين (الموافقين) التقارب الروسي التركي الأخير الذي تبلور من منظور مصلحة تركية ضيقة لا علاقة لها بالقضية السورية.
وهو وإن كان منظورًا تركيًا ضيقًا إلا أنه له ما يبرره من وجهة نظر المصلحة التركية، بينما لا يمثل إغفاله من طرف المعارضة الخاضعة للضغط التركي إلا تعبيرًا صارخًا عن واقعية سياسية مدّعاة ومبتذلة، وعن انصياع للرغبة التركية.
من جهة أخرى، وفي تعبير عن الهزل السياسي الذي يصاغ بلغة مبتذلة يعبر أحد رافضي سوتشي عن موقفه بالمقارنة بين سوتشي وبين طبق طعام يدعى سوشي في إشارة واضحة إلى عدة أمور:
اللامسؤولية الأخلاقية في مناقشة قضية عامة بمقاربتها بأسلوب لا يمت بصلة لا للخطاب السياسي المتوازن، ولا للخطاب الوطنيّ الناضج.
والربط بالغ السخف بين أمرين كلّ ما يربطهما محسّن بديعي هو أضعف الأساليب البلاغية وأدناها في مواضعه التي يستخدم فيها، وهو الجناس الناقص، ولا يجمع بينهما إلا رغبة متكلفة ساذجة ولا مسؤولة من صاحب هذا الربط.
يمكن أخيرًا أن يكون نص مسودة البيان الختامي للمؤتمر من وسائل دفاع المشاركين في المؤتمر عن موقفهم، والتي جاء فيها:
“الالتزام بسيادة (الجمهورية العربية السورية/ دولة سورية) واستقلالها وسلامتها الإقليمية، ووحدتها أرضاً وشعباً مع عدم التنازل عن أي جزء من الأراضي الوطنية، واستعادة الجولان المحتل بكافة الوسائل المشروعة، وكذلك الالتزام بعدم تدخل الآخرين بشؤونها، على أن يُقرر السوريون وحدهم مستقبل بلدهم بالوسائل الديموقراطية عن طريق صندوق الاقتراع”.
والتعويل على هذه المفردات ممكن في ضوء الشك في نوايا الحلفاء الغربيين، ولكنه ينبئ بالمقابل عن تنكر لما هو أهم بكثير من كل ما جاء في هذا النص، وهو السوري الذي سُفك دمه، وشُرّد في أصقاع الأرض، وامتُهنت كرامته وحرمة جسده في زنازين الإجرام.
هذا الإنسان السوري أهم من كل الشعارات، ومن كل القضايا، ليس لأنه كذلك بمقارنة مجردة معها، ولكن لأنه من دون كرامته وامتلاكه حقوقه كإنسان لا يمكن أن يسترد أي حق من حقوق وطنه، و في حكم المستحيل أن يتمكن من الحفاظ عليه حرًا مستقلًا.