نعم في سورية هناك ثورة وأنا أقرُّ بهذا، ومن حق الشعب السوري أن يقوم بهذه الثورة، لكن هناك بالتوازي مع هذا، حرب أهلية كون النظام استطاع على مدى سنيين طويلة أن يجمع من حوله فئات من المجتمع. وبغض النظر كيف نجح في جمع هذه الفئات، بالمخاوف أو بالأوهام أو بالمصالح أو بالتهديد، فإن هذا الجزء من المجتمع متخثر من حول السلطة ومن حول آل الأسد وهو مستعد أن يحارب من أجلهم. وللآسف حتى جغرافيًا، فإن جزءًا مهمًا من هذه الفئات متجمع في مناطق بعينها، حيث بوادر الحرب الأهلية وقسوة القمع ماثلة للجميع في مناطق الاحتكاك التي اسميها المناطق الشهيدة وهي الواقعة على أضلع المربع الممتد بين نهر العاصي ومدن الساحل السوري، وهذا هو نطاق الحرب الأهلية”.

بمثل هذه الرؤية تفوق الأب باولو على نظرائه من الثوريين، فهو لم يفتح عينًا ويغلق أخرى، لكي يرى ما يرغب في رؤيته، ولكنه رأى وجوه الواقع المتعددة، ولم يتعلق بأستار المثل في غفلة عن ظلالها.

فقد استطاع أن يمتلك شجاعة الاعتراف بأن سماتٍ للحرب الأهلية موجودة في الحدث السوري، وإن كان هذا لا ينفي وجود ثورة حرية وكرامة، وهي رؤية واقعية ضرب عنها صفحًا الكثير من رموز المعارض السورية، في نوع من إيهام الذات بنقاء واقع غير موجود، أو في نوع من التزلف للشباب الثائر، والسير عل هواه.

وفي تصريح آخر لهذا الغائب الحاضر يقول:

في كل الأديان، بما فيها الإسلام، ليس هناك أقوى من الانتقام، سوى المصالحة. وليس هناك أقوى من الثائر، سوى الغفران. نحن نريد هذا الوطن بكل مكوناته، وبكل قراه، وبكل مدنه، وبكل شعبه. بالنسبة لي الإنسان العلوي المتماهي مع السلطة مظلوم أكثر من غيره لأنه منخور في كرامته وقيمه وقلبه، ولأنه مسخر ومستعمل لهذا الاستبداد المشين. في النهاية هذا الإنسان العلوي أو الإنسان المسيحي هو مواطن نريد أن نطمئنه ونقنعه أننا نريده ونشتهيه بيننا مواطنًا حرًا في وطن واحد”.

خطاب وطني ناضج يدعو إلى التعددية وما يلزم ترسيخها قبل ذلك من تسامح بعبارات مكثفة واضحة عميقة. ولك أن تلحظ الروح العالية التي يمتلكها هذا الرجل في تعاطفه مع العلوي المتماهي مع النظام تعاطفًا محض إنساني؛ لأن هذا العلوي يستحق الشفقة ويستأهل إنقاذه من مستنقع ضياع الكرامة والقيم والوجدان.

كان طبيعيًا أن يؤرق أنموذج مثل الأب باولو البنى المستبدة، وأن يكون بشخصه، وتاريخه، ورمزيته الدينية، ورؤيته الإنسانية الوطنية نصًا كفيلًا بتفنيد سرديات الاستبداد الأسديّ والداعشيّ.

فهو باصطفافه مع ثورة السوريين جعل من زعم النظام ضرورة بقائه لحماية الأقليات زعمًا متهافتًا، وأرسل رسالة إلى العالم أن ثمة رجال دين مسيحيين كبارًا يحظون بحب واحترام السوريين على اختلاف انتماءاتهم الدينية لا يرون في النظام إلا سرطانًا يسري في جسد المجتمع السوري، وهي رسالة لا نظن أحدًا استطاع تضمينها عناصرها الإقناعية مثل الأب باولو.

وهو بدعوته الإنسانية المتسامحة مع الجميع، جعل من زعم المتطرفين احتكار الحقيقة زعمًا يهبط بهم إلى درك ما دون مستوى الإنسانية بمجرد المقارنة بين أنموذجهم وممارساتهم، وبين أنموذج الأب وممارساته.

لا نبالغ إن قلنا إن هذا الرجل امتداد للنزعة الأنسنية في المسيحية التي حاولت استيلاد جوهر دعوة المسيح من جوف التجربة الحية.

فهو إذ يقف مع المطالبين بالحرية والكرامة إنما ينصر قيمًا إنسانية كونية، وإذ يصوغ خطابًا إنسانيًا شاملاً لا يستثني في تسامحه حتى اصنافًا من المجرمين، إنما يأخذ بروحية النصوص، ويتعالى على حرفيتها، وينفخ في الحدث السوري إشراقة معنى جديدة، ومجازًا إنسانيًا راقيًا لا تطيقه عقول عبدة الحرفية من كل الأديان، ولا يستطيع صبرًا معه نظام الاستبداد؛ لأنه يكشف سوءته وقبحه.

إذا كان الأب باولو رمزًا من رموز الثورة السورية، وأقنومًا من أقانيم الوطنية السورية، فإن تغييبه قد جعل لنا نحن السوريين الثائرين منتظرًا ننتظره كما لغيرنا مُنتظرهم، ولكن منتظرنا ليس أسطورة نسجناها من خيال تحرضه الأيديولوجيا، إنه مُنتظر عاش معنا، وقاسمنا همومنا وآمالنا، وغُيب لأجلنا، وسوف نظل نستلهم منه في غيبته معاني الإنسانية النبيلة والوطنية الناضجة، وسنظل في انتظاره فإنه إن لم يعد بجسده سيظل مقيمًا معنا بتجربته التي تعلمنا منها معنى الوطنية الحقة، وجوهر الثورية النبيلة.

 

رئيس التحرير