بعد قصة حب حقيقية ارتبط العاشقان الانكليزيان، وتمثّلت فيهما الحكمة الصوفية القائلة إن العشق في جذره انعكاس لحب الذات التي وجدت في معشوقها ما تهفو إليه، وما يسكّن ألمًا سببه البحث عن شيء ينقصها.
وذات يوم سمعت الحبيبة حبيبها يدندن أغنية لا يعرفها إلا ذوو الأصول الإفريقية فأُسقط في يدها، وصارت تضرب أخماسًا بأسداس، ولما تحرّت عن الأمر عرفت الحقيقة المرة.
لقد كان لحبيبها أصول إفريقية من جهة أمه، فجدّ أمه إفريقي أسود، وهنا كان للون الأسود القادم من أكثر من جيلين قدرته على إطفاء جذوة الحب، فرفعت دعوى طلاق، وربحتها؛ لأن حبيبها خدعها، ولم يكشف لها وصمة العار التي تلطّخ نسبه.
حدثت هذه القصة منذ حوالي قرنين، قبل أن يتبلور في الغرب مفهوم الذات المجردة من عوارضها، والمساوية لأي ذات أخرى بغضّ النظر عن أي انتماءات لا يد للذات فيها، وقد أصبحت هذه القصة، ومثيلاتها موضع تندر، وسخرية الشباب في انكلترا، وبات واحدهم يبحث بنفسه عن جذور تربطه بالعرق الأسود، ويفرح فرحًا غامرًا عندما يكتشف أن جدًا من أجداده كان غامق اللون، فيخبر أقرانه باكتشافه الذين يتخذون من الاكتشاف مادة للتسلية.
هي النقلة النوعية في المزاج، وفي سلم الأولويات التي فرضها قرنان من العمل على إنجاز مفهوم الذات الحرة كاملة الحقوق التي تمثل نواة مفهوم المواطنة، وشرط المساواة الكاملة أمام القانون.
وفي القرن الواحد والعشرين وفي عام 2017 وقع أفراد من أسرة خليجية بينهم علماء دين ذوو مواقع رسمية بيانًا يعلنون فيه زيف انتساب أمير خليجي آخر لجدهم محمد عبد الوهاب، في نصّ لا فحوى له إلا التبخيس من نقاء أصل الرجل الذي لا يجاريهم في النسب الذي لا يضاهى.
وقد شفعوا البيان باقتباس من الكتاب المقدس ” ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّه”، وهو استثمار مخاتل للنص الذي لا يصلح في هذا الموضع؛ لأن له سبب نزول يجعله منفكّ الصلة بما يقوله بيانهم.
وبغضّ النظر عن كونه إنما جاء للنصّ على حرمة التبني، فإن الأهم هو ملاحظة حجم الفوات التاريخي للبنية الفكرية لمصدري البيان، والأسلوب الرخيص الذي يستخدمه المحكومون بهذه البنية المتخلفة، وهم بصدد الرد على خصوم سياسيين.
كان عالم السياسة الأمريكي “تشارلز تللي” قد تحدث عن أثر الإيمان بالسحر على ترسيخ الديمقراطية في بعض البلدان، فإذا كان السحر وهو علاقة مع قوى غيبية، كفيلًا بوضع العقبات في طريق تكريس مفهوم الذات الحرة المستقلة، وهو شأن أفراد، فما بالك ببنية تحكم جهات رسمية في دول، وتستثمرها في صراع مع دول؟
لم يكن ممكنًا لحليف الثورة أن يفرز غير ما أفرزه من مساهمة في الدمار، وهو يعيش في الألفية الثالثة ما تجاوزه العالم المتحضر منذ قرنين، ولا نظنه سيفلح في تحالفه المزمع إنشاؤه لمحاربة التطرف؛ لأنه يشترك مع هذا التطرف في قواسم مشتركة ليس الخطاب الديني المتشدد إلا واحدًا منها.
رئيس التحرير