في الوثيقة الأخيرة التي أصدرتها حماس تخلّ عن الصبغة الدينية للصراع مع إسرائيل، وقبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وهو تحوّل نوعي في موقف حماس المتصلّب الذي بدأ حينما بدأ بعدّ فلسطين أرضًا إسلامية يجب تحريرها كاملة، أدخلها؛ لتباين موقفها هذا الكامل مع منظمة التحرير في صراع طويل الأمد مع الأخيرة -التي كانت في نظر حماس خائنة لثوابت القضية-، وصل إلى حدود الإعلان عن نية إقامة إمارة إسلامية نموذجية في قطاع غزة.
الموقف الجديد هو عينه الموقف الذي كان يساق مسوّغًا لاتهام منظمة التحرير بالخيانة، ولكنه لا يعدم مبرراته من داخل المنظومة الدينية القائم على أن الاعتراف بالعدو كواقع شيء، والاعتراف بشرعيته شيء آخر.
بددت حماس وقتًا، وأهدرت دماء عبر عقود جرّاء تمسكها بموقفها الأول، وكانت تجربتها في السلطة قد صدعت ذلك الموقف، وبدأنا نسمع عن مشاريع مفاوضات، وهدن طويلة الأمد، وتقديم نفسها للمجتمع الدولي بديلًا في مفاوضات الحل عن منظمة التحرير، وهو تصدع في الموقف لا يمكن أن يعدّ مرونة مشتقة من النزول من عالم المثل إلى كثافة الواقع، وإنما براغماتية ذاهبة إلى حدودها القصوى مدفوعة بشهوة السلطة.
في البدء كانت حماس قد شوّهت معنى الحكاية الملهمة التي تقول إن داوود قد هزم جالوت الجبار بالحجارة عندما استبدلت بانتفاضة الحجارة الفلسطينية الصراع المسلح، وسلبت من القضية بعدها الأخلاقي عندما لم تجد ضيرًا من استهداف أطفال عدوها الإسرائيلي في عملياتها” الاستشهادية” التي أصّل لها علماء الدين تأصيلًا شرعيًا متهافتًا من حيث أدلته من جهة، ومجسدًا للعجز في التصور الاستراتيجي من جهة أخرى.
يستطيع النصّ الديني أن يزودك بما يدعم شرعية موقفك؛ لأنه نص لا تنتهي إمكانيات تأويله، وهو قادر على تبرير موقفين متناقضين إذا أغفلت النظر عن بعده الأخلاقي، وهو بعد إنساني مشترك ليس حكرًا على دين دون آخر.
لن يكون الموقف الجديد مستغربًا إذا نظرت إلى البنية والفعل في تفاعلهما الجدلي، ففي البنية نزوع نحو تأصيل نفعيّ لكل موقف، وفي الفعل منذ بدايته تشويه للفعل الثوري النضالي، وقتال مع الإخوة لا يمكن أن يكون سلوكًا يتبناه مناضلون حقيقيون.
وفي الصورة ما لا يقل قبحًا يتجسد في تحالف مع أنظمة متعفنة مستبدة بذريعة الاشتراك في شعار المقاومة.
الأمر الجدير بالنظر هو أن موقف حماس الجديد جاء عقب قطع العلاقات مع حليفها النظام الأسدي، وراعيه الإيراني، وتوجيه رسائل غزل إلى أمريكا وإسرائيل.
ويتزامن مع هذا اندفاع الحليف الأسديّ في انتهازيته، وتشبثه بسلطته غير الشرعية إلى الحدود القصوى بالاستتباع للأجنبي، وبيعه الأرض والسيادة.
تحكم المنظومات المستبدة المقنّعة بمنظومات شمولية إسلامية، أو قومية شعارات لا يلبث رافعوها عندما يحدق بهم الخطر إلى نبذها، فتتخلى حماس الإسلامية عما يسمى ثوابتها، ويتخلى النظام السوري عن شعاراته القومية من دون حياء.
ولأن الكيانين مزيفان فإن ما أحكم حلقات تحالفهما لا يلبث أن يكشف عن عرى واهنة لا تقوى على المقاومة، فيلتفت كلّ منهما إلى نزوعه البدائي، نزوع الاستئثار بالسلطة، مهما كلف ذلك من ثمن، وأهدر من أرواح.
هي ساعة الحقيقة التي تعرّي القبح، وتنزع عنه مساحيق التجميل، وتجعل صاحبه مهجوسًا بشأنه الذاتيّ، مستغنيًا به عن كل ما عداه.
رئيس التحرير