رئيس التحرير

ليس الحديث عن قيم مصنوعة يإبداع إنساني محاولة حالمة لتسويد العقل البشري، ولا هو محاكاة لمحاولات فضّ النزاع بين الغيب والشهود لمصلحة الأخير، ولكنه ما تفرضه حقيقة استحالة امتلاك القيم وجودًا ذاتيًا منفصلًا عن الإنسان اختراعًا وتطويرًا.
ولأن هذه هي الحال، فإن محاولات استخراجها من مثل مفارقة أو بنى محايثة أو مشتركات بين جزئيات يحيلها إلى أيديولوجيات مفروضة لا تتفاوت في تزييفها للوعي إلا بقدر ما تستند إليه كل منها من قوة مادية.
في ذكرى انطلاقة الثورة السورية يجول الفكر في مسارب عديدة متشعبة ويفكك مقولات للنخب السورية لا يمكن لها أن تفك أسر عبوديتها لقيم مفروضة من عمق أيديولوجي مفارق في حالة المتلبرلين والعلمانيين أو قيم مستمدة من نصوص مؤولة تأويلًا ضيقًا أصوليًا مهما ادعى التستر بقشرة معتدلة في حالة الإسلاميين.
بينما تتآزر الذكرى مع الوجدان في استحضار صورة الشاب الذي خرّ صريعًا بنيران عناصر الأمن، وقبل ان ينطق بالشهادتين كما كان يلقنه رفاقه رفع إصبعيه بشارة النصر.
هو أنموذج لطالب للحرية لم تتلقفه الأيديولوجيات، ولم تستنزف فكره الجدالات، ولم تنازع شغفه بالحرية البالغ حده الأقصى أي أمنيات.
قيمة للحرية صنعها الدم الذي سفك بكل رضا وقناعة في سبيلها هي بالتأكيد ليست قيمة الحرية التي تملأ بها النخب صفحات مقالاتها وأبحاثها، وليست المغايرة بين القيميتن محاولة للتبخيس من إحداهما، ولكن لأن ما يمزج بدم شاب في ريعان الشباب يرفع شارة النصر قيبل الشهادتين قد أنشأ هذه القيمة خلقًا آخر نافخًا فيها روحًا جديدة وحركة متوثبة وتحريضًا لا ينقطع.
والله الذي توعد الطفل الذي قتلته طائرات الإجرام بأن يخبره بكل شيء هو ليس الله المتصور في أخيلة الأصوليين والذي يستمدون من جبروته جبروتهم واستعلاءهم، ولكنه الرحيم الذي صنعت مخيلة الطفل لرحمته معنى جديدًا .
وليست عودة المظاهرات في بعض المناطق في سورية، واضمحلال أثر التنظير إلا تأكيدًا لغلبة القيم المصنوعة صنعًا بإبداع التضحية على القيم المستوردة أيًا كانت شهادة المنشأ.
لا شك أن للتنظير أهميته ولكنه يكون فاقدًا لأي قيمة إذا كان يمارس عملية اغتصاب للقيم المصنوعة بالدم مقولبًا إياها في منظومات أيديولوجية لم نجد من ” المثقفين السوريين” من استطاع التخلص من استرقاقها له إلا في حالات فردية ضاعت أصواتها وسط زحام أصوات المفتونين والمستلبين.
وإن في جعبتنا الكثير من الأمثلة عن بؤس ما دبجه المنظرون في معظهم -إذا صح إطلاق هذا الوصف عليهم من باب التجوز-، ولكننا في غنى عن تقوية رأينا بالأمثلة الحية ففي النتيجة الماثلة ما يغني، فقد عادت حناجر السوريين إلى إنشاد أناشيد الحرية في الساحات بالبساطة نفسها وبالتخفّف نفسه من مصطلحات ومفاهيم لم يستطع أصحابها أن ينزلوا بها من أبراجها إلى الأرصفة القانية.
كنت في أقصى حالات الإرهاق بعد يوم كامل قضيته مقيدًا في زنزانة من الزنازين الموبوءة تحت الأرض عام 2011، وسمعت شابين صغيرين يتهامسان ويقول أحدهما للآخر: إنني مقتنع الآن أن خروجنا في المظاهرة فعل صحيح، ألا ترى أننا في مكان واحد الآن مع المثقفين؟.
في ذكرى انطلاقة الثورة السورية علينا أن نستعيد هذه المناجاة ونعترف أننا ذوو قيمة -إذا وجدت- من قيم صنعها أولئك البسطاء الذين خيبنا ظنونهم ولم نكن أبدًا في مستوى المثال الذي مثلوه في خواطرهم لنا.
هي مراجعة حتمية ليس لمنظوماتنا الفكرية التي لا يتبين فيها الأصيل من المستورد والمتجاوز من الراهن فحسب، وإنما لمنظوماتنا الأخلاقية التي بات الشك فيها مشروعًا بعد أن قبلنا بأن نتنازع على مكتسبات بينما وطننا يضيع، ولمدى امتلاكنا إحساسًا حقيقيًا بالكرامة بعد أن سلمنا أمرنا وقضية شعبنا بدون دراسة علمية عميقة لهذا الطرف أو وذاك.