إذا كان ” بيلي بد” الطيب بطل رواية “ملفيل” قد أردى خصمه الشرير قتيلًا فهو -كما يريد ملفيل أن يقول- قد استخدم العنف الذي لا بد منه والذي تفرضه طيبته الطبيعية للقضاء على الطبيعة الفاسدة، ولكنه إذ استخدم العنف تحول إلى آثم، وهنا تكمن المعضلة؛ فلا بد لعنفه أن يكبح، وهو كبح ممكن بتدخل وسيط لا يملك أن يعاقب الشر الأزليّ، ولكنه -بتمثيله للفضيلة- يفرض عقوبة على الطيبة الطبيعية التي استخدمت العنف.
يمكن لنا اشتقاقًا من اقتراح “ملفيل” أن نطالب الفضيلة التي يمثلها الوسيط، وهي أقل درجة على سلم الخير من الطيبة الطبيعية أن تفرض عقوبة على من شرعنوا العنف، وهم يحاربون فساد الطبيعة المتمثل في نظام الاستبداد.
وليست مطالبتنا هذه مطالبة ثأرية، وإنما هي لازم عن ضرورة عدم تمكين العنف من احتكار ساحة المواجهة بين ممثلي الخير وممثلي الشر.
وهي مطالبة تفرضها كذلك ضرورة الانعتاق من أسر الحاجات الطبيعية التي تحاكي في ضرورتها حركة الكواكب الدائرية وتفرض نفسها كحتمية لا تقبل المقاومة.
لا نظنه خافيًا أن مطلب الحرية مختلف عن مطلب رفع عبء البؤس والشقاء، ولا نظن أننا بحاجة إلى الإتيان بأدلة على أن مطلب الحرية الذي صدحت به حناجر السوريين في بداية الثورة قد نكص على عقبيه بمجرد ظهور النوازع الطبيعية التي هي أقوى في طبيعيتها وبدائيتها من مطالب المسحوقين وهي نوازع التعصب ضد المغاير والرغبة العارمة في القضاء عليه لمجرد كونه مغايرًا.
ولأنها مطالب ذات نزوع بدائي غريزي مغرق في طبيعيته يعتقد حاملوها -بسبب القطع بتمثيل خصمهم للشر المطلق- أنهم يمثلون الخير المطلق فهم لا يجدون بديلًا للتعاطي مع خصمهم غير العنف.
ولعل الربط الذي عقدته “حنا أرندت” بين مفهوم حتمية التاريخ الهيغليّ وبين المكنسة العملاقة -كما تلقب الثورة الفرنسية- ربط له وجاهته؛ من حيث إن الثورة الفرنسية قد شكلت لدى مفجريها قوة جارفة لا تقاوم حرّكتها جموع بائسة خرجت من أقبية الظلام والفقر والنسيان ككتلة واحدة تطالب بتلبية حاجات طبيعية.
وهو اشتقاق للمفهوم من حدث عظيم لم يؤت أكله إلا بعد تدخل إنسانيّ واع في هذه الحتمية المزعومة، وإذا كنا نريد أن نشتقّ من الحدث السوري مفاهيم أكثر إجرائية فإننا لن يعجزنا ذلك.
ففي الدوافع حيّز لا يجوز أن يعلن في وضح النهار، لأنها ساحة الصراع بين العقل والعاطفة، بين المصلحة الذاتية ومصلحة العموم. وبظهورها تكشف نفسها بكل عريها واضطرابها والتباسها التي هي من ماهيتها، وهو ما عبّرت عنه أفعال الانتقام على أساس طائفيّ، ولهذا يمكن أن يكون قسر الدوافع على التجلّي الكامل بدل الاكتفاء بإخراج ما هذّب منها وصقل بتغليب للعقل إذا تطلب الواقع ذلك أو العاطفة إذا تطلب عكسه من ضمن المفاهيم التي تحتاج إلى سكّ مصطلح موافق لا نبعد عندما نسميه: “الاستعراض السفيه للدوافع الخام”.
وبمحاكاة لاشتقاق الحتمية من حدث الثورة الفرنسية الذي تجلّت حتميته في سيله الجارف المحمول على حاجات طبيعية لجموع بائسة يمكن لحاجات أكثر مدعاة للتعاطف كحاجة ارتماء فتاة محرومة من رؤية أبيها في أحضانه -وهي حالة يجسدها اليوم رفيقنا المعتصم على أبواب القنصلية الكندية-، وحاجة طفل يموت إلى عدالة إلهية لم يبصرها عندما اخترق الصاروخ منزل أهله في الغوطة وقال قبل أن يموت: إنه سيخبر الله بكل شيء، وحاجة الأم إلى مجرد معرفة مصير ابنها المفقود في أقبية الظلام الأسدية أن تكون حوامل لسيل جارف من التمرد على الشر المتمثل في االاستبداد وحلفائه ولكنه ليس سيلًا لا يقبل التحكم فيه؛ لأن الحاجات هنا ليست بيولوجية محضًا وهي تجعل من الممكن اشتقاق مفهوم جديد يمكن سكّه في مصطلح “الشفقة المتعينة”.
ونعني به -بافتراض أن الشفقة عاطفة تنطوي على الاشتراك في المكابدة مع من يعانيها- أن هذه الشفقة تفقد معناها عندما تعمّم وتصبح إسقاطًا مجردًا باردًا على جموع مصمتة، وهي بدلًا من ذلك يجب أن تخصخص لكي تكون أكثر قدرة على أن توجه وجهتها الصحيحة وتكون أكثر نجاعة في قابليتها للارتباط بحلول ممكنة بسبب قابليتها لاكتساب صفة الإمكان بدل الضرورة.
وإن بين “الاستعراض السفيه للدوافع الخام” وبين “الشفقة المتعينة” علاقة لا نظنها تخفى؛ فعن الأول لزم العنف الذي أتينا على ذكره في البداية وحمّلنا من يقولون إنهم ممثلو الخير قدرًا كبيرًا من وزره وعن العنف -الذي كان مضادًا لعنف الشر بالطبع- نتجت كل الحالات المتعينة التي تستثير عاطفة الشفقة التي لا بد أن تكون متعينة لكي تؤتي أكلًا.

بكل ما نضحت به من أخطاء وبكل ما فاح منها من روائح عطرة، وبكل ما دحضته وأثبتته من مسلمات يمكن لثورة السوريين أن تكون معينًا لا ينضب لمفاهيم جديدة لا نبالغ إذا قلنا: إنها يمكن أن تكون تأسيسًا لفلسفة جديدة وتدشينًا لتاريخ إنساني جديد.