يمكن للشعور بالدفء المستمد من التكور على الذات داخل قوقعة هوية منتقاة من وراء سجف القرون أن يكون مانعًا من فتح النافذة لتلقي ما يكشف لحافها، ويتسبب في برد تفرضه مواجهة الأوهام بالحقائق.
فكما تنوس الفراشة حول الضوء الذي لا يتوانى عن حرقها بحكم طبيعته، ينوس المؤدلج والهوياتي حول هويته باحثًا عن دفء لا يلبث أن يقتله قتلًا رمزيًا أو جسديًا.
ولذلك ترى الموهوم بهوية ساكنة يتخذ من تكبيرها وتحويلها إلى كائن متخيل عملاق سلاحًا لتبرير خضوعه لها، وركونه إلى جبروتها، واستمرائه الذل في خدمتها.
فهي في مثال صارخ عليها أمة عربية أزلية أبدية ذات رسالة خالدة تتجدد روحها عبر مراحل التاريخ المتعاقبة، ويمكن لها أن تفرض على من يعشّش في عقله خيالها أن يندفع بكل صدق إلى الفناء لأجلها.
أو هي أمة إسلامية لا توجد إلا في مخيلة الذين دفعوا إلى خارج التاريخ بفعل انفجار الهوية التي لم تعد صالحة مكوناتها لمواكبة متغيرات العصر.
والأخيرة أكثر قدرة على تكريس ثقافة الموت؛ لأن أحد أسباب خلق أسطورتها الالتجاء إلى المطلق واللواذ به هربًا من عالم نسبيّ متغير يضيع فيه من لا يستطيع القبض على نسبتيه وتغيره.
ولأن اللواذ بالمطلق لواذ هارب مضطر، فإن إغراءها بالموت أكبر بكثير من حضّها على الحياة.
ولأن شهيدي سورية الجديدين الفارس وجنيد يحرّضان على تكريس جديد لثقافة الحياة، فإنهما بالضرورة سيكونان خصمين لمن يأبى أن يجرّه أحد من تحت لحافه العتيق إلى موقع يواجه فيه حقيقة وهمه.
ولأن الفارس وجنيد راكما تجربة غنية عن تشكيل متكامل الأركان للذات عبر العقلنة المتمثلة في محاولة دائبة لاكتساب أدوات العصر، والذاتية عبر تكريسهما مفهوم الانتماء، فإنهما بالضرورة أيضًا أصبحا موضع حسد ذوي الذات المهيضة التي لا تملك من العقلانية أي نصيب، وتحاول التحليق بجناح الذاتية الذي يغلقها على انتماء ضيق مهما ظنت -واهمة- أنها توسعه.
ولأن تشكيل الذات عبر العقلنة وإضفاء الذاتية تشكيل لا حد له، وهو عمل مستمر تعرّف الذات به، فإن استشهادهما حلقة أخرى من حلقات تشكيل الذات، وليس نهاية كما يظن البائس الذي أجهز عليهما.
فعبر عقلانيتهما التي جسداها منذ البداية في التساوق مع المزاج السائد في العالم، وبما يتسق مع مطلب الحرية، وبامتلاكهما أدوات مخاطبة هذا العالم أقضّا مضجع فاقد القدرة على امتلاك ذرة من العقلانية والمستكين في محراب كائن خرافي صنعته أوهامه.
وعبر تكريسهما للانتماء إلى متعين هو الوطن محدد المعالم والجهات أضفيا ذاتية تصيب قلب من يبحث عن إضفاء ذاتية هلامية مائعة الحدود ملتبسة القسمات بالحقد الذي كثيرًا ما يملأ قلب المشوّه على الصحيح.
الفارس وجنيد جسدا برحيلهما -غدرًا- ثقافة الحياة، ونفخا في الثورة السورية روحًا جديدة، وليس من قبيل التعبير الإنشائي القول: إنهما باقيان فقد كرّسا درسًا لكل ذي بصيرة أن من السوريين من يستطيع التحليق عاليًا بجناحين، ويستمر في تعريف ذاته من خلال عمل لا ينقطع لتشكيلها عبر العقلنة والانتماء.
وهما باقيان لأنهما أكّدا أن الكلمة عندما يفوه بها صحيح أقوى بكثير من الطلقة التي يرديه بها مشوّه.
لا أدعو لكما بالجنة يا فارس وجنيد، فأنتما من رصف لنا طريق الجنة على الأرض حيين وميتين.

رئيس التحرير