منذ بدء مسار أستانا، كان يُراد لخطّة مناطق (خفض التصعيد) التي ابتدعها الروس أن تصل الأمور إلى ما هي عليه اليوم، وتكون مناطق إبادة أو مصالحة بالإكراه، بعد إشراك عسكر الفصائل ترغيباً أو ترهيباً، وتدجينهم أو ترويضهم ليكونوا ضمن مسار الحلّ الروسيّ، وما الأوقات المستقطعة بين قَضْم وهَضْم كل منطقة على حِدة إلا إشارات إعلان اقتراب قطار سياسة الأرض المحروقة إلى المحطّة الأخيرة، وإعلان النصر في إدلب.
فلم يكن ما نحن-السوريين- فيه مستغرَباً أو مستَبعداً، إذ غير خافٍ ما ستؤول إليه الوقائع، فتُركتِ الحال تصل منتهاها، اعتماداً على مرتكزات أسّس لها اللاعبون الأساسيّون في مؤتمرات نتج عنها – بغياب السوريين- اتفاقات وتفاهمات، لتكون لا كما يرغب المتصارعون المختلفون المتخالفون، ولا كما يتمنّى النظّارة المستسلمون لمصير لم يعوا وصولهم حافته عاجلاً أو آجلاً، بل ساهموا-السوريين- كأدوات في صناعته مرغمين، وتمكين الآخرين- الذين ارتهنوا لهم- من مصالحهم إقليمياً ودولياً على دماء شعبهم وأشلاء بلادهم.
إن تأزيم الواقع وحشر القضية السورية في نقطة اللاعودة، أحد أهمّ مخرجات الصراع الدولي بين كتلتي “الأستانا” و”الكتلة الصلبة”، فالروس فعلوا فعلتهم في حلب، وقبض الأتراك الثمن في عفرين، وأعادوها ثانية في الغوطة والقلمون، وقبض الإيرانيون الثمن في دمشق، وكرّروها في الجنوب، وقبضت إسرائيل الثمن، وكلّ ذلك تحت نظر الأمريكان والأوربيين ومجلس الأمن، وأحياناً باستخدام السلاح الكيماوي الذي لم يكن الردّ عليه غير ضربات “تأديبية” شكلية، أعطت للنظام وحلفائه مزيداً من الوقت والقدرة على المناورة ولفلفة الأمور وتمييع الحوادث؛ لتكون مادة لفيتو روسي في مجلس الأمن، يؤكّد موقفهم، ويضرب عرض الحائط بكل ما يقف في طريق فرض إرادتهم.
وفي كل مرة تتقاطر الحافلات الخضراء محمّلة بكلّ من رفض الانصياع، ليسدل الستار على منطقة إثر أخرى من مناطق خفض التصعيد، وليكون المهجّرون قسرياً من نصيب إدلب، والجميع إرهابيّون في نظر مَن أخرجهم، إن انتموا إلى النصرة “هيئة تحرير الشام” أو غيرها من الفصائل المصنّفة معتدلة-والتي لولاها لما تمكّنت روسيا من إنجاز خطّتها-، ثمّة هدف من “أدْلَبَتِهم” غير فتح بازار لاستعراض كل طرف قدراته في استمالتهم أو تفتيتهم أو تطويعهم أو سحقهم، ولكن لامتلاك ورقتهم التي يسعى من خلالها لكسب جولة أو الانتقال إلى مربع يكون فيه أكثر تأثيراً في دائرة تحالفاته وتفاهماته، فما عادت الحرب الآن إلا لتحسين مواقف التفاوض، وحشر أحد الأطراف في زاوية الإرغام على فعل يقزّمه أو ينال من هيبة دوره أو يعلن انتهاء صلاحيّته. ومادام القضاء على الإرهاب صار هدفاً محقّقاً-عسكرياً- أو كاد، فقد أضحت كلّ الأطراف المتصارعة تبحث عن مخارج لأزماتها من خلال إدلب. فروسيا تريد إغلاق ملفّ إدلب- ولن تتمكّن دون حلفائها بعد أن جمّعت قوة “الإرهابيين” في مكان واحد دون النظر إلى كيفية اقتلاعهم منه، ليكونوا عنصر ضغط على الحليف والعدوّ معاً، ولأنها غير متأكّدة من مسار الحرب ونتائجها-، لتفتح ملفّات الإعمار وعودة اللاجئين كمقدمة للحلّ السياسي وفقاً لرؤيتها، وهرباً من غرق أكيد إن قام النظام بمجزرة كيماوية، بالإضافة للعقوبات
لقد نجح الأمريكان -بعد تردّد مواقفهم، وتذبذب سياساتهم في سورية- من جعل إدلب بؤرة القضية السورية التي ستمكّنهم من لعب دورهم المرغوب، والحدّ من الدور الروسي الذي امتدّ وتمادى. فمن إبداء الرغبة بالانسحاب من سورية وتسليم الملف كاملاً لروسيا قُبَيل هلسنكي، إلى العمل للاستقرار طويلاً فيها، وطرح صيغ وشروط للحلّ. وبعد أن حقّقت أغلب ما تريده، ستعمل على استنزاف روسيا وتفكيك تحالفاتها ووأْد تفاهماتها، وبذلك تلعب دور المايسترو في أوبرا الدم السوري، فتحذّر الروس من استعدادات النظام لاستخدام الكيماوي، ليردّ الروس بأن أمريكا والتحالف يعدّون مسرحية للكيماوي تسوّغ توجيه ضربة للنظام، وتعقد أمريكا جلسة لمجلس الأمن ردّاً على قمة طهران، ويعلن الروس عن مناورات غير مسبوقة في المتوسط، فيردّ الأمريكان بمناورات في التنف ومزيداً من الجنود والعتاد في شمال شرق سورية، بينما إسرائيل تقتنص بين الفينة والأخرى أهدافها الدسمة حول دمشق، وتتمسّك بتنفيذ خطوطها الحمراء، وتناصر أمريكا موقف تركيا الداعي لعملية عسكرية محدودة وجهد استخباري واسع، يجنّب إدلب كارثة يتجاوز أثرها الحدود التركية السورية، وتقوم تركيا في الوقت نفسه بتعزيز مواقعها، وتدعم الفصائل -غير النصرة- بالسلاح والذخائر تحسّباً لتغيّرات تهدّد وجودها في الشمال السوري، وتساندها أوروبا؛ لأن ذلك يمنع عنها عودة الجهاديين الغربيين، وجعلها مقصد اللاجئين بعدما هدّدت تركيا بفتح الطريق إلى أوروبا.
كلّ هذه المتغيّرات جعلت من إدلب “بيضة القبّان” في القضية السورية، فمن خلال تأزيم الوضع وممارسة سياسة حافة الهاوية، ستكون بدايات جديدة تشهد وضوحاً في الشروط السياسية الأمريكية للحلّ، كما ستكون بداية لتصدّع -وربما نهاية- أستانا لتناقض مصالح أركانها، وستسعى أوروبا لتفعيل دورها عسكرياً وسياسياً، فتعمل على عودة القضية برمّتها إلى مسار جنيف وقرار مجلس الأمن 2254، وسيكون لمظاهرات المدنيين السوريين في إدلب ومطالبتهم بإسقاط النظام، ورفض الفصائلية، والانضواء تحت علم الثورة وثوابتها، دوره في إبراز حقّهم بتقرير مصير وطنهم ومستقبلهم. وفي انتظار ذلك ثمة معارك وتوافقات واتفاقيات، تعيد ترتيب الأولويات وإعادة بازار المقايضات الإقليمية والدولية في سورية وعليها.