بروكار برس:19/3/2020

شكَّل الدعم الإيراني طوق نجاة لنظام بشار الأسد، واعتبرت طهران منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة السورية، في آذار/مارس 2011، أن ما يجري في سوريا ليس قضية داخلية، بل صراعاً بين ما يطلق عليه في الخطاب الإعلامي الإيراني “محور المقاومة” وبين الدول المعادية لهذا المحور.

لذلك اعتبرت القيادة الإيرانية أن معركة الدفاع عن نظام بشار الأسد مسألة مصيرية للمشروع الجيوسياسي الإيراني، وسخَّرت إمكانياتها في دعم النظام، حيث أغدقت عليه منذ بداية الثورة مليارات الدولارات وقدمت له مساعدات اقتصادية كبيرة، وعملت الماكنات الإعلامية لإيران وأذرعها في المنطقة على تشويه أهداف الثورة السورية والتأليب عليها، بادعاء أن الحراك ضد نظام بشار الأسد “يستهدف موقفه المقاوم والمعادي لإسرائيل”.

الطريف في الأمر أن النظام الإيراني، في محاولة منه لتشويه الثورة السورية، قام باستنساخ نفس الخطاب الذي استخدمته ضد الحراك الشعبي الإيراني المعارض، 2009- 2010، أو ما سمي بـ “الثورة الخضراء”، التي شارك فيها ملايين من الإيرانيين احتجاجاً على التلاعب بالانتخابات وتزويرها لصالح محمود أحمدي نجاد، ضد المرشحين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

نظام الملالي اتهم المتظاهرين حينها بأنهم يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية والحقوق السياسية للتغطية على عدائهم لـ”الثورة الإسلامية في إيران”، وأنهم عملاء للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل؟!

سوريا ومطامع إيران للهيمنة

لطالما وضع نظام الملالي في إيران سوريا في مركز اهتمامه، باعتبارها تمثل أهم مكون من مكونات ما يسمى بـ”الهلال الشيعي”، الذي تعمل طهران من أجل إقامته، وتكتسب سوريا أهميتها في صلب المشروع الإيراني نظراً لموقعها الجيوسياسي، كونها البوابة البرية للبلدان العربية إلى تركيا، ولأنها من الدول المشاطئة للبحر المتوسط، وهمزة الوصل بين العراق ولبنان، الذين فيهما مركز ثقل أذرع إيران الطائفية في المنطقة. ناهيك عن خط الجبهة مع إسرائيل، حتى لو أن الجبهة بقيت هادئة منذ عام 1973.

وإذا كان صحيحاً القول: التدخل الإيراني في سوريا شكّل طوق نجاة لنظام بشار الأسد، فمن الصحيح أيضاً القول: إن إنقاذ نظام بشار الأسد إنقاذ للمشروع الجيوسياسي الإيراني، وحماية الأذرع التي بنتها ورعتها طهران في المنطقة، بدءاً من ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وتضخمت بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003، ونجحت إيران في توظيفها محلياً كأدوات لبسط الهيمنة الإيرانية، تحت مسمى “ولاية الفقيه”، في العراق ولبنان، ومؤخراً في اليمن.

ولعب نظام بشار الأسد دور وكالة للمشروع الإيراني، بتحويل سوريا إلى قاعدة خلفية لتقديم كل أشكال الدعم اللوجستي لميليشيا “حزب الله” في لبنان، والميليشيات الشيعية في العراق. وكان من بين الأدوار التي كانت تعد لتلك المليشيات، منح إيران قدرة على التعامل مع أوضاع إقليمية غير مستقرة، ولزيادة تلك القدرة تم نقل تجربة الميليشيات المذهبية إلى اليمن (الحوثيين).

واستطاعت إيران أن تزيد من قوة نفوذها من خلال تلك الميليشيات، فـ”حزب الله” يحكم سطوته على النظام السياسي اللبناني، والميليشيات الشيعية العراقية، التي تعمل تحت مسمى “الحشد الشعبي”، تتصرف كدولة داخل دولة لتنفيذ الأجندة الإيرانية، وكذلك الحوثيين في اليمن.

تبادل الخبرات وشراكة في التنكيل بالمتظاهرين

سارعت إيران منذ الأيام الأولى للثورة السورية إلى زج عناصر من الميليشيات الطائفية التابعة لها، إلى جانب عناصر من “الحرس الثوري الإيراني”، لمساعدة الأجهزة الأمنية للنظام لقمع الحراك الشعبي المعارض.

وكشفت عشرات الشهادات من نشطاء في المعارضة الدور الذي لعبته القوات الإيرانية، وأذرعها الميليشياوية الطائفية، في قمع المدنيين السوريين والتنكيل بهم.

ما سبق يؤكد أن إيران شجَّعت نظام بشار الأسد على استخدام العنف المفرط في مواجهة المتظاهرين، ظناً منها بأن ذلك سينجح مثلما نجح نظام الملالي في قمع ملايين الإيرانيين، الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات في “الثورة الخضراء” أو “الربيع الفارسي” 2009-2010.

وبحثِّها النظام على استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين، ومشاركة جنود من “الحرس الثوري” والميليشيات التابعة لها في الاعتداء على المتظاهرين بالرصاص الحي، تتحمل إيران مع نظام بشار الأسد مسؤولية دفع الأوضاع إلى صدام مسلح، بظهور مجموعات من المعارضة المسلحة أخذت على عاتقها حماية المتظاهرين.

تشكَّلت تلك المجموعات في البداية من ضباط وجنود انشقوا عن جيش النظام وأسسوا “الجيش الحر”، ومع استمرار النظام في القتل والقمع خرجت الأمور عن السيطرة، وتفشت ظاهرة تناسل العشرات من المجموعات المسلحة، فيما عرف لاحقاً بـ(عسكرة الثورة) السورية، دون إغفال عوامل إقليمية أخرى لعبت دوراً في خلق تلك الظاهرة لأجندات متعددة.

تحشيد طائفي لتدخل عسكري واسع

واجه النظام تراجعات كبيرة في ساحات القتال، حتى بات لا يسيطر إلا على مساحات محدودة في مناطق حاضنته الطائفية، وسيطرة رخوة على بعض المناطق التي لم تكن قد حسمت موقفها بعد، في الأشهر الأولى من الثورة. وتم حينها تداول معلومات على نطاق واسع مفادها أن القائد السابق لـ”فيلق القدس” قاسم سليماني زار بشار الأسد ووجده في حالة انهيار كامل، ويستعد لمغادرة قصر المهاجرين.

عندها قرَّرت إيران التدخل بكل ثقلها للحيلولة دون سقوط النظام، وجرى استقدام أعداد كبيرة من مقاتلي ميليشيا “حزب الله” اللبناني وميليشيات عراقية وأفغانية تحت ذريعة (حماية الأضرحة والمقامات الشيعية). وفي أيلول/سبتمبر 2011 أصدر المرشد الإيراني علي خامنئي (فتوى بالجهاد في سوريا) دعماً لنظام بشار الأسد، واعتبر ما وصفه بـ(الجهاد) واجباً شرعياً.

وأرسلت إيران المئات من عناصر “فيلق القدس” إلى سوريا، وزودت جيش النظام بأطنان من الأسلحة والذخائر، لكن الكفة بقيت راجحة لصالح المعارضة المسلحة على كل الجبهات حتى بداية صيف 2013، رغم التدخل الإيراني.

ومثَّلت معركة القصير، في ريف حمص حزيران/يونيو 2013، تحولاً في مجرى الحرب، بامساك الجنرالات الإيرانيين بقيادة العمليات، والاعتماد في الهجمات على مقاتلي “فيلق القدس” الإيراني وميليشيا “حزب الله” اللبناني، وأدى استيلاء النظام وحلفائه الإيرانيين وأذرعتهم على مدينة القصير إلى تغيير مهم في الخريطة العسكرية، بتعزيز سيطرة النظام على حمص والطرق الدولية الواصلة بينها وبين دمشق ومدن الساحل السوري. كما أدت نتيجة المعركة إلى بروز دور “حزب الله” في المعارك ضد المعارضة المسلحة.

إيران واستدعاء التدخل الروسي

غير أنه رغم التقدم الميداني الذي حققته قوات النظام والقوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها في بعض مناطق محافظتي محافظات طرطوس واللاذقية وبعض المناطق في ريفي حمص وحماة، لم يحدث تغير كبير في غالبية المحافظات الأخرى، بما فيها محافظة ريف دمشق.

وألحقت المعارضة خسائر كبيرة بجيش النظام والجيش الإيراني والميليشيات الشيعية، بالأرواح والعتاد، وبقيت الإنجازات المحدود التي حققها النظام وحلفائه عرضة للتبخر، ولم يبدِّل من المعادلة تعزيز إيران لقواتها في سوريا بآلاف الجنود.

وللخروج من مأزقها المشترك مع نظام بشار الأسد عملت إيران على استدعاء تدخل عسكري روسي، بغطاء شكلي من النظام. ويقال أن قائد “فيلق القدس” السابق، قاسم سليماني، هو من أقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بخطوة إرسال طائرات وسفن حربية إلى سوريا، وتوفير غطاء جوي للقوات الإيرانية والميليشيات وبقايا جيش النظام. وبصرف النظر عن مصداقية هذه الرواية، بدأ التدخل العسكري الروسي في سوريا بالفعل في أيلول/سبتمبر 2015، وما زال مستمراً بتنسيق مع إيران والنظام.

وبدعم من روسيا حصلت إيران على فرصة، كانت الأولى من نوعها، لحضور مباحثات فيينا لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، تحت رعاية الأمم المتحدة، لكنها لعبت في المباحثات دور المدافع عن نظام بشار الأسد.

وكما ظهر لاحقاً، إن مشاركة إيران في إطلاق مساري “أستانا” و”سوتشي” للمفاوضات بين المعارضة ونظام بشار الأسد، ولعبها دور الضامن مع روسيا وتركيا، لم يغير من موقفها القائم على تغليب الخيار العسكري لحل الأزمة، ولذلك واصلت قواتها وميليشياتها، مع جيش النظام والطائرات الروسية، ارتكاب جرائم حرب مروعة ضد المدنيين العزل، لبسط سيطرة النظام مجدداً على مناطق المعارضة. لكن ما الذي كسبته إيران فعلياً على المدى الاستراتيجي؟

انقلاب السحر على الساحر

تفاخر إيران بأن الفضل يعود لها في قلب المعادلة العسكرية لمصلحة نظام بشار الأسد، بتدخلها عسكريا لصالحه، ودعمها له مادياً واقتصادياً، وإقناعها روسيا بالانضمام لها في دعم النظام عسكرياً بشكل مباشر. وتزعم القيادة الإيرانية بأنها حققت مكاسب استراتيجية كبيرة، تجعل من إيران القوة الإقليمية الأولى، بنجاحها في بناء حضور مهم ومقرر، من خلال أذرع قوية، في أربع دول عربية مهمة، العراق- سوريا- اليمن- لبنان، إلا أن هذا الادعاء تحيط به الشكوك، ليس من باب إنكار إمكانيات إيران وقدرات أذرعها التابعة لها، بل لجهة قدرة إيران على استثمار الحروب التي تخوضها، سواء بشكل مباشر أو بالوكالة، وقطف ثمار سياسية واقتصادية تستمر وتتعمق على المدى الاستراتيجي.

من الأسباب التي تدعو للشك في المزاعم الإيرانية وجود خلافات كبيرة بين أجندات المشروعين الإيراني والروسي في سوريا، فضلاً عن التناقض بين المشروعين الإيراني والتركي. ولذلك من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن روسيا تدخلت عسكريا في سوريا لمساعدة إيران على “بناء الهلال الشيعي”. لقد تدخلت روسيا عسكرياً في سوريا للحصول على مكاسب خاصة بها تستخدمها كأوراق قوة في سياق تنافسها على النفوذ مع الولايات المتحدة والدول المركزية في الاتحاد الأوروبي.

كما أن روسيا لا تجد نفسها مضطرة لتسويق إيران في مرحلة إعادة بناء سوريا، بل لا مصلحة لها بذلك، كونها تعرف سلفاً أن لا مكان لإيران في تلك المرحلة التي ستقودها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وأن على روسيا نفسها أن تبحث عن مكان فاعل لها في هذه العملية.

بالإضافة إلى أن الغالبية الساحقة من أبناء الشعب السوري ضد أي نفوذ أو تأثير لنظام الملالي الإيراني، لأنه أوغل في سفك الدم السوري دفاعاً عن نظام ديكتاتوري مجرم. ويدرك حكام طهران أنهم ليسوا موضع ترحيب في البلدان العربية، بما فيها تلك التي تعبث فيها أذرعهم الطائفية، والمثال على ذلك نقمة الشارع الشيعي في العراق على سياسات إيران وأدواتها في النظام السياسي العراقي، كما تجلى في المظاهرات والاعتصامات المتواصلة منذ عدة شهور.

ولو افترضنا جدلاً أن النظام القائم في سوريا سيحافظ بشكل أو آخر على شيء وجوده سيكون لزاماً على ما سيتبقى من النظام أن يخرج من عباءة نظام الملالي، وهكذا بافتراض أفضل السيناريوهات بالنسبة لإيران لا حصة لها في سلة أو معادلة المكاسب الاستراتيجية، إن صح التعبير.

ومن المتوقع أن تضطر إيران للانكفاء داخلياً تحت وقع حالة من الغليان الشعبي المتصاعد، أماطت اللثام عنها الاحتجاجات الشعبية الواسعة، التي عمَّت المدن الإيرانية في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 احتجاجاً على زيادة أسعار البنزين، وتجَّددت في كانون الأول/يناير العام الجاري على خلفية كذب حكومة روحاني في ملابسات إسقاط طائرة ركاب أوكرانية بصاروخ إيراني. المتظاهرون عبروا عن نقمة على السياسات الحكومية، جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية والقمع ومصادرة الحريات، وأطلقوا شعارات تدعو لاستقالة المرشد علي خامنئي، وتندد بـ(الحرس الثوري) وإهدار مليارات الدولارات في دعم نظام بشار الأسد والأذرع الميليشياوية.

باختصار؛ ما ينتظر إيران هو انقلاب السحر على الساحر، بتصاعد رفض الشعب الإيراني لسياسات نظام الملالي، وتخلي حلفائها عنها عندما تحين لحظة الحقيقة، بطي صفحة الحرب، والبحث عن تسوية سياسية يتوافق عليها السوريون، من شروطها التي لا غنى عنها رحيل نظام بشار الأسد وكفِّ يد إيران عن العبث بحياة ومصير السوريين.