ديفيد بولوك
معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى:22/7/2017
“تركيا تقول إنها لا تعلن الحرب على «وحدات حماية الشعب»” (وهي أبرز ميليشيا كردية سورية متواجدة في الجهة المقابلة من الحدود) هو العنوان الذي اختارته صحيفة “حرييت” التركية في عددها الصادر في 5 تموز/يوليو، نقلاً عن لسان نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش. ولكن كورتولموش أضاف إنه “إذا لاحظت تركيا تحركاً لـ «وحدات حماية الشعب» في شمال سوريا بما يشكل تهديداً لها، فسوف تردّ بالمثل”.
بيد أن هذا الاقتباس الذي اتصف بقسوة معهودة إنما انطوى على شرط حذر يثير مسألةً حقيقية وجوهرية، وإن كانت تمر غالباً مرور الكرام. إذ إنّ «وحدات حماية الشعب» لم تهدد تركيا ولا حتى القوات التركية المتواجدة داخل سوريا منذ عام 2012. ففي تموز/يوليو من ذلك العام، أي منذ خمس سنوات تحديداً، استولت الميليشيا الكردية السورية على القسم الأكبر من المنطقة الحدودية، ووعدت آنذاك في إطار اتفاق توسط فيه حليف تركيا رئيس «حكومة إقليم كردستان» في العراق مسعود بارزاني بحصر تركيزها على سوريا والامتناع عن الاعتداء على تركيا – أو حتى عن دعم أي هجمات يشنها ضدها «حزب العمال الكردستاني»، الحركة الأم لـ «وحدات حماية الشعب».
والتزمت «وحدات حماية الشعب» وحزبها السياسي «حزب الاتحاد الديمقراطي» بهذا الوعد على مدى السنوات الخمس الماضية. ويقيناً، أن الحكومة التركية لم تعد تقرّ علناً بهذا الواقع، ولكنها اعتادت على ذلك حتى فترة غير بعيدة تعود إلى أواخر عام 2015 عندما انهارت محادثات السلام بين تركيا و «حزب العمال الكردستاني». وتوحي تلك التجربة بأن مثل هذا التوافق بين أنقرة و «حزب الاتحاد الديمقراطي» قد يبصر النور مجدداً.
وبالفعل، يُفترض أن يكون هدف تركيا على المدى الطويل – الذي تدعمه الولايات المتحدة وغيرها من الأصدقاء – متمثلاً بتعزيز العلاقة بين هذين الخصمين الراهنين بما يشبه الروابط الودية جداً التي تجمع بين أنقرة و«حكومة إقليم كردستان» التي تتمتع بالحكم الذاتي في العراق، علماً بأن تركيا وأكراد العراق كانوا من ألدّ الأعداء منذ أقل من عقد مضى. إلّا أنّ الجانبين شهدا تحولاً تاريخياً عاد بالفائدة المتبادلة عليهما وأوصلهما إلى ما هما عليه الآن، أي أقرب الحلفاء في المنطقة على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ويعتبر هذا الأمر على المدى البعيد هدفاً ممكناً لتركيا وأكراد سوريا أيضاً. وحتى المسؤول البارز في «حزب العدالة والتنمية» محمد شيمشك أقرّ علناً بأنه قد يصبح في النهاية الحصيلة المنشودة من هذا النزاع المحتدم حالياً.
ويتمثل الطريق إلى ذلك بتوسيع الشرخ بين أكراد سوريا و «حزب العمال الكردستاني»، وبالتالي الاقتراب من موافقة تركيا وحتى تحالفها في النهاية مع الإقليم الحليف الخاضع لسيطرة الأكراد في الجنوب. وإذا بدت هذه الفكرة ضرباً من المثالية، فهي ليست كذلك، بل إنها تنسجم مع ما حدث خلال العقد المنصرم على طول الحدود التركية مع «حكومة إقليم كردستان» بدعمٍ صامت بل قوي من الولايات المتحدة. فالعلاقات ذات الود الاستثنائي بين أنقرة وإربيل، حتى في مواجهة التوترات العامة الجديدة بشأن استفتاء الاستقلال الذي اقترحته «حكومة إقليم كردستان» بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 2017، يوحي بشدة بأن هذا “النزاع العرقي القديم” تحديداً لا يجوز أن يشكل عقبةً مستحيلة أمام التوافق الاستراتيجي. صدّق أو لا تصدق، قد تجد تركيا يوماً ما على حدودها مع سوريا منطقةً كردية مستقلة ومنسجمة مع مصالحها بقدر تلك الواقعة على حدودها مع العراق.
وجهات نظر تركيا بشأن «حزب الاتحاد الديمقراطي»: مواكبة الحقائق الجديدة
صحيحٌ أن الحالتين الكرديتين عند الحدود التركية تنطويان على اختلافات جمة، ولكن «حزب الاتحاد الديمقراطي»، بخلاف الحزبين الحاكمين في كردستان العراق «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أو «الاتحاد الوطني الكردستاني»، له تاريخ مشترك وقرابة إيديولوجية مع عبدالله أوجلان وحركة «حزب العمال الكردستاني» التي أسسها داخل تركيا والتي تصنفها حكومة تلك البلاد بالتنظيم الإرهابي. كما أن أوجلان نفسه كان ناشطاً في سوريا بين عامي 1988 و 1998 تقريباً، حين فرّ منها لتقبض عليه تركيا وتسجنه منذ ذلك الحين. ولا يزال «حزب الاتحاد الديمقراطي» يعتبر نفسه متفرعاً عن «حزب العمال الكردستاني» ويعبّر حتى الآن عن تعاطفه مع محنة أوجلان وقلقه إزاءها كما حصل في مؤتمر الحزب الأخير الذي عقد في بروكسل في أيلول/سبتمبر 2016.
لكن ما يزيد الوضع تعقيداً من وجهة النظر التركية هو أن الكثير من أكراد سوريا لهم روابط عائلية قديمة وغيرها بالأكراد المقيمين عبر الحدود إلى الشمال. فأكراد سوريا البالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين نسمة يتحدثون لهجة الكرمنجي الكردية نفسها كغالبية المواطنين الأتراك الأكراد والبالغ عددهم نحو 15 مليون نسمة، بينما لا يزال الأفراد والمقاتلون من «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «حزب العمال الكردستاني» يتنقلون ما بين الطرفين. ولا تزال قيادة «حزب العمال الكردستاني» المعتكفة في جبال قنديل النائية على مقربة من حدود «حكومة إقليم كردستان» مع إيران وتركيا، تملك بعض النفوذ على قرارات «حزب الاتحاد الديمقراطي».
وعلى الرغم من ذلك، ومع النجاحات العسكرية التي أحرزها «حزب الاتحاد الديمقراطي» والدعم الأمريكي الذي حصده، ناهيك عن الاستقلالية الفعلية التي حققها لأكراد سوريا – الذين يشكلون الشريحة الكبرى من ناخبيه – خلال السنوات الخمس الماضية، تميّز أكثر فأكثر عن «حزب العمال الكردستاني» وكوّن هيكلياته الخاصة ومصالحه الذاتية المحددة على أساس جغرافي داخل سوريا وخارج الحدود التركية. ولدى «حزب الاتحاد الديمقراطي» سلسلة قيادية سياسية وعسكرية خاصة به ومنفصلة عن أصوله داخل «حزب العمال الكردستاني». ولا تختلف قيادتهما في أفرادها فحسب بل في سياساتها أيضاً.
وكما قال الرئيس المشارك لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» صالح مسلم (إلى جانب نظيرته ذات المنصب الأسمي إنما الإلزامي بفعل إيديولوجيا الحزب) ومسؤولون آخرون بالتفصيل المقنع لكاتب هذا المقال، يعمل قياديو «حزب الاتحاد الديمقراطي» المحليون ومجالسه داخل سوريا بشكل مستقل ليس عن الأوامر الخارجية فحسب بل عن أحدهم الآخر ككل. فقد يكون حكام «حزب الاتحاد الديمقراطي» المحليون صارمين، “لكنهم على الأقل لا يقطعون الرؤوس” وفق العبارة البارزة التي كتبها مسلم للكاتب. وحتى إذا استمر طاقم [جبال] قنديل بممارسة نفوذه على عمليات «حزب الاتحاد الديمقراطي» داخل سوريا، إلّا أنّ السياسات الفعلية التي ينتهجها الجميع هناك تهدف إلى الحفاظ على سيطرتهم في سوريا وتوسيعها، وليس إلى الهجوم على تركيا أو مساعدة «حزب العمال الكردستاني» على القيام بذلك على الجانب الآخر من الحدود.
وفي الواقع، إنّ المناطق الحدودية الخاضعة لسيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» هي تلك التي لا يتم فيها تهريب الأسلحة والمخدرات والأموال إلى تركيا. وهذا ليس رأي الكاتب الشخصي، بل هو تقدير يعكس الأدلة التي قدمها المحللون الاستخباريون الأتراك خلال اجتماع خاص حضرْتُه العام الماضي، وهو أيضاً تقدير السفير الأمريكي السابق إلى تركيا والعراق ونائب مستشار الأمن القومي السابق جيمس جيفري، كما عبّر عنه في عرض قدمه هذا العام لمؤسسة “سيتا” التي تعتبر من أكبر مناصري «حزب العدالة والتنمية».
وقد التزم «حزب الاتحاد الديمقراطي» بالاتفاق الذي أبرمه عام 2012 والقاضي بتفادي الهجوم على تركيا، وعلى وجه التحديد لأن ذلك يعكس المصلحة الذاتية الجديدة لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وهي حماية منطقته الخاصة داخل سوريا عوضاً عن نقل الصراع الكردي عبر الحدود. وهذا يجعل من «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «وحدات حماية الشعب» شركاء محتملين لتركيا – لا تهديداً لها – في ضمان حدودهم المشتركة بوجه «حزب العمال الكردستاني» أو تنظيم «الدولة الإسلامية» أو خصوم آخرين. وعلى المدى البعيد، إنّها “مهمة صعبة جداً” ولكنها ليست بمهمة مستحيلة. ولتعزيز هذه الحكمة غير التقليدية، من المفيد جداً إلقاء نظرة وجيزة إلى مرحلة من الماضي ليست ببعيدة وافقت فيها أنقرة على ما يبدو على هذا التقييم الأكثر تفاؤلاً.
المعلومات الأساسية الأخيرة: التقارب بين تركيا و «حزب الاتحاد الديمقراطي»، 2012-2015
على مدى السنوات الأربع حتى أواخر عام 2015، أقرّت الحكومة التركية، على الأقل عملياً، بمجموعة الوقائع الجديدة بشأن الأكراد في سوريا. فقد رحّبت بمشاركة صالح مسلم في المحادثات التي أجريت في تركيا في عدة مناسبات، كما قبلت بسيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» على معظم المنطقة الحدودية السورية. ومنذ مدة قصيرة تعود إلى أيلول/سبتمبر 2015، سمحت تركيا لبضعة آلاف مقاتل من قوات البشمركة الكردية العراقية بعبور أراضيها وهم في طريقهم إلى مساعدة «حزب الاتحاد الديمقراطي»/ «وحدات حماية الشعب» في تحرير مدينة كوباني الحدودية السورية من حكم تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي الوقت نفسه، لم تنتقم أنقرة من الضربات الجوية الأمريكية والأسلحة التي أسقطتها الولايات المتحدة بالنيابة عن «قوات سوريا الديمقراطية»، التي تشكل مزيجاً من «وحدات حماية الشعب» (بنسبة 80%) وميليشيات محلية عربية وغيرها (بنسبة 20%) على الرغم من الاحتجاجات العامة الصاخبة والمتواصلة.
وبحلول شباط/فبراير 2016، فحتى الخط الأحمر الذي وضعته تركيا في البداية والقاضي بـ “منع أي وجود لـ «وحدات حماية الشعب» غرب الفرات” قد تم تغييره ضمنياً لفتح المجال أمام هجوم “مؤقت” وناجح شنته هذه الوحدات ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في بلدة منبج التي تشكل مفترق طرق استراتيجي عبر النهر وعلى بعد ثلاثين ميلاً فقط جنوب الحدود التركية. وفي آب/أغسطس 2016، أي بعد مرور شهر على محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، أرسلت أنقرة جنودها إلى سوريا للاستحواذ على ممر أعزاز- جرابلس الذي يفصل معقل عفرين الغربي التابع لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» عن معقلي الجزيرة وكوباني شرقاً، وبالتالي منع الأكراد من السيطرة على المنطقة الحدودية السورية التركية بأكملها. ولكن تركيا لم تشن هجوماً على «قوات سوريا الديمقراطية» بشكل جماعي، واستقر الجانبان في مواجهة غير مستقرة داخل سوريا.
التسوية المؤقتة بين تركيا و «حزب الاتحاد الديمقراطي»، 2016 حتى الآن
على الصعيد الرسمي، انهارت العلاقات بين تركيا و«حزب الاتحاد الديمقراطي» لحظة انهيار المحادثات بين تركيا و «حزب العمال الكردستاني» في أواخر عام 2015. ومع دخول تركيا و «حزب العمال الكردستاني» في نزاع مسلّح بعد عامين من محادثات السلام الواعدة، تبنّت أنقرة و «حزب الاتحاد الديمقراطي» لهجة عدائية تجاه أحدهما الآخر وعاودا استخدام مصطلحات “الإرهابيين” و”المضطهِدين”. ولكن الأمل لم يُفقَد بالكامل. فقد تفادى الجانبان بالدرجة الأولى الاشتباكات المباشرة عبر حدودهما المشتركة الواقعية والشرعية حتى مع استمرار المناوشات المتفرقة بينهما على نطاق ضيق داخل سوريا. وحين أقدم «حزب الاتحاد الديمقراطي» في وقت متأخر على سحب بعض قواته من منبج، بناء على طلب من الولايات المتحدة وتركيا، أقرّت أنقرة علناً بهذا التحول الإيجابي، وأعلنت عن إمكانية العمل مع عناصر «قوات سوريا الديمقراطية» العربية إنما ليس مع قادتهم الأكراد المنتمين إلى «وحدات حماية الشعب».
والأدق في هذا السياق هو أن تركيا، بالرغم من الاعتراضات الشفهية المتواصلة، وقفت على الحياد بينما تحركت «قوات سوريا الديمقراطية»، أي «وحدات حماية الشعب» في الغالب، بقوة – وبدعم أمريكي كبير تضمّن إمدادات مباشرة لبعض الأسلحة الثقيلة – ضد عاصمة تنظيم «الدولة الإسلامية» في الرقة في منتصف عام 2017. ولم ترسل تركيا مزيداً من القوات إلى الجنوب لمجابهة هذا التطور الكبير الذي حذّرت منه بشدة؛ فقد بقيت قاعدة “إنجيرليك” الجوية متوفرة أمام الاستخدام الأمريكي؛ وزار أردوغان الرئيس ترامب في واشنطن في الموعد المحدد على أي حال. وحتى اليوم، كما هو مبين في الجزء العلوي من هذا المقال، دائماً ما تصاغ التحذيرات التركية بلغةٍ مشروطة مفادها “سوف نردّ إذا استهدفتنا «وحدات حماية الشعب»”، وليس بوصفها معارضة مطلقة.
ولذلك توحي أفعال تركيا، بخلاف أقوالها، بأنها تقبّلت فكرة أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «وحدات حماية الشعب» لا يشكلان تهديداً لها، على الأقل ليس في الوقت الراهن. وأيقنت أن تحرّك الجيوش الكردية السورية في الجنوب باتجاه الرقة أفضل بكثير من تحركها شمالاً نحو الحدود التركية. وتدرك تركيا أيضاً – وبالرغم من فورات الغضب الشفهية هنا أيضاً – بأنه من الأفضل لها ألّا تعرّض تحالفها الأمريكي الجوهري للخطر حول هذا الخلاف الكردي الخاص. ومع أخذ هذه المعطيات بعين الاعتبار، لننتقل من الماضي المعقد والحاضر المظلم إلى المستقبل المتوسط الأجل الذي يسهل دائماً التنبؤ به في الشرق الأوسط.
الآفاق المستقبلية والتداعيات السياسية
تخضع الخيارات المتاحة في هذا المجال أمام تركيا على المدى المتوسط، كما هو مذكور أعلاه، لتأثير كبير من الوقائع الحاصلة على الأرض في سوريا وللسياسات الأمريكية على تلك الساحة. ومن وجهة نظر واشنطن، إن الأمن وحده هو الأساس المنطقي الرئيسي لدعم «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «وحدات حماية الشعب» والميليشيات العربية وغير العربية الحليفة لها، نقطة. وليست هذه محاولة لإحداث شرخ بين الولايات المتحدة وحليفها البالغ الأهمية في “الناتو”، أي تركيا. بل هي ببساطة طريقة لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» بفعالية مع توجيه طموحات الأكراد السوريين ليس ضد تركيا، ولكن لصالح الحكم الذاتي الكردي داخل سوريا. ومن هذا المنطلق، لا يعود الدعم الأمريكي لكل من «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «وحدات حماية الشعب» بمثابة تهديد، حتى إذا افترضنا استمراره بعد تحرير الرقة وهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية»، بل يصبح في الواقع حسنة تصب لصالح الأمن القومي التركي. وحيث تعترض الحكومة التركية اليوم على وجهة النظر هذه، على الأقل علناً، بوسعي القول إن تركيا مستعدة للقبول بها على مضض، على الأقل في السر. وهذا تقييم يؤيده باحثٌ تركي شاب بارز وعضو سابق في البرلمان، وهو أيكان إردمير الذي أكّد مؤخراً في منتدى عام في واشنطن العاصمة على ما يلي:
“على الرغم من أن الحكومة التركية تواجه تحدياً كبيراً في الداخل عندما يتعلق الأمر بالسياسة العالمية – حيث يتعين عليها الاستمرار في مواقفها لتضمن مصالحها ويتعين عليها الحفاظ على خطاب مناهض للولايات المتحدة في الداخل – أَعتَقِد أنها مستعدة للتعايش مع هذا القرار. وأعتقد أنها تعتبر هذا الأمر تكتيكياً أيضاً لأنها تعلم هي نفسها ما يعنيه العمل مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» و «وحدات حماية الشعب» بطريقة تكتيكية.”
ولذلك، فعلى الأقل في ظل السيناريوهات الأكثر منطقيةً على المدى القريب، من المحتمل أن ينتج عن العلاقة الأمريكية -التركية استمرار القبول الضمني بشكل من أشكال الحكم الذاتي للأكراد بحكم الأمر الواقع، تحت سيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وذلك في أقسام من الأراضي السورية على طول الحدود التركية. وهذا يفترض بالطبع أن الولايات المتحدة ستُبقي «حزب الاتحاد الديمقراطي» على إشعار تام بضرورة مواصلته الامتناع عن أي اعتداءات على القوات التركية وأي دعم مادي لـ «حزب العمال الكردستاني» مقابل المساعدة العسكرية الأمريكية والدعم الدبلوماسي من واشنطن من أجل التوصل إلى حل سياسي “اتحادي” في سوريا. وخارج إطار هذه الحسابات الفورية، من المرجح أن تعكس التصرفات التركية متغيّرَيْن رئيسيَيْن آخريْن مرتبطيْن بالأكراد، سواء داخل داخل البلاد أو خارجها.
أولاً، يستحسن بتركيا ألا تنسى أن المصالح العسكرية والسياسية الصريحة والواضحة للأكراد قد تشعّبت جغرافياً وخاصة خلال السنوات الخمس الماضية. وكما يختلف أكراد سوريا وأحزابهم وحركاتهم وميليشياتهم ومؤسساتهم بشكل متزايد عن المواطنين الأكراد في تركيا، كذلك يشتد اختلافهم عن أبناء عمومتهم الأكراد في العراق. وبالفعل، فإن معظم الأكراد في تركيا وسوريا والعراق وإيران اختاروا التقليل من شأن الحلم الكردي الجامع لصالح السعي بشكل منفصل للحصول على حقوقهم داخل بلدانهم (أو ربما خارجها، كما هو الحال بالنسبة لـ «حكومة إقليم كردستان»). وهذا الواقع المستجد يفسح مجالاً أكبر أمام تركيا للمناورة بشأن هذه القضايا، ولا سيما بالعمل بشكل ثابت على فصل «حزب الاتحاد الديمقراطي» عن «حزب العمال الكردستاني» بدلاً من شملهما معاً بين الفينة والأخرى.
لكن الأكراد لا يزالون أكراد، وعلى وجه الخصوص من المرجح أن يبقى الارتباط الوثيق بين أكراد سوريا وتركيا، على الأقل بشكلٍ غير مباشر.
أما في الداخل التركي في الوقت الحاضر، فقد تخلّى كل من أنقرة و «حزب العمال الكردستاني» بشكل مأساوي عن تقاربهما المتوقف الذي دام بين عامي 2013 و 2015 واستأنفا حرباً صريحة على مستوى متدنٍّ. ويبدو أن الهوة بين الاثنين، التي تضايقت على ما يبدو قبل عامين فقط، تبدو اليوم شاسعة بشكلٍ لا يعقل. ولكن من الممكن سدّ هذه الهوة يوماً ما – وإن لم يكن مع «حزب العمال الكردستاني»، فربما مع أحزاب كردية أصيلة أو تنظيمات شعبية أخرى. ومن شأن أي تقدم يحرز في هذا المجال، إلى جانب قيمته الفعلية، أن يخفف أيضاً بوضوح من حدة المخاوف والشكوك التركية بشأن «حزب الاتحاد الديمقراطي» عبر الحدود.
وهذا سببٌ آخر يوضح لماذا ينبغي على الولايات المتحدة أن تنصح أصدقائها الأتراك على انفراد باستئناف عملية السلام الداخلي مع الأكراد، وعرض مساعدة أمريكية ملموسة معها، إذا رغبت في ذلك. وتنطبق على هذه الحالة فعلاً العبارة المبتذلة “لا حل عسكري”. وفيما يخص أكراد سوريا بالدرجة الكبرى، ليس لدى تركيا سبب وجيه للسعي إلى تحقيق مثل هذا الحل، بل لديها أسباب جمة للسعي وراء التعايش السلمي عبر حدود مشتركة وربما أيضاً متعاونة.
ديفيد بولوك هو زميل “كوفمان” ومدير “منتدى فكرة” في معهد واشنطن.