عمر قدور

بقدر ما يحاول نظام الأسد إظهار نفسه كمنتصر، لا يوفر حلفاؤه فرصة لإظهاره تابعاً لا يملك زمام القرار، مع الإلحاح على تثبيت انتصارهم وحصد نتائجه. هذا بات معلوماً، والاتفاق الثلاثي بين موسكو وطهران وأنقرة هو اتفاق الأمر الواقع، حيث لا يستطيع كل طرف سوري معارضة داعميه، ما ينطبق على فصائل عسكرية تقاتل النظام، ولا تجد ظلاً أيديولوجياً أو لوجستياً تحتمي به سوى رجب طيب أردوغان، حتى عندما يغلّب الأخير مصالحه وتحالفاته الخاصة على ما كانت تجهر به تلك الفصائل حتى وقت قريب.
سورياً، هي تسوية الخاسرين ومنزوعي الإرادة. قد يُقال أن أي «حرب أهلية»، وربما أي حرب بالمطلق، خسارة للجانبين بالمعنى الإنساني، وفي الحروب الأهلية يصعب الحديث عن منتصر بالمعنى الوطني. إلا أن خسارة الأطراف السورية تتجاوز تلك العموميات، وتتجاوز العلاقة التقليدية بين أمراء الحرب وداعميهم. على نحو خاص، ينبني جزء معتبر من الخسارة على عدم وجود توازن مقبول بين خارجية هذه الأطراف وسوريتها، وعلى ارتهانها الكلي للخارج.
في الحرب الأهلية اللبنانية مثلاً، استقرت التسوية على أمراء الحرب من زعماء الطوائف. ما يميزها عن المثل السوري، على رغم النفوذ الخارجي المتعاظم، إرث من الطائفية السياسية جعل أولئك الأمراء ممثلين إلى حد مقبول لطوائفهم. ولعل الانتخابات اللبنانية، على رغم كل الانتقادات لها، تدل على تشابك تلك الزعامات مع قاعدتها الأهلية في صيغة يصعب فكّها أو الفكاك منها بسهولة.
المثل السوري مختلف لجهة وجود سلطات أمر واقع، تتعين بنظام الأسد طوال عقود، ومن ثم بتنظيمات أو ما يشبه إمارات حرب انتعشت بين 2013 و2015. ولا يخفى على المتابع انخفاض شعبية تلك التنظيمات وشرعيتها مع طول أمد سيطرتها. وهي إذ بدأت في أوج شعبيتها على أرضية معاداة النظام ومطالب التحرر منه، فقد انخفضت مع الممارسات القمعية لسلطات الأمر الواقع الجديدة. هناك أمثلة عدة على تحركات شعبية ضد سلطات الأمر الواقع الجديدة، من مناطق سيطرة «جيش الإسلام» في غوطة دمشق وصولاً إلى معاقل لـ»جبهة النصرة» في الشمال، من دون أن تعني التحركات قبولاً بعودة سلطة الأمر الواقع القديمة.
في مناطق سيطرة النظام، قُضي تماماً على أي احتمال لوجود تحرك شعبي، لكن التململ والتحرك الصامتين تفضحهما اعتقالات لم تتوقف، حتى في حق معارضين قد يُصنّفون مهادنين للسلطة، وتفضحهما أيضاً انتقادات على صفحات الموالاة في وسائط التواصل الاجتماعي، إلى درجة أصبحت مصدراً لصور سرقات بيوت المدنيين بعد استباحة حلب.
وبدأ النظام أيضاً حربه على الثورة وهو في ذروة شعبيته. يصح أن نتجاوز ذلك التبسيط الذي ينص على أن التراجع في شعبية الفصائل المسلحة يصبّ في مصلحته، أو أن تدمير المناطق الخارجة عن سيطرته يضمن له الولاء، لا الخوف والصمت. تراجع شعبية النظام يعود الى أسباب عدة، أولها الثمن الباهظ المدفوع لقاء انتصار لن يأتي، وعندما أتى أخيراً جاء لمصلحة قوى خارجية. الثمن لا يقتصر على ضحايا قوات النظام، الذين فاق عددهم 100 ألف قتيل، بل يتضمن أيضاً الكلفة الاقتصادية والاجتماعية على الطبقات الأفقر، ويجوز القول أنها وقعت على الجميع باستثناء طبقة النظام وشبيحته. وكما هو معلوم، أفلت النظام وحلفاؤه شبيحتهم لاستباحة البلاد بمختلف الطرق، بما فيها المحاولات الحثيثة لإلحاق العلويين بتشيّع محافظ مختلف كلياً عقائدياً واجتماعياً.
في الضفة الثالثة من المستنقع، تبدو الميليشيات الكردية أكثر استقلالاً عن الصراع الأساسي. لكنها أيضاً تقف في صف الخاسرين، بعد استيلائها التام على القرار الكردي منذ نهاية 2012 تقريباً. فسلطة الأمر الواقع الكردية، بحكم تحالفاتها ومصالح حلفائها، مهددة بمزيد من الخسارة بعد تلاشي الأوهام التي زرعتها عن السيطرة على الشمال السوري برمته. قبل ذلك، تكفلت ممارساتها القمعية بهجرة واسعة في صفوف الأكراد، بعضها بسبب الحرب المدمرة ضد «داعش» وبعضها الآخر بسبب حملات التجنيد القسري التي لم توفر النساء أحياناً. كما فعلت سلطات الأمر الواقع الأخرى، جابهت الميليشيات خصومها بالاعتقال وقابلت تظاهراتهم بالرصاص الحي، وثمة رأي عام كردي يزداد انتشاراً يصنّفها قوةً خارجية، بحكم تبعيتها لحزب العمال الكردستاني التركي، وبسبب زجّها الأكراد في معارك لا مصلحة لهم فيها.
اللعب على وتر الغرائز القومية الشعبوية وصل إلى نهايته مع تراجع تلك الميليشيات عن تسمية «روج آفا» لمصلحة تسمية «شمال سورية»، ومع التفاهمات الروسية – التركية التي ستظهر تبعاتها على الأكراد، ومنها إنذار الميليشيات بمغادرة بعض أماكن سيطرتها الحالية.
نحن على الأرجح إزاء حالة معقدة واستثنائية، تكون فيها أطراف التسوية من السوريين في حضيض شعبيتها ومشروعيتها، وربما تنتظر ثمار التسوية لتكريسها كأمر واقع مستدام، هذه المرة بمظلة دولية وإقليمية ترسم حدوداً شبه نهائية. رهان القائمين على التسوية يكاد يتلخص في يأس السوريين، وفي ذاك التوق المبرر إلى الأمان والانتهاء من المقتلة، وربما كان رهان الأطراف المحلية مشابهاً على اكتساب المشروعية عبر التسوية، وعبر خوف السوريين من تكرار المقتلة.
المراهنة على الخوف، من جميع الأطراف المنتجة له، لن يشكل دعامة قوية للتسوية الروسية، لا فقط تضارب المصالح بين الثلاثي الراعي لها. وعلى فرض توافر القدرة التامة على فرضها فهي لن تكون أكثر من لا مركزية قائمة على تقاسم القمع في مناطق النفوذ، ربما وصولاً إلى جزء من المركز. هذا يعني إعادة إنتاج أسباب الثورة، مع سخاء أكبر في المبررات الجاهزة على خلفية العدد المهول من القتلى وهوامشهم الاجتماعية، وعلى خلفية الدمار العام وآثاره الاقتصادية. في الواقع، سيــستفيق الجميع على حقيقة أنهم دفعوا بلا مقابل، وأن مَن وعدوهم بأثمان للتضحية مستعدون للاتفاق عليهم.
في أحسن الأحوال، سيكون اتفاق المتضررين من جميع الأطراف بعيد المنال، لأن ما يُعرف بالعقل لا تدركه الغرائز بسهولة، ولأن الأطراف الخارجية ستسعى إلى ترسيخ مناطق النفوذ وتعزيز الانقسام المجتمعي السوري، أي أنها ستدفع في اتجاه إنتاج هجين من الصيغتين اللبنانية والعراقية. إذا تحققت هذه الفرضية، لا يُستبعد انكشاف التسوية الحالية على أسوأ ما في هاتين التجربتين.

“الحياة”