في مُستهلّ مهمّته بعد فشل جنيف2 (2014)، تلقّف دي مستورا فكرة ( حلب أوّلاً ) بمفهوم تجميد القتال، وراح يسوّقها باسم الأمم المتحدة، وقال حينها إنها مقاربة جديدة لوقف تصعيد العنف، مختلفة عن وقف إطلاق النار، ومن المهمّ جداً البدء في حلب، لإيجاد إشارة أمل وشكل معيّن من أشكال الاستقرار. والفكرة تقوم على بضع نقاط أساسية، من بينها التركيز الحقيقي على التهديد المتمثّل بالإرهاب، وتقليص العنف ومحاولة التوصّل إلى تخفيفه قدر الإمكان. وافق النظام وقتها على الفكرة، واشتغل الروس عليها بدأب قلّ نظيره، بدءاً من سحق حلب الشرقية، بعد أن جهّزوا مستلزمات التنفيذ من أسلحة لم تجرّب قط، وذخيرة لمّا يُرَ فعلها في لحم البشر، وتحالفات وتوافقات وتفاهمات انتهت بمؤتمر أستانا (2015)، الذي تتابعت نُسخه بثلاثة الضامنين حتى وصلت تسع نُسخ.
وما خرج من أستانا غير إسقاط كل ما هو في مصلحة السوريين، وابتكار مقاربات لإمكانية فرض الحلّ العسكري الأمني بصيغ سياسية مغلّفة بورق إنساني، تمّ من خلالها تدجين العسكر وتعليبهم، بعد خلق مناطق خفض التصعيد التي اعتُرف بها أممياً، والتي كانت عملياً تقطيع أوصال سورية الثائرة والمعارِضة، والعمل على التهام كل جبهة على انفراد، استلهاماً للتجربة الناجحة التي أفضت إلى سقوط حلب وقبلها داريا، والمقايضة بها لتحقيق تفاهمات وتحالفات إقليمية جديدة، ليتتالى عبرها سقوط خفض التصعيد على يد روسيا كبير الضامنين، وعصابات النظام وميليشيات إيران لتحقيق إنجاز سياسي أخير، تفرض من خلاله رؤيتها في القضية السورية على حساب تهاوي القوى العسكرية في تلك المناطق.
لم يكن درس حلب غير جسّ نبض، ومفتاح سياسي لتطوير التعامل مع باقي المناطق، فكان الجميع يحذّر أن يقع في حلب ما وقع في داريا، وكان الخوف بعدها أن يحدث في الغوطة ما حدث في حلب، وقبلها التحذير ذاته عند اجتياح منطقة شمالي حمص، ويتكرّر الآن في جبهة الجنوب، وهو ما يؤكّد توافقاً ضمنياً، بل اتفاقاً دولياً على تصفية النواتج العسكرية للثورة السورية على الأرض، حتى الآن، ما يعني سقوط خفض التصعيد بموافقة الضامن الأمريكي هذه المرّة، وبمباركة إسرائيلية مشروطة، وقبول إيراني متربّص ينتظر انعكاسات الوضع الجديد، وهو تجلّ لغدر أمريكي استطاع أن يلجم الجنوب عن نجدة الغوطة، بحجّة المحافظة على الاتفاق مع الروس، ومن جهة أخرى التخلّي عنه بعد التهديد لمن يتعرّض للجنوب بعد دعمه بكميات أسلحة جديدة، للتصدي لقوات النظام التي كانت تتحشّد في المنطقة، إذ أبلغت الجيش الحرّ أن يذهب وربّه يقاتلان، وأنها-أمريكا- لن تستطيع فعل شيء.
في الوقت الذي يتسارع فيه السيناريو الروسي- الأميركي- الإسرائيلي- العربي لإنهاء القضية السورية، عبر تعهيد موسكو المقاولة الراهنة بإخراج إيران وميليشياتها، وإعادة جيش النظام بطلب إسرائيلي لحماية حدودها، ونشر الشرطة العسكرية الروسية، ونقل المقاتلين الرافضين إلى إدلب، وتسييح ما تبقى من الدواعش صوب البادية، فإن العالم ينتظر إعلان صفقة ما لتقاسم النفوذ في الجنوب على غرار الشمال، تُظهَّر ملامحها الأولى في قمة هلسنكي بين ترامب-بوتين، سيكون فيها أي شيء ما عدا مقررات جنيف1الأساسية.
لكن الأسئلة الملحّة التي تتردّد دائماً: هل يستطيع النظام الإمساك بالمساحة التي صارت إليه، وهل يمكنه التخلّي عن إيران وميليشياتها؟ وهل تنسحب أمريكا من التنف؟ وهل تتمكّن روسيا من إبعاد إيران؟ وأيضاً، ماذا يمكن أن تفعل المقاومة وحيدة في مواجهة آلة الحرب الروسية؟ وإلامَ ستستمرّ في الصمود؟ وعلامَ يراهن مقاتلو الجنوب؟
إن المقاولة الروسية في الجنوب خطوة في طريق إنفاذ إرادة دولية، بتسليم المنطقة للنظام، والالتفاف على الإرادة الدولية وقرارات مجلس الأمن، وبالتالي فإن ما يسمّى بمرحلة الانتقال السياسي قد نُفّذت وفق الرؤية الروسية، وستتدحرج الخطوات التالية لتعود الدولة السورية بنظامها بعد التعديل. أمّا المراهنة على صمود المقاومة واستمرارها فلن يدوم طويلاً، فلا العالم مكترث بما يحصل، ولا مجلس الأمن الدولي قادر على تمرير قرار ما ولو ضعيفاً، أو تصريحاً شفوياً للأمين العامّ، إنما سعيها سينصرف لتحسين شروط الاستسلام أو تخفيف وطأته، مع استمرار القصف الوحشي الهستيري، وارتفاع أرقام الضحايا والمشرّدين الذين لن يكون لهم موطئ قدم، ربما، إلا في الجولان الرازح تحت الاحتلال، وهو ما ستوظّفه إسرائيل في الصفقة القادمة حتماً، بعد طيّ صفحة إدلب، آخر مناطق خفض التصعيد، ونهاية الوقوع في فخّ الارتهان لقوى عملت لإدارة الصراع واستثماره لا حلّه؟
تُرى.. كنّا نحتاج “بيدبا” الحكيم يعيش بيننا ليقصّ لنا ما يجري في سورية اليوم على ألسنة أبطال الأمس، والإصبع لا تخفي جبلاً، والنملة لا تحمل فيلاً؟
وكأني بدرعا تقول للعالم ( إنما سقطتُ يوم مقايضة حلب )، وهي تسترجع قول الثور النادم ( إنما أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض)، وهو مَن سلّم مفاتيح حياته وأخوته لعدوّه، ولم يعمل لملاقاة استحقاق يومه قبل أن يُلتَهم..