لا شك أن الأسماء لا تكون ذات معنى ما لم تشر إلى مسميات تشكل مرجعيتها الموضوعية، وهي إذ تكون خلوًا من هذه المرجعية تصبح لغوًا، ويصبح تكرارها عبثًا لمتفكهين.
ومن هنا فإن التمرد على الأسماء في سياق التمرد الأعم على مسمياتها يكون عملًا مثمرًا إذا تجاوز هذا التمرد حدوده اللفظية، وتمكن من اجتياز المسافة بين الدال والمدلول.
ولأن احتكار ساحة الدالات والمدلولات عمل لا ينفرد به نظام الاستبداد فحسب، وإنما تساهم فيه مافيوية أخرى تصنع هيكليتها معارضة الاستبداد التي من ضمن مكوناتها ساسة يحملون ملامح قبح النظام لطول احتكاكهم معه وتلوثهم بقذارته، و نخب مثقفة -كما تسمي نفسها- تبرز مصطلحات وتخفي مصطلحات غيرها، وتلمّع أشخاصًا وتلقي في الظل أشخاصًا آخرين. و تبرع في التواطؤ فيما بينها، وقد منحها فراغ الساحة ممن يعترض بفعالية -كما هو حال فراغها من معارضين فاعلين للاستبداد- قدرة على إحكام غلق الأبواب وامتلاك السماح بالدخول إلى عالمها أو المنع.
نقول –ولأن الحال هذه- فإن محاولة كسر احتكار هذه النخبة المافيوية الساحة الرمزية محاولة لا يمكن ألا ينظر إليها بعين التعاطف والاستحسان.
ولكن المشكلة في محاولات البعض ممن يحاولون هذه المحاولة أنهم إذ يبذلون جهودًا خجولة في مساعيهم يصبون جام غضبهم على من يجدر بهم أن يتخذوه حليفا في هذه الجهود، ويتنازعون معه تنازعًا يذهب ريحهم، بينما يمنحون النخبة الزائفة المشار إليها رفاهية التمدد أكثر، والاستمتاع بفراغ الساحة من خصم قوي يملك عدة المواجهة.
وخصوصًا أن هذه النخبة تملك عوامل قوة يأتي في مقدمتها أن معظم أفرادها أقلويون، أو أكثريون منسلخون مستلبون. ومن عوامل قوتها كذلك امتلاكها عدة حداثوية لا تتجاوز لدى معظم أفرادها قشرة العقل والوجدان. مع أنه من الضروري الإشارة إلى أن هذه النخبة لا تملك من الأدوات المعرفية ما يكفي لكي تكون قادرة على المناظرة العلمية، ولكنها تحمل من القدرة على الشتم والسب والقذف ما تعوض به نقصها المعرفي.
وقد بلغ استبدادها مبلغًا جعل البعض يخشى من مخالفة ما كرسته من أهمية مبالغة فيها لمفاهيم وشخصيات، وينصاع لما بذلت وسعها لتحويله إلى حقائق ثابتة لا تقبل الدحض.
وقد بلغ من بؤس المتمردين أنهم بدل أن يوجهوا رماحهم إلى هذه البنية الاستبدادية التي لا تقل بؤسًا عن نظام الاستبداد استفرغوا جهودهم في تصويبها نحو من يجدر به أن يكون حليفًا لهم بما يملكه من قابلية للانسلاخ عن بقايا الشمولية، وبما يحوزه من رمزية نضالية، وبما يفاخر به الجميع –محقًا- بصموده في ساحة الصراع الأساسية معنويًا وماديًا.
ولعل من أسباب صب جام الغضب على هذا الطرف هو فقدان القدرة على مواجهة مافيوية النخبة الزائفة من جهة، وإدراك نقص شرعية دعوى مناهضة الاستبداد من خارج ساحة الصراع من جهة أخرى.
ونقص الشرعية المدرك هذا يبحث بالضرورة عما يعوضه فيكون ذلك بفيض من الشعارات التي لا تحيل إلى مسميات حقيقية تملأ فراغها الدلالي.
ولهذا يجري الاستبدال البائس للأسماء من قبيل وضع كلمة “سورية” بدل كلمة “دمشق” ومن ثم تدبيج البيانات التقليدية تحت عنوان يُظن أنه ممتلئ دلاليًا بينما ينضح بفراغه الدلالي من جهة نقص شرعية واضعيه، و من جهة استهدافه حليفًا مفترضًا هو الأجدر بالتركيز على نقاط قوته والتسامح المؤقت -الذي تفرضه ضرورات المرحلة- مع نقاط ضعفه.
تصديع البناء المصمت الذي بنته هذه الفئة المحتكرة مهمة ثورية؛ لأنها قادرة على إعادة إنتاج الاستبداد بأشكال أخرى وبقدرة أكبر من قدرة السلاح والقمع الاستخباراتي، والتصدي لنوعي الاستبداد السياسي والرمزي يتطلب أولًا وقبل كل شيء حسن اختيار أرض المعركة، وقليلًا من الضمير في التعاطي مع من لا يُشك في وطنيته ونفعه الكبير في هذه المهمة الثورية.
رئيس التحرير