راجت نكتة إبان اعتداء أحد وجوه المعارضة السورية على آخر في أحد اجتماعات المعارضة في اسطنبول فحواها أن ما جرى شأن داخلي سعودي وعلى السوريين ألا يحشروا أنوفهم فيه. وعلى الرغم من حسّ الدعابة الظاهر في العبارة إلا أنها تخفي مسكوتًا عنه، وهو إدراك حالة الارتهان التي عاشتها هذه المعارضة -كمؤسسات على الأقل- للداعمين الإقليميين والدوليين.

وفي الإطار نفسه -إطار رصد المزاج السائد في أروقة اجتماعات المعارضة- لم يكن غريبًا مشاهدة معارض سوري يدخل إلى القاعة بعد أن يصوت لمرشح ما في انتخابات الائتلاف، وجيوبه ممتلئة بآلاف الدولارات التي قبضها للتوّ كرشوة لقاء التصويت لهذا المرشح.

وفي مشهد آخر عاصرته بنفسي يسدي مساعد أحد وجوه المعارضة نصحًا لهذا المعارض قائلًا: عليك أن تؤسس الكيان بالموجود، وإذا أردت التخلص لاحقًا ممن يشغب عليك، فأرسل إليه مومسًا وورّطه بفضيحة جنسية.

أما الرعاع الذين أثروا ثراء فاحشًا من النهب والسلب مستغلين حالة الفوضى وصمت بعض الجهات النافذة وغضها الطرف عن بربريتهم وجشعهم، فقد أصبح أمرهم مكشوفًا للجميع، وهم لا يزالون يتصدرون المشهد رافعين العقيرة ليل نهار بشعارات الثورة والحرية والكرامة.

أردت من إيراد هذه المقدمة أن أقول إن الفرح باهتزاز العلاقة الوثيقة بين رأس النظام وذراعه الاقتصادي والاستبشار بقرب وقوع السقف على رأس النظام وزبانيته ليس محظورًا، ولكنه فرح من لا يرى في المشهد إلا وجهأ من وجهي العملة،  فوجه العملة الآخر هو الفساد المستشري في مؤسسات المعارضة وفي بعض من يتحدثون باسمها، وقد نهبوا باسمها المليارات، وتسليم القضية لداعمين لا تعنيهم القضية السورية إلا بقدر ما تخدم مصالحهم، وهي لا تتطابق دائمًا مع مصالح السوريين.

ونظن أن الارتهان للخارجي هو أس المشكلة التي ينبغي تسليط الضوء عليها وكل ما رشح من مظاهر فساد إنما هو مشتق منها، وعليه فإن التوازن الدقيق الذي كان يجب أن يتحقق بين استصراخ المذبوح طلبًا للنجدة من نظام مجرم يقتل السوريين في المعتقلات ويغتصب السوريات في سراديب الظلام من جهة، وبين الإبقاء على استقلال الإرادة من جهة أخرى  لم يتحقق منذ البداية عندما عمدت المعارضة إلى تسمية مجلسها الوطني “المجلس الوطني الانتقالي” استنساخًا للتجربة الليبية مستخدمة ما يسمى في علم النفس السياسي: “آلية التناظر”، وهي آلية يلجأ إليها الفاعلون الذين يواجهون عاملًا معقدًا لا يمتلكون نظرية صالحة لفهمه فيعمدون إلى تبني أحكام احتمالية مستمدة من أحداث بارزة ومعروفة.

وما سمي بـ “منظمات المجتمع المدني” السوري لم تكن إلا مشروعات أشخاص ليس لأن الاختزال الإفقاري لمفهوم المجتمع المدني في منظمات وسيطة هو السائد، ولكن لأن معظمها كان -كمؤسسات المعارضة- مرتهنا ومنخورا بالفساد إلى العظم. 

لن يكون ما يعقب الأزمة بين رامي مخلوف وسيده مبشرًا؛ لأن من يقف في المواجهة مع النظام الفاسد معارضة تستنسخ فساده، ومن ينحو باللائمة على النظام المرتهن معارضة ليست أقل ارتهانًا منه.

ولعل نظرية الصفر الاستعماري التي قال بها معارض سوري كبير قد اشتقت فحواها من منطق ثنائي حكم عقل صاحبها؛ بمعنى أنه استند إلى وجود قيميتن متقابلتين هما الصفر وما تحته، ظنًا منه أن ما دون الصفر قيمة مفردة، هو ما يخالف بدهية من بدهيات العلم المعاصر الذي يقرر أن ما دون الصفر مجموعة لا متناهية من القيم، وأن التدخل الخارجي لم ينقل الشعوب الواقعة تحت نير الاستبداد من ما تحت الصفر إلى الصفر وإنما انتقل بها إلى قيمة أخرى تحت الصفر، وهو ما أصبح ملء السمع والبصر في العراق وليبيا وملامحه لا تخفى على أحد في سورية.

إذا كان السقف سيقع على رأس النظام، فإن سقف المعارضة لم يقم أصلًا، وعلينا أن نشيد البناء من جديد بإرادة وطنية مستقلة، وبالاستفادة من دروس السنوات العشر التي تصرّمت، والتي ذاق فيها السوريون العلقم جراء فجور النظام وعجز المعارضة.