كانت خدمة العلم تجربة كاشفة لواقع الترهل الذي صنعه نظام الأسد في جسد المؤسسة العسكرية، وتأكيدًا لقناعات لم تكن حججها القاطعة أقل دلالة من هذه التجربة الحية على حالة حرق القاعدة الأخلاقية لهذه المؤسسة.

ولكن ملاحظة لافتة آنذاك -في بداية الألفية- هي التي مثلت جديدًا بالنسبة إلى القديم الراسخ من القناعات.

فقد كان الجنود البائسون الذين يقضون خدمة العلم مشغولين ليل نهار بإتقان تنفيذ حركات الانضباط، وترديد شعارات تمجيد الأب القائد، يرددون أنشودة تقول:

“لعيونك يا أبو سليمان بدنا نحرر الجولان”.

وقد كانت الدلالة ملتبسة في البداية؛ لأن أبا سليمان الذي انقض عليه سرطان الدم أثناء وجودنا في الجيش، قد أصبح منسيًا بالنسبة إلينا منذ بدء مخطط توريث شهيد حادثة المنصّف على طريق المطار، ولم نعد نسمع إلا عبارة التضايف بين الأب وابنه البكر باسل.

ولكن توالي الأيام أثناء الخدمة، ومعاينة الهزل الذي يمعن الضباط في ممارسته بالقول والفعل، وتحويل المؤسسة إلى هيكل لعبادة القائد الذي يراد تحويله إلى إله  كانت قادرة على كشف الألعوبة التي تنطوي عليها كلمات الأنشودة منظورًا إليها بنظرة علائقية بينها.

فأبو سليمان قد أصبح من الماضي، وأبو باسل هو الموجود الآن، فلا بد من ربط الحق السوري المضيّع وليس الضائع برمز قد غُيّب لمصلحة صنع رمز جديد يستمد ديمومته من وريثه غير الشرعي.

لم يكن العسكر البسطاء مقتنعين بما يرددونه؛ ليس بسبب إدراكهم ما ينطوي عليه هذا النص من لعبة خبيثة، ولكن لأنهم لا يجدون فيما يُطلب منهم من أعمال ما يشي بإمكانية تحويل هذا التعهد لأبي سليمان الغائب إلى واقع، ولو على صعيد الحلم.

فعدا عن أن التعهد بتحرير الجولان كان يُقطع لعجوز قد فتك به المرض، وهو على حافة قبره، هو أيضًا تعهد لحافظ الأسد الأول ابن سليمان الوحش الذي ربما مثل الإصرار على التكني باسمه ترسيخًا لممارسة طائفية تحتاج إلى تذكير دائم للمستهدفين بالارتباط بالأصل، وهو تذكير باستخدام يبرره العرف، ويخفي مقصده الحقيقي.

ولعل الألعوبة الثانية التي ينطوي عليها نصّ الأنشودة قد فرضها القدر، فقد كان رحيل شهيد حادثة طريق المطار قد فرض توريث الابن الثاني، غير المؤهل وغير المدرب، فكان لا بد من العودة إلى التسمية الأصلية.

بينما كان الجواهري قد خلّد حافظ الأسد بقصيدتين استخدم في الأولى منهما -على الأقل- كلّ إمكانياته الشعرية الفذة، فإن استثمار الأسد الأب للجواهري كان موجهًا للقادرين على تذوق النص الشعري الراقي من حيث الصناعة، الوضيع من حيث فرط نفاقه، أما النصوص المفروض ترديدها على العاملين أو المجندين في الجيش، فقد كانت أدوات لتكريس إحساسهم بالمفارقة الهائلة بين ما تلهج به ألسنتهم وبين واقعهم، بين التعهد المصوغ صياغة تجاوزتها الأيام وبين استحالة تنفيذه.

ومن هنا فإن الجرأة غير المسبوقة من طرف الدفاعات السورية التي لم تحتفظ بحق الرد في إسقاطها للطائرة الإسرائيلية لا يمكن أن يفهم مفصولًا عن إرادة تضييع الحق التي لم تتزعزع، والتي طالما عبر عنها بكلام مبتذل وأناشيد ممعنة في جدل صلة قوية بين هذا الحق المضيّع وبين أبي سليمان الذي فقد قدرته الدلالية بقصد منذ إحلال أبي باسل محله، بعد أن وجد الساحة خالية لتوريث الأرض والبشر لذريته.

ولن نخجل من عدم قدرتنا على التعبير عن الفرح بإسقاط الطائرة الإسرائيلية من طرف دفاعات جيش مجرم لم تجرؤ إسرائيل على العبث بإنسانيتنا، وبراءة أطفالنا، وحضارتنا كما تجرأ هو، جيش يتعهد بتحرير الجولان لأبي سليمان الذي اختفى منذ زمن طويل، وتؤكد ادلة كثيرة أنه هو الذي ضيع هذا الحق.

رئيس التحرير