لا يمكن لذي عقلٍ أن يأخذ على أهلنا في إدلب ترحيبهم بالجيش التركي، فهم يعيشون في رعبٍ دائم جرّاء قصفٍ مستمر على يد نظام الأرض المحروقة الأسدي وحلفائه الروس، حتى عرّف أحدهم الحياة هناك بأنها “هروبٌ مستمر من السماء” التي باتت مصدراً ثابتاً لشتّى أشكال الموت. إذا كان الجيش التركي قادراً على لجم آلة الموت ووقف تقدّمها، من الطبيعي أن يكون، في نظر الأهالي، محط ترحيبٍ وتقدير، بصرف النظر عن الغايات النهائية لهذا الجيش، وعن الموقف السياسي من الحكومة التركية وسياساتها. “الغريق يتعلق بأردوغان”، كما قالت إحدى عبارات كفرنبل.
السؤال الأولي: ما هي المصلحة التركية من الدخول العسكري المباشر إلى إدلب وتحملها، حتى الآن، خسارة عشرات الجنود، فضلاً عن المخاطرة في حدوث مواجهة مع روسيا؟ إيران وروسيا تدخلان المعركة لدعم حليفٍ يؤمن لهما مصالحهما في “الدولة السورية”، فما هي المصلحة التركية في الدخول العسكري المباشر في الصراع حول إدلب، حيث لا وجود ثمّة للخطر الكردي الذي شكّل على طول الخط هاجساً تركياً؟
بديهي أن للدولة التركية، كأي دولة، مصالح وحسابات تحرّكها وتعلو على حماية المدنيين، وقد خبر السوريون ذلك مراراً، من أبرزها صفقة شرقي حلب مقابل مدينة الباب مع روسيا في العام 2016، ثم إغلاق الحدود في وجه اللاجئين من جحيم إدلب اليوم، إلى درجة فتح النار وقتل من يجرؤون على عبور الحدود، ثم الاتفاق أخيرا بين الرئيسين، الروسي بوتين والتركي أردوغان، الذي يتراجع فيه الأتراك عن حدود اتفاق سوتشي، ربما مقابل مكاسب “تركية” في محل آخر.
أكثر المتحمسين السوريين لتركيا، ولزعامة أردوغان وحزب العدالة والتنمية التركي، لا يصل به الأمر إلى حد الاعتقاد بأن السوري يعادل التركي، ليس فقط سياسياً بل وإنسانياً أيضاً، في منظور الحكومة التركية الإسلامية، ولا يخرج هذا عن منطق الأمور، ولكنه يعني أن القبول بسيطرة تركية على مناطق سورية، أينما كانت، هو قبولٌ بأن يكون السوري في مرتبةٍ ثانيةٍ بالقياس إلى التركي. هذا تمييز سلبي “استعماري” عريق، لا يمكن تخطّيه سياسياً إلا بأحد خيارين: “الاستقلال” التام، أو الانضمام إلى البلد المستعمر أو المسيطر.
إذا مضينا أبعد على هذا الخط من التفكير، سنقول إن خيار “الاستقلال” عن السيطرة التركية، مع استمرار نظام الأسد، سوف يعني العودة إلى تحت حكم الأسد، على اعتبار أنه لا يزال هو من يمثل الدولة السورية في نظر المجتمع الدولي. تنطوي هذه العودة على مخاطر انتقامية فظيعة، تطاول حتى الأموات، ناجمة عن البنية العدوانية “العصبوية” لطغمة الحكم، مخاطر يدركها السوريون جيداً، ولا سيما منهم من عاش تجربة الوقوع مجدّداً تحت سيطرة نظام الأسد بعد خروج منطقته من تحت هذه السيطرة.
في المقابلة التي أجرتها قناة روسيا 24 مع رأس الطغمة، يعترف هذا، في الإجابة عن سؤال عن أول الإجراءات التي يقوم بها النظام حين يستعيد مدينة ما، بأن المدينة تكون خالية من المدنيين حين تدخلها قواته، ويستدرك مفسرا ذلك بأن المدنيين يتركون المدينة حين يدخلها “الإرهابيون”، ولكنه لا يفسّر لماذا تنشأ موجات اللجوء بالتوازي مع تقدّم قواته على الأرض. يقول هذا الواقع إن نشوء مطالب استقلالية في مناطق سيطرة تركيا في ظل استمرار نظام الأسد هو ضرب من المستحيل، إلا إذا كان استقلالاً مزدوجاً عن تركيا وعن نظام الأسد معاً. وفي هذه الحال، نكون أمام بروز دولة جديدة لا يبدو أن المجتمع الدولي جاهز لها.
يبقى الخيار الثاني لتجاوز التمييز السلبي الاستعماري بحق السوريين الواقعين تحت السيطرة التركية، في حال تكرّست هذه السيطرة، وهو الانضمام إلى تركيا للالتحاق ببقية الأراضي السورية التي صارت في عداد الأراضي التركية. على الرغم من أن الشهية التركية مفتوحة لمثل هذا الحل، وعلى الرغم من أن المزاج الشعبي في هذه المناطق لن يكون معارضاً له، بل سوف يرحب به، غالباً بوصفه طريقاً بديلاً للخلاص من نظام الأسد الذي عجزوا، حتى الآن، عن إطاحته، لكن يبدو أن عدم جاهزية المجتمع الدولي لقبول بروز دولةٍ سوريةٍ ثانية، تنسحب أيضاً على قبول ضم أراض سورية إلى الدولة التركية، ما يعني أن هذا الحل غير محتمل أيضاً.
بين هذين الاحتمالين، يبرز خيار ثالث، قيام منطقة حكم ذاتي سورية تحت حماية دولية وإشراف تركي بحكم الجوار، وبحكم المزاج الشعبي العام المتقبل للدور التركي. قد يكون هذا الخيار هو الحلم الذي يدغدغ مخيلة زعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، في مقابلته مع مجموعة الأزمات الدولية في أواخر يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، حيث يهبط الجولاني فجأة من سماء المستحيل إلى أرض الواقع، ليؤكد “تأثرت بالوسط السلفي الجهادي الذي انبثق من الرغبة في مقاومة الاحتلال الأميركي للعراق، ولكن مرجعنا اليوم هو الواقع على الأرض”، وعلى هذا “إذا طلبت مني أن أكون واقعياً، وأن أقبل أنه لا توجد إرادة دولية لإحداث تغيير في النظام، فيجب أن يكون العالم واقعياً، وأن يقبل أن أكثر من نصف سكان سورية اختاروا عدم العيش تحت سيطرة النظام السوري”، ويضيف “مبادئنا الأساسية واضحة وهي تحقيق الاستقرار في المنطقة الخاضعة لسيطرتنا وإدارتها”، كما لا يتردّد في طمأنة الروس والعالم إلى نوايا هيئة تحرير الشام في التزامها بإصلاح نفسها وبوقف إطلاق النار، ووقف الهجمات على مطار حميميم ومناطق سيطرة النظام خارج إدلب، سواء منها أو من المجموعات الجهادية الصغيرة الأكثر تشدّداً، وباحتواء الجهاديين الأجانب الموجودين التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية.. إلخ. مع التشديد، في الوقت نفسه، على أن اقتلاع الهيئة من معقلها الأخير سوف يعني كارثةً إنسانية بمقاييس غير مسبوقة.
تصريح الجولاني هذا، وما سبقه وأعقبه من سلوك عسكري للهيئة إزاء تقدّم قوات نظام الأسد في إدلب، هو مسعىً واع من “متحوِّل” أو براغماتي الهيئة إلى صياغة نفسه على شاكلةٍ تناسب الخيار الثالث المذكور أعلاه، والذي يمكن أن يكون حلا متوسط الأمد في سورية، ذلك أنه لا يمكن أن يكون نهائياً. على أمل أن يتاح للجولاني الوقت والفرصة للتحول المناسب للدخول في ما يمكن أن يكون تركيبة الحل النهائي.
في هذا الحل المتوسط الأمد (منطقة محمية دولياً بإشراف تركي وإدارة محلية سورية)، مصلحة مشتركة بين تركيا التوسعية والهيئة التي أثبتت مقدرة على الثبات العسكري وعلى التكيف، والتي من الراجح أن تكون الجهة الأقدر على حكم هذه المنطقة، إذا قيض لها أن ترى النور.