عندما عرض المنظر الليبرالي الأبرز راولز وضع المذاهب الأخلاقية والدينية بين قوسين من أجل فصل الهويات الشخصية عن السياسية كان يستمد حجته من واقع كثرة هذه المذاهب، والعجز عن الحسم في أفضلية أحدها على غيره.

وقد كان هذا الطرح ملائمًا في نظر راولز لمجتمعات “محكمة التنظيم: كما أطلق عليها، وهي مجتمعات لا تحكمها إلا قيم سياسية عمومية منفصلة عن القيم الأخلاقية أو الدينية الكلية، ولما كانت هذه المجتمعات هدفًا لم يتوصل إليه، فقد اضطر راولز إلى التراجع -وهو بصدد إبداء رأيه في الخلاف الذي حصل بين الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن ومنافسه الرئاسي حول مسألة الرق-، والتي كان لنكولن يتبنى فيها موقف الرافض للرق؛ لأنه في نظره شائن أخلاقيًا، بينما يتبنى منافسه الرأي القائل إن الأخلاق ليست حكمًا صالحًا في هذه المسألة، والأمر متروك لإرادة الولاية إن شاءت أقرته وإن شاءت ألغته.

وقد كان المخرج الذي اتخذه راولز هنا هو فتح القوسين اللذين وضعهما على المبادئ الدينية والأخلاقية بحجة أن المجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة يستطيع فيها إقصاء القيم الأخلاقية عن موضع الحكم في مثل هذه القضايا، وهو غير قادر على تحمل تكلفة أخلاقية كبيرة كهذه، وأنه لا بد من الاحتكام في مجتمع كهذا إلى قيم أخلاقية كلية، وبناء على هذا فقد أيد راولز رأي لنكولن من منطلق أخلاقي محض.

أردنا من هذه المقدمة أن نصل إلى نتيجة أن نظرية سياسية ما مهما كانت درجة تماسكها المنطقي لا يمكن أن تأخذ فرصتها في الوجود والاستمرار ما لم يكن من ضمن متغيراتها طبيعة المجتمع، ومنظومته الأخلاقية، وأعرافه، وموروثه، وسيرورة تشكله التاريخية.

إن هذه التكاليف التي يمكن أن تتسبب بها الليبرالية السياسية لراولز يمكن أن يترتب دفعها حتى في المجتمعات التي توجد مسوغات لتسويد قيم هذه الليبرالية فيها؛ حيث إن مسوغات المطالبة بتسويدها لم تنفصل عن النظرة التاريخانية التي اعتبرت أن تصوّر المواطن الذي تستبطنه الليبرالية السياسية متضمن في الثقافة السياسية لهذه المجتمعات، ومن واقع الكثرة والتنوع في نظريات الخير وهو ما أقر به راولز نفسه وأشاد رورتي به بسبب هذا الإقرار.
فتصوّر المواطنة الذي نقول إنه متضمن في الثقافة السياسية قد تشكل بفعل ظروف تاريخية فهو في الولايات المتحدة لا يمكن فصل سيرورة تشكله عن الحرب الأهلية، وإعادة الإعمار، والتعديلات الدستورية وغيرها من الأحداث المفصلية التي مرّ بها المجتمع هناك.

ولهذا فإن ريبة كبيرة تراودنا عندما نقرأ أوراقًا يصدرها أفراد ممن يعدون أنفسهم نخبة سورية تتحدث عن مواطنة “حاف” مفصولة عن أي روافد عربية أو إسلامية، وغير مشتقة من ظروف الحدث السوري الهائل الذي تعرضت فيه الأكثرية إلى تصديع في بنيتها وتمزيق لنسيجها بإرادة النظام وحلفائه الذين يصرّحون بعدائهم لهذه الأكثرية والرغبة في تفتيتها.

ولكي لا يزاود علينا المزاودون، فنحن نؤكد أن  تجسيد مفهوم المواطنة -بما يمثله من ركن أساسي من أركان الديمقراطية المنشودة- غاية ننشدها بعقولنا وأفئدتنا، ولكنه إذ يرفع هكذا مفصولًا عن السياق وعن استحالة وجود وسائل لتجسيده إلا عبر مشاريع مشبوهة يدفع ثمن جورها وعسفها الأكثرية في سورية، فإنه يصبح شعارًا براقًا يتلطّى خلفه إما غافلون أو متواطئون.

فمفهوم المواطنة له الأسبقية على فصل الهويات العمومية عن الخاصة في المجتمعات التي تبنت هذا الفصل لأنه أحد أركان هذه العمارة المسماة بالليبرالية السياسية ولا بد أن له الأولوية لدينا، ولكنها أولوية مشروطة بظرفنا التاريخي كما كان هذا المفهوم مشروطاً في تشكّله بالسيرورة التاريخية للمجتمعات التي تكرّس فيها، ولا ريب أنه أحد أركان الديمقراطية التي نسبّح بحمدها ليل نهار حتى اقتربنا من تحويلها إلى أيديولوجيا بدون أن نؤسس لها ونمهد الأرض الصالحة لاستنباتها.

ولعل من تجليات الاستجابة للمشاريع الخارجية بروز ظاهرة من يسمون أنفسهم تنويريين دينيين، وهم ثلة لا ترعوي عن تحطيم أسس للإسلام كفيلة باستحالته شيئًا آخر، ولا شك أن التجديد الديني ضرورة تفرضها مقتضيات مواكبة التغيرات في العالم، و أنه لم يعد ترفًا لمتفكهين، ولكنه إذ يتصدى له متطفلون لا ترى في إنتاجهم مقاربة تستخدم منهاجًا علميًا سليمًا في مقاربة النصوص، ولا اطلاعًا عميقًا على المفاهيم المعاصرة يصبح محاولات لاسترضاء من يريد صنع إسلام على هواه.

وقد اكتفوا بتصنيف لا يمتلكون شرعيته حيث أطلقوا على أنفسهم لقب تنويريين تجديديين، وعلى من لا يوافقهم لقب التقليديين وهو تصنيف مشحون بشحنة سلبية لمخالفيهم من قدماء ومحدثين وشحنة إيجابية لأنفسهم.

وترى أطيافًا من اليسار المتعفن تصفق لهم وجمهورًا كبيرًا من الجاهلين بالتراث ومن كارهيه يرفعون لهم آيات التبجيل، وما ذلك إلا لأنهم يقدمون إسلامًا متوافقًا مع أهواء هذه الأصناف.

وهي ظاهرة لا تقل إثارة للريبة من ظاهرة النخبة التي ترفع شعار المواطنة من دون تبصر في السياق، ولا في سيرورة تاريخية شكلته في منبته ويفترض مراعاتها في التربة التي يراد استنباته فيها.

فمن ضمن مشروع القضاء على هذه الأكثرية تحويل معتقدها وتراثها إلى ألعوبة في أيدي أدعياء التجديد؛ بغرض فك صلته الوطيدة بالعقل والوجدان الجمعيين لهذه الأكثرية، وتحويله إلى إسلام يروق لمزاج الممول أو الجاهل أو الحاقد.

إننا إذ ننبه إلى ما نراه يراد لهذه الأكثرية من إجهاز على حياتها وتمثيل بجسدها، فإننا نهيب بكل السوريين الصادقين من أفراد هذه الأكثرية ومن غيرها أن يتنبهوا؛ لأن ترك أصحاب هذه الإرادة يحققون مبتغاهم لا يقتصر على ضرر بالغ يلحق بالأكثرية، وإنما هو تمهيد لتشظّ كبير يحيل الوطن إلى إقطاعات فاقدة روحها وكلّ إمكانات لحاقها بمسيرة التاريخ.

رئيس التحرير