قبل قيصر كان لنا قياصرتنا الذين أدخلونا متاهة لها عنوان واحد اسمه الفقر والذل والجوع، ومع قانون قيصر دخلت السلطة اللبنانية في تخبط سياسي يثير الرثاء.
قبل القانون الأمريكي الذي يفرض عقوبات اقتصادية قاسية على سوريا، الذي تمتد آثاره إلى لبنان، عملت السلطة اللبنانية على تحطيم مقومات الحد الأدنى للصمود في وجه أي حصار محتمل.
فالذي يعرف أن المواجهة آتية لا محالة، لا يقوم بنهب كل شيء، ثم يذهب إلى الإفلاس والانهيار وعلى وجهه ابتسامة المنتصر.
كيف نواجه ونحن نقف طوابير أمام الأفران بحثاً عن ربطة خبز؟
هذا هو السؤال الذي سمح للسفيرة الأمريكية في بيروت ومعها مجموعة من المسؤولين الأمريكيين بالتصريح بدل التلميح.
نستطيع أن نعلن موقفاً واضحاً لا لبس فيه ضد قانون قيصر، فالقانون الأمريكي له مجمـــــوعة أهــداف واستهدافات، فالعقوبات تسعى أولاً وأخيراً إلى تحطيم الشعوب. المشرق العربي أمام دائرة حصار مقفلة. حتى مصر والأردن بما قدمه نظامهما من خدمات، هما أيضاً في دائرة الاستهداف. كل المشرق العربي معرض اليوم للاستباحة والإفقار والتجويع.
قانون قيصر هو امتداد للعقوبات التي حطمت العراق قبل احتلاله وتعريضه للتشظي الطائفي، فقيصر الأمريكي يريد للمنطقة العربية الخنوع والتفكك.
ولكن مهلاً، قبل أن يبدأ النقاش، تعالوا نسأل أنفسنا لماذا وصلت بلادنا إلى هنا.
من الطبيعي أن تسعى الإمبريالية للهيمنة وأن يكون هدف إسرائيل هو تأبيد الاحتلال وقمع الشعب الفلسطيني وإذلال الدول العربية، هذا من طبيعة الأشياء، وإلا لما كانت إسرائيل هي إسرائيل وأمريكا هي أمريكا.
قانون قيصر هو استكمال لمسار إمبريالي صهيوني لا خيار لنا سوى مقاومته.
أما قيصرنا أو قياصرتنا فماذا يريدون؟
وللتذكر، فقيصر هو اسم مستعار لجندي سوري فرّ من الخدمة حاملاً معه صوراً مروعة لتعذيب وقتل الألوف في السجون السورية.
قيصر العربي هو من فضح المذبحة، فسرق الأمريكيون اسمه من أجل متابعة المذبحة، ولكن بشكل جديد.
هؤلاء القياصرة العرب كانوا قبل القانون الأمريكي، بل هم من مهّد للقانون، فالاستبداد -كما يعلمنا واقعنا اليوم- هو عتبة الاحتلال ومدخله.
ما لي ولقياصرة العرب الذين أذلّوا شعوبهم بالقتل والفقر والقمع، فنحن في بيروت مشغولون في هذه الأيام بالتصريحات الأمريكية الاستفزازية التي دفعت قاضياً «مازحاً» إلى إصدار حكمه بمنع السفيرة الأمريكية من الكلام، ومنع نشر تصريحات دوروثي شيا في وسائل الإعلام اللبنانية!
إحدى سمات دولة لبنان الكبير أنها تملك أكثر من قيصر. في الدول العربية المجاورة هناك رجل واحد يتقيصر على الناس، أما في لبنان فهناك مجموعة قياصرة يتحالفون ويتصارعون، وكل واحد منهم مربوط بالخارج، بحيث صرنا أمام متاهة من القياصرة الذين يتطاولون ويتقاصرون حسب موازين القوى في المنطقة.
قياصرة لبنان نفذوا في الشعب اللبناني بنود قوانينهم غير المكتوبة، وهي ممارسات أشد هولاً من بنود قانون القيصر الأمريكي، بحيث وصلنا إلى الفخ ونحن لا نمتلك سوى طريق واحد هو الثوط في الانهيار.
قياصرة لبنان، الذين حكموا وتحكّموا، لعبوا بالدولار وتلاعبوا بالثروة الوطنية، هندسوا المال وشفطوه وأرسلوه إلى حساباتهم في الخارج، خضعوا لإملاءات أسيادهم وحولوا لبنان إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية.
قياصرة لبنان منتصـــرون حتى وهم في قعر الهاوية، وعلامة انتصارهم أنهم صنعوا نموذج الساحة، بحيث صارت كل بلاد العرب ساحات للاعبين الإقليميين والدوليين، البلاد ملاعب والشعوب طابات يركلها اللاعبون، وقياصرتنا يصفقون.
ماذا فعل القياصرة بنا؟
صار الكلام عن الانهيار لزوم ما لا يلزم، لأن حكومة الظلال لا تملك من أمرها شيئاً، حكومة تتفرج على عجزها، ويطرّز رئيسها مواضيع الإنشاء وهو ينتشي بفصاحته، وتحالف يحكم ولا يحكم، لأنه لا يعرف ماذا يفعل أمام الانهيار، وحفلة تنكرية لا أحد يعلم أين ستنتهي بنا هذا إذا كان مُقدراً لها أن تنتهي.
كما أن معارضة القوى التي هي جزء من النظام، ليست أقل ارتباكاً وعجزاً وتورطاً عن السلطة الحالية.
هم يعتقدون أنهم نجحوا في تحطيم الإرادة الشعبية التي تشكلت في 17 تشرين، ونجاحهم يتجسد في مسألتين:
تحويل اللبنانيين إلى متسولين وخائفين أمام رعب الفقر والجوع، ووضع الناس أمام خيار بين قيصرين: القيصر الأمريكي الذي يضغط بلا رحمة على فقراء لبنان، والقيصر الإيراني، وغداً يمكن أن يصل إلينا القيصر التركي، وغيره من القياصرة ووكلاء القياصرة.
يعتقدون أن حفرة الفقر ستأخذنا إلى الحرب الأهلية أو ما يشبهها، فيقومون بغسل فسادهم وعمالتهم وجرائمهم بدمائنا.
قيصران كبيران يتصارعان على أشلائنا، ويفرضان علينا أن نختار الهاوية التي ستبتلعنا. فماذا نختار؟
لا نختار هاويتهم، فخيارنا أعلنته شعارات انتفاضة 17 تشرين التي أوضحت أنها ضد قياصرتنا وقياصرة الخارج جميعاً.
غير أن ما فاتهم هو إمكانية بروز بروتوس من بينهم. فالقياصرة لا يقرأون ولا يتعظون، لذلك يعتقدون أن لا وجود لبروتوس الذي أنهى حكاية يوليوس قيصر في مسرحية شكسبير.
أين أنت يا بروتوس؟