رشيد الحاج صالح
في بدايات الثورة، لم يفكر السوريون كثيرًا بمستقبلهم، في حال أُجبر بشار الأسد على مغادرة سدة الرئاسة، على اعتبار أن الأمور ستسير بشكل قريب من الذي حصل في مصر أو تونس. ولكن اليوم، بعد نحو عشر سنوات من الثورة والصراعات الرهيبة التي عاشوها، وبعد التصاق غالبية القوى الفاعلة بطوائفها وانتماءاتها القومية؛ يمكن القول إن تفكير السوريين في بعضهم -بوصفهم فئات مختلفة الطوائف والأعراق والأيديولوجيات عليها أن تعيش معًا- أمرٌ لم يقدّروا حاجتهم إليه على الوجه الكافي.
كان الشعار الأكثر انتشارًا في السنوات الأولى من الثورة هو شعار “الشعب السوري واحد”، وذلك كنوع من الرد المباشر على تخويف النظام للسوريين من بعضهم البعض، ولا سيّما عندما بدأ يعزف على منوال وصف نفسه كحامي الأقليّات الدينية: (العلويين، الإسماعيليين، الدروز، المسيحيين، وغيرهم) إضافة إلى الأقليات القومية، ولا سيما الأكراد في شمال سورية. وكذلك تقديم نفسه للمجتمع الدولي على أنه “النظام العلماني الوحيد في المنطقة”، على الرغم من إصرار بشار الأسد على أن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام، في الدستور الذي أُقرّ 2012.
عقلية الإنكار التي تقف خلف شعار “الشعب السوري واحد” تتجاهل عقودًا عدة من حقبة آل الأسد، كانت مثالًا لتحريض السوريين على بعضهم، وزرع عقلية الشك وعدم الثقة، فضلًا عن انتشار تنميط السوريين لبعضهم بطريقة غير مسبوقة، وتغوّل طائفة بعينها على فواصل الدولة الأمنية ومقدرات البلد الاقتصادية.
هذه العقود الطويلة من تهديد النظام لكل السوريين، وإمكانية سحق أي فئة أو طائفة تتجاوز الخطوط الحمر التي وضعها عنوة (كما حصل في بداية الثمانينيات في حماة وإدلب، ثم تعميم القمع الدموي المنظم بعد عام 2011) أدت إلى انكفاء غالبية السوريين إلى داخل طوائفهم وكياناتهم التقليدية، كنوع من البحث عن الشعور بالأمان، بالتزامن مع انتشار ثقافة شفهية/ همسية تعقلن وتزيد من شعور السوريين بعدم الثقة ببعضهم البعض، وتشكك في عقائدهم، وتفترض أن الأغلبية لديها نيّات باطنية سلبية تجاه الآخر الطائفي أو القومي. حصل ذلك، وما زال يحصل، تحت نظر الأجهزة الأمنية وبرضاها ورعايتها، على اعتبار أن تخويف السوريين من بعضهم، وزرع روح الشك تجاه الآخرين، يبقى في النهاية حجر الزاوية في مواجهة أي انتفاضة شعبية مستقبلية، كان من المستبعد حدوثها قبل 2011.
الضغط على الكيانات الجمعية السورية، ولا سيّما الطوائف الدينية، بدأ عندما تسلم حافظ الأسد السلطة، واستبعد من الجبهة التقدمية التي شكّلها جماعةَ “الإخوان المسلمين” الذين كانوا يرون أنفسَهم الممثلين التقليدين لسنّة سورية، ثم لجأ إلى أسلوب الإبادة الجماعية، كما حصل عندما اقتحم أحياء من حماة، ودمّرها لمجرد وجود مسلحين في تلك الأحياء (يقدر محمد حسنين هيكل عدد القتلى بعشرة آلاف شخص)، واستمر مسلسل الضغط حتى إن قوات “سرايا الدفاع” نزلت إلى الشوارع، وبدأت نزع الحجاب عن السيّدات السنّيات المحجبات، بطريقة همجية تنم عن احتقار وازدراء واضحين للطائفة السنية، التي يُعدّ الحجاب عندها رمزًا أكثر من غيرها.
ويضاف إلى ذلك أن التوزيع غير العادل للتعليم الجامعي والثروات الوطنيّة والمشاريع الاقتصادية زاد من شعور فئات مناطقية واسعة بالظلم المقصود، وبأن النظام لا يرى فيهم سوى مواطنين من الدرجة الثانية، وأن عليهم أن يتكيفوا مع هذه الأوضاع. هكذا تم تحويل الجامعة التي كان مزمع افتتاحها في دير الزور، إلى اللاذقية في عام 1971، وتأخر افتتاح جامعة في محافظة درعا (وهي المحافظة التي تحتل المرتبة التعليمية الأولى لعدة سنوات في سورية) حتى عام 2006، كما جلبت وزارة الزراعة 10 آلاف موظف وفني، إلى مشروع حوض الفرات الضخم في الرقة، من مناطق علوية، فضلًا عن احتلال دمشق وظائفيًا، حتى تخال نفسك، عندما تدخل إلى بعض الدوائر في دمشق، أنك في اللاذقية أو طرطوس (ولا سيّما دوائر الجمارك، الإعلام، المشافي، الجامعات والبنوك…) طبعًا هناك عشرات الأمثلة التي يتحدث بها السوريون ولا يمكن سردها كلها.
أما على المستوى الأمني، فقد أنشأ حافظ الأسد “إدارة المخابرات الجوية”، ووسّع من سلطات وحجم الفروع الأمنية الأخرى، وعلونها بطريقة شبه علنيّة، حتى أصبحت اللهجة العلوية لهجة السلطة والنفوذ، وباتت الأشهر على مستوى سورية، التي أمست دولة أمنية مترامية الأطراف تتدخل في كل شاردة وواردة، همّها الأول والأخير النهبُ المنظم، وإخضاع المجتمع إلى أقصى درجة ممكنة، بصلاحيات شبه مطلقة.
يعتقد غالبية السوريين بأن النظام الأسدي هو أكبر مصدر للتمييز الطائفي، وأكبر مصدر أيضًا للتوزيع غير العادل للثروات، مثلما هو أيضًا مؤسس للامساواة والظلم المنتشر في سورية.
بعد 2011، تبيّن أن مناطق السنّة هي المناطق التي تعرّضت أكثر من غيرها للتدمير والتخريب، سواء من قبل النظام وطيرانه أو من قبل الكتائب الإسلامية المسلحة، أو من قبل قوات التحالف الدولي، وينطبق ذلك أيضًا على عدد القتلى وتدمير البنى التحتية والتهجير. وهذا الأمر يعود إلى انتهاج النظام لأسلوب الأرض المحروقة والعقوبات الجماعية، حتى إن تهديد ضابط “الحرس الجمهوري” المعروف عصام زهر الدين، للسوريين المهجرين في حال عودتهم إلى سورية، يراد منه تهديد الطائفة السنية على وجه التحديد، ولا سيما أن التهديد أريد له أن يخرج من ضابط غير علوي.
بحسب علم الاجتماع، فإن لجوء الناس إلى كياناتهم الطائفية والقومية يتناسب عكسًا مع قلة ثقتهم بالدولة ومؤسساتها. هذه المعادلة يعرفها النظام جيدًا، ولذلك يكاد يُفاجَأ المرء بأن النظام كان يحسب حساب هذا النقطة جيدًا، عندما اندلعت الثورة في عام 2011، كيف لا وهو الذي يعتقد أن الورقة الطائفية إحدى أهم ركائز استمراره في السلطة. طبعًا بالإضافة إلى مرونته في التعامل مع القوى العالمية الفاعلة.
كما يمكن للناس أن يتحولوا من انتماء طائفي إلى آخر، إذا كان هناك فرق في القوة والدعم، كما لاحظ ذلك بحق أبو حامد الغزالي، ولذلك يجهد النظام في دعم بعض عشائر شمال وشرق سورية، عن طريق كتائب شيعية، لدفعها إلى تغيير مذهبها على المدى المتوسط والبعيد. وكذلك يمارس النظام ضغطًا متواصلًا على الطائفة الدرزية في السويداء، منذ عام 2013، عبر تخويفها من أهل حوران أحيانًا، وتحريض بعض البدو المتعاونين مع الفروع الأمنية الذين يسكنون في مناطق قريبة ثانيًا، أو عبر غض النظر عن ألوية متعاونة مع تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) والسماح لها بالاقتراب من مناطقهم وارتكاب عدد من الجرائم بحقهم ثالثًا، أو عبر اغتيالات بعض وجهاء الجبل الذين يحرّضون أهل السويداء على عدم مشاركة النظام في جرائمه وقمعه الدموي للسوريين رابعًا. وذلك لدفعهم إلى المشاركة في الأعمال العسكرية، ولا سيما بعد رفض عدد كبير من أبنائهم الخدمة في الجيش السوري.
يعتقد غالبية السوريين بأن النظام الأسدي هو أكبر مصدر للتمييز الطائفي، وأكبر مصدر أيضًا للتوزيع غير العادل للثروات، مثلما هو أيضًا مؤسس للامساواة والظلم المنتشر في سورية، خلال العقود القليلة الماضية، كما يرى غالبيتهم أيضًا أن دولة القانون والمساواة والحريات هي التي ستخرجهم من كل تلك الأوضاع. ولكن كيف؟
لم تتمكن جماعة “الإخوان المسلمون”، وهي الحزب السياسي المعارض الأكبر في سورية، من تكوين مشروع سياسي وخطاب شامل يحمل تصورات واضحة ومحددة لمستقبل سورية وتعايش مكوناتها. بقيت الجماعة تتحفظ على العلمانية والحريات، ولم تتوجه بخطاب واضح لبقية أبناء الطوائف والديانات غير الإسلامية، كما أن المطّلع على صفحات الجماعة يجد أن خطابهم ما زال يعتد بمصطلحات من قبيل: (كفار، مشركين، فاسقين) حتى إنهم كثيرًا ما يصفون الثورة السورية بـ “الجهاد”. فضلًا عن أن كل أبناء الفئات غير السنية لا يقبلون بهم، كما هم في صورتهم الحالية.
أما أكراد سورية، فأمورهم ليست بأحسن حالًا؛ حيث يعاني “المجلس الوطني الكردي” تغوّلَ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD وسيطرته على المشهد الكردي. أما المفاوضات الكردية – الكردية الأخيرة، التي عُقدت في نيسان/ أبريل الماضي في الحسكة، برعاية أميركية من أجل دفع الأكراد إلى تقديم تصور مشترك لمستقبل سورية، وترتيب البيت الكردي بما يضمن مشاركة جميع القوى الكردية في الحياة السياسية، فيبدو أن نتائجها غير مبشرة. وأن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ماضٍ في مغامرته العسكرية في شمال سورية، ما دامت أميركا تقدم له الدعم. مثلما بات من الواضح انتهاج PYD لمبادئ الأسدية في السياسة التي تقوم على الركائز الثلاثة المعروفة: إعطاء الأولوية للقوة العسكرية والأساليب الأمنية، المرونة مع القوى الخارجية، والتشدد ضد المجتمع المحلي وتهميشه.
يضاف إلى ذلك أن تجربة الائتلاف الوطني الطويلة لم تعُد تعني السوريين كثيرًا؛ إذ كثر الحديث عن فساده، وارتهانه سياسيًا أما لجهات خارجية دولية، أو ارتهانه داخليًا لجهات وقوى سياسية معينة. حتى بات يمكن القول إن بؤرة توجيهه لم تعد تؤشر إلى سورية وما يدور فيها، فضلًا عن عجزه الذي بات واضحًا للقاصي قبل الداني.
لم يتمكن إذًا القوميون، والإسلاميون، بكل تنوعاتهم، والإخوان المسلمون، والأكراد، وممثلو الإسلام الدعوي، وجماعة الائتلاف، من تكوين تفكير متحرر من الأُمنيات والأحلام السياسية والتاريخية الشعبوية.
كذلك نجد أن القوى والأحزاب القومية والدينية في سورية بعد 2011 لم تتمكن من تطوير نفسها، وتقديم خطاب عقلاني وواقعي يلتم حوله السوريون، ويشجعهم على تجاوز محنة عدم الثقة، ويفتح ملف تورط فئات واسعة من الشعب السوري بأعمال العنف التي عانتها سورية خلال السنوات الماضية. بقي خطابهم ينوس بين نزعة شعبوية، أكل الدهر عليها وشرب، تريد، من جهة، استنساخ تجارب تنتمي إلى عصور خلت، أو تستند، من جهة أخرى، إلى نفخ الواقع المعقد والصعب بالأيديولوجيا وأحلامها التي دفع السوريون أكثر من غيرهم ثمن زيفها. أيديولوجيات يشعر المرء بأنها تقف مع الأمة لكنها ضد الفرد، مع الماضي لكنها ضد المستقبل، مع التسامح لكنها لا تولي للتفاهم الدور الرئيس، مع الواجبات لكنها تغض النظر عن الحقوق، في محاولات يائسة لاسترجاع صور مكررة وباهتة من الأسدية والناصرية، وأحلام الخلافة.
أما جماعة الإسلام الدعوي والمتصوفة، فإن غالبيتهم طوّروا خطابًا يطالب السوريين بالتعايش والتحلي بأخلاق التسامح والرحمة. ولكنه في المقابل خطاب يفتقر إلى أبسط مكونات النظريات السياسية، لأنه بقي مجرد كلام وعظي بلا معنى سياسي، يُرجع مصائب المجتمع السوري إلى الذنوب التي يرتكبها المسلمون السوريون، وإلى عدم مثابرتهم على العبادات وتراجع صلة التراحم. حتى الحلول بقيت خارج نطاق إرادة السوريين تنتظر فرج الله ورحمته.
فالسياسة معطلة بشكل شبه كلّي، بالنسبة إلى الدعاة، بمعنى أنها ليست هي السبب في ما حصل للسوريين، وبالتالي ليست هي المفتاح للحلول أيضًا. ولذلك بقي خطابهم خطابًا تصبيريًّا أكثر من كونه خطابًا تفعيليًا، إنه خطاب يدفع الناس إلى الانتظار والبحث عن الخلاص بشكل فردي، عبر التركيز على سلوك وعبادات الفرد، على اعتبار أنها في النهاية هي التي ستدخله الجنة. ولذلك بقي خطابًا يرضي الجميع، على حساب الجميع.
لم يتمكن إذًا القوميون، والإسلاميون، بكل تنوعاتهم، والإخوان المسلمون، والأكراد، وممثلو الإسلام الدعوي، وجماعة الائتلاف، من تكوين تفكير متحرر من الأُمنيات والأحلام السياسية والتاريخية الشعبوية، التي تعطي عالَم (ما نحب أن يكون) الأولويةَ، على عالم ما هو كائن بالفعل، وتقدّم عالم المستحيل على عالم الممكن. هكذا بقيت هذه القوى بعيدة عن تكوين وعي واقعي، يعي الممكنات ويتحرز من الأماني السياسية الشعبوية، ويحمل على عاتقه المسؤولية الوطنية وتعقيدات المرحلة الحالية.
يسأل غالبية المؤيدين، بخبث وسذاجة مقصودتين: ما البديل؟ في إشارة إلى أن السوريين لم ينجحوا في تشكيل كيانات يجتمع حولها كل السوريين الذين يرون أن سورية للجميع، كيانات تقوّم التأسيس للتعايش والتفاهم، والعمل بشكل واقعي على شعار” الشعب السوري واحد”، طبعًا، دون أن يدرك أولئك أن النظام يبقى أسوأ البدائل على الإطلاق.
التفكير في خطاب يجمع كل السوريين على قاعدة التفاهم وبناء الثقة، والاعتراف بكل المخاوف والهواجس البينية، والتخلي عن رواسب الطائفية التي اجتهد نظام الأسد في زرعها وسقايتها لأكثر من خمسين سنة، والعمل على بناء مجال جديد للسياسة يحتوي كل السوريين ومخاوفهم، ويعيد تكوينهم من جديد على مستوى الهوية والطائفة المواطنة، أمورٌ ملحّة أكثر من أي وقت مضى. ومن دون ذلك؛ سيبقى السوريون يدفعون ثمن صراع بين أطراف غريبة عن أحلامهم السياسية التي أشعلت ثورتهم.