مركز حرمون للدراسات المعاصرة
٢١ تمّوز/ يوليو ٢٠٢٠

أولًا: مقدمة
تكثر النزعات الانفصالية، عندما تتداعى الدول المركزية وتشرف على الانهيار، حيث تستغلّ بعض المجموعات ضعف الدولة للنيل منها، عبر المبالغة في مطالبها المحلية إلى حدود الدعوة إلى الانفصال وإنشاء كيانات مستقلة، أو الالتحاق بدول الجوار. وتمر سورية الآن بوضع مشابه، حيث تعلو فيها بعض الأصوات مطالبةً بانفصال هذا الجزء، أو اعتماد إدارة خاصة لذاك، من دون مبررات قانونية وسياسية، وتعزز تلك الأصوات قوتها بالاستقواء بالخارج.
تحاول هذه الورقة -بإيجاز- تتبع مثل هذه الحالات وتقصّي مقدماتها، والبحث في أسبابها وفرص نجاحها، ضمن الشروط السورية الداخلية وتلك المحيطة بسورية، ومدى توافقها أو تعارضها مع مصالح السوريين ككل.

ثانيًا: نقاط ضعف الخارطة السياسية السورية بعد عام 2011
لم يكن إنشاء دولة سورية الحالية، من خلال اتفاقية سايكس – بيكو، أمرًا خارج سياق التاريخ المعاصر، فقد حدث ذلك مرارًا عبر تاريخ الدول وتحولاتها الجيوسياسية. لكن موقع سورية جعلها محط صراع بين القوى الإقليمية والدولية، وازداد الأمر تعقيدًا بعد إنشاء دولة “إسرائيل” عام 1948. وكانت فترة الاستقرار النسبي الطويلة التي عاشتها سورية، بين بداية سبعينيات القرن العشرين وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ثمرة توافق دولي وإقليمي قلّ نظيره، سواء كان من فوق الطاولة أو من تحتها. وقد ظهر ذلك جليًا في المفاصل السياسية الحرجة، التي استدعت أن يخرج ما خفي إلى العلن، فعلى سبيل المثال، كان حضور كل من وزيرة الخارجية الأميركية مارلين أولبرايت، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، عند وفاة حافظ الأسد، إشارة حاسمة على موافقة الغرب على مشروع التوريث، بدعوى الحفاظ على الاستقرار.
لكن الاستقرار الذي ساد في سورية، وغيرها من البلدان المشابهة، كان مبنيًا على قاعدة حكم الأنظمة المستبدة في الداخل، وممارسة أدوارها الوظيفية مع الخارج، وهو النمط الذي يفضله الخارج، لسهولة التحكم في قرار البلد المركزي، وضمان الحفاظ على الستاتيكو الإقليمي وتجنب الفوضى، ولا يهمّ أن يتعارض ذلك مع المعايير الديمقراطية، أو ما سيترتب عليه من نتائج مأسوية، من جراء السبل التي قد تسلكها مسارات تاريخية لا تخضع دائمًا للحسابات والسيناريوهات الجاهزة.
وعندما حدثت انتفاضات الربيع العربي، وانكشف قصور كثير من السياسات الدولية المتعلقة بالمنطقة؛ وقعت سورية في شبكة المصالح الدولية والإقليمية مرةً أخرى، وأعادت الدول المعنية صياغة سياساتها لتتناسب مع الوقائع الجديدة، وبدا كأن كل دولة تحاول توجيه الأحداث لتحقيق مصالحها، بالرغم من وجود أشكال من التنسيق بين هذه الدول أحيانًا. وقد أفرز ذلك وضعًا هشًا بات يهدد وجود سورية كدولة، وفعّل تناقضات نشأتها قبل مئة عام، فظهرت بعض النزعات الانفصالية أو الاتجاهات التي تحتمي بهذه الدولة أو تلك، وسط غياب بوصلة وطنية قادرة على “لمّ الشمل السياسي” للسوريين.

ثالثًا: واقع التوجهات الانفصالية والالتحاقية الحالية
تمثلت النزعات الانفصالية في شمال شرق سورية، منذ عقود، ببعض التيارات القومية الكردية، بدأت بمطالب محقة للكرد السوريين، تتلخص بمطالب ثقافية وبعدم التمييز الذي مارسه النظام ضدهم في بعض المجالات، ثم تطورت هذه النزعة بعد دعوة النظام لحليفه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي منذ 2011، وتكليفه بمهام ضبط الشارع الكردي أولًا، كي لا يشارك في الثورة، فبدأت المطالب تتحول من ثقافية ومطلبية إلى مطالب سياسية، ثم صعد الحزب مطالبه بعد أن دخل مع الأميركان على خط الصراع مع تنظيم (داعش)، وظهر مصطلح “روجآفا” (غرب كردستان) كمصطلح سياسي متداول، وتم إنشاء إدارة ذاتية مستقلة في المناطق التي سيطرت عليها قوات الحزب تباعًا، بعد انسحاب قوات النظام منها لصالح هذا الحزب. وعلى الرغم من الخلافات الحادة بين هذا الحزب ومعظم الأحزاب التقليدية الكردية العاملة في هذه المنطقة، لا يبدو أن ثمة مشكلة جوهرية بينها بخصوص العمل، على الأقل لا اختلاف في إنشاء حكم ذاتي موسع، تحت مسمى “لامركزية سياسية”، وصولًا إلى تكريس حالة انفصال قد تساعد في تحققها ظروف دولية مستجدة. بهذا الخصوص، يشكل نموذج الحكم الذاتي في شمال العراق طموحها، وقد بات معظم الأكراد السوريين يتبنون هذه الرؤية، ومن الناحية العملية، تشترك الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، مع حكومة كردستان العراق، في بعض طرائق الإدارة، ومنها ضرورة وجود كفيل محلي للقادمين من بقية المحافظات السورية والعراقية إلى هاتين المنطقتين، أي إن القادمين يُعاملون كأجانب، حيث لا يُسمح للسوريين المقيمين خارج منطقة سيطرتهم بالتملك ولا بممارسة أي نشاط تجاري من دون ترخيص من سلطة الحكم الذاتي.
من جهة ثانية، وعلى الرغم من محدودية المجموعة التي أطلقت على نفسها “حركة استقلال الجزيرة” (صدرت وثيقة إعلان استقلال الجزيرة في بداية الشهر الحالي)، فإن هذا المشروع يتلاقى مع مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بعد تشكيل “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”.
وإنّ الترتيبات التي اتخذتها وتتخذها السلطات التركية، بخصوص المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري، وموجات هجرة وفرار السكان المحليين التي شهدتها هذه المناطق، وتسهيل الوصول الكثيف للمهجرين إليها من مناطق سورية أخرى، واستخدام المقاتلين السوريين كمرتزقة في حروب ليبيا، حيث لا ناقة لهم فيها ولا جمل، واستعمال العملة التركية بعد سريان مفعول قانون “قيصر” الأميركي منتصف الشهر الماضي؛ تجعل تلك المناطق مرتبطةً بالسياسات التركية، وتهدد بإلحاقها بالأراضي التركية، في حال انفراط عقد الدولة السورية.
ومع فرضية انفراط عقد الدولة السورية، سيكون جنوب سورية في وضع خاص يمكن أن يدفع باتجاه ربطه بصورة ما مع شمال الأردن، كتعويض لهذا البلد عن التمدد الإسرائيلي في غوره، وإنْ كان الوضع الداخلي قد يحول دون تمدد الأردن خارج كيانه الهش.
حدث التغلغل الإيراني في سورية، بعد تثبيت أركان الاتجاه الإسلامي في الثورة الإيرانية عام 1979، وازداد ذلك على نحو فاضح بعد قيام الثورة السورية في 2011. لكن نقطة ضعف النفوذ الإيراني تتمثل بعدم وجود حدود تربطها مع سورية، وهو ما تحاول تعويضه بالسيطرة على ما أمكنها من مناطق سورية عبر ميليشياتها، كما في شرق دير الزور، كي تجعل منها جزءًا مهمًا من الهلال الإيراني الممتد من إيران عبر العراق فسورية، منتهيًا بلبنان الذي تسيطر عليه الآن عبر ذراعها “حزب الله”، وكذلك تفتقر إيران في سورية إلى حوامل محلية أيديولوجية أو دينية يُعتدّ بها، خاصة بعد دورها الإجرامي في سورية الذي يواجَه برفض شعبي واضح، إضافة إلى شحّ الموارد المادية التي زادتها العقوبات الأميركية ضعفًا. وعلى ذلك؛ فإن إيران في هذه الفترة تعاني على صعيد قدرتها على تمويل نفوذها الذي تسعى إليه، فضلًا على أن التغلغل الإيراني مشروط بالتسهيلات التي يقدّمها النظام، ويرتبط بوجوده، وهو أمرٌ يرفضه الأغلب الأعمّ من السوريين.
وتعارض روسيا، وهي الدولة الأكثر نفوذًا في مناطق سيطرة النظام، محاولاتِ تعزيز النفوذ الإيراني (بحدود معينة) الذي يتأثر أيضًا بالحصار الاقتصادي الأميركي، فضلًا عن الضربات الجوية الإسرائيلية على مناطق التموضع العسكرية الإيرانية.

رابعًا: مستقبل النزعات الانفصالية
بغياب التعبير السياسي عن الحالة الوطنية السورية، تبقى الضمانة الأساسية لبقاء سورية هي ما يتم تداوله في المؤتمرات الدولية المرتبطة بالشأن السوري، حول تأكيد أهمية الحفاظ على الحدود الحالية لسورية، مع أن الضمانة الحقيقية تتمثل بصياغة عقد سياسي جديد بين السوريين، ينهي حالة التشرذم والاستبداد ويعيد الثقة بسورية كوطن نهائي لأبنائها.
ولا يبدو ضمن الشروط الدولية الحالية أنّ هناك ما يساعد في انفصال المنطقة الشمالية الشرقية الخاضعة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي، إذ يبقى العامل الأميركي هو الفاعل الأساس في هذه المنطقة، وهو الذي كبح طموحات الحزب المشار إليه، وألزمه بإشراك مكونات الجزيرة الأخرى ضمن “قوات سوريا الديمقراطية”، في إطار جهود التحالف الدولي للحرب ضد (داعش)، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى إجراءات أميركية ساهمت، بضغط تركي، في إبعاد قادة ومقاتلين أكراد في هذا الحزب من غير السوريين عن منطقة شمال شرق سورية، وستبقى النزعة الانفصالية الكردية في سورية رهنًا بتطور الحالة الكردية في البلدان المجاورة، العراق وإيران وتركيا، وخاصة في العراق، مع أن محاولات تجاوز حالة الحكم الذاتي، إلى محاولة انفصال إقليم كردستان العراق بعد انتخابات عام 2017، لم تلقَ استجابة دولية، بخاصة من الولايات المتحدة، وقد رفضتها السلطات المركزية العراقية وإيران وتركيا.
من جهة ثانية، لا يبدو أن “حركة استقلال الجزيرة” تشتمل على مؤيّدين يُعتدّ بهم في الوقت الحاضر، وهي مجرد فقاعة إعلامية. وبالرغم من ضعف الاستجابة لهذه الدعوة، فلا شيء يمنع تطور هذا الاتجاه، في حال استمرار استنقاع الأوضاع السورية وتأخر الحل السياسي، وبخاصة عند وجود حامل سياسي دولي وإقليمي لهذا المشروع، ولا سيما أن منطقة الجزيرة تشكل إقليمًا زراعيًا متكاملًا وموارد نفطية مهمة، ولا شيء مستبعدًا في ضوء التحالفات والمصالح الدولية المتغيرة، وينطبق ذلك على مجمل الحركات الانفصالية والالتحاقية في سورية.
وتشير الإجراءات التي تقوم بها تركيا، في مناطق سيطرتها شمال سورية، إلى نيتها فرض نفوذها لمدة طويلة، ويحضر العلم التركي لوحده، أو إلى جانب علم الاستقلال، في هذه المناطق. وليس من المتوقع حصول أي تغيير في هذا المشهد قبل حصول حل سياسي يضمن عودة ملايين المهجرين السوريين من تركيا، إلى ديارهم، وينزع حجة خطر حزب PYD على الأمن القومي التركي، وربما من خلال تحديث اتفاقية أضنة لعام 1998.
ومن غير المرجح أن تتطور حالة الجنوب السوري للوصول إلى الالتحاق بالأردن، الذي لديه من المشكلات الداخلية والعشائرية ما يكفي، علاوة على المخاطر المتزايدة من جانب “إسرائيل” لتحويله إلى وطن نهائي للفلسطينيين.

خامسًا: خاتمة
برزت فكرة توزيع سورية إلى أقاليم شبه مستقلة إداريًا، في الدستور الروسي المُعدّ لسورية في عام 2017، ووردت أفكار مشابهة في أبحاث مؤسسة (راند) الأميركية عام 2016. ولا يُعرف المقصود بذلك أهو نوع من الفيدرالية، أم مجرد لامركزية إدارية تبدو مطلوبة، كنقيض لأوامرية ومركزية النظام الاستبدادي.
إن العامل الحاسم في الحدّ من أخطار تفتت سورية هو حصول الحل السياسي، واستقرار الحال على نوع من اللامركزية الإدارية المرنة، حيث يساعد ذلك في امتصاص محاولات الالتحاق بدول الجوار الإقليمية أو الانفصال على هيئة كيانات مستقلة، ويُقنع السكانَ بالفائدة من إدارة مواردهم، من دون أن يمس ذلك سيادة الدولة المركزية. أما استمرار التشتت الوطني والسياسي الحالي، فقد يقود إلى أوضاع تقع فيها مختلف أجزاء سورية تحت نفوذ الدول على نحو شبه دائم، وربما يؤدي إلى احتلالها المباشر. وتجدر الإشارة إلى أن سورية الحالية تحقق تكاملًا اقتصاديًا مقبولًا، من خلال تنوع مواردها وأهمية موقعها الاستراتيجي، ولا يمكن أن يحقق أيّ جزء منها مثل هذين الشرطين.