لا نريد أن نبكي، لكنها الدموع.
لا نريد أن نحزن، لكنه الأسى.
لا نريد أن نفقد الأمل، لكنه اليأس.
لا نريد هذا الذلّ، لكنها المهانة.
لا نريد مواقف عاطفية، لكنه الشجن.
لا نريد أن نثأر، لكنه الغضب.
وطني يؤلمني.
بيروت تؤلمني.
قلبي يؤلمني.
ألمي يؤلمني.
كل زجاج بيروت سقط في عينيّ، كل الذين ماتوا أخذوا معهم أجزاء من روحي، كل الذين تلاشوا في عصف الانفجار عصفوا بي إلى النهاية.
لا وقت للكلام.
لا وقت للوقت.
مشينا في مسيرة 8 آب-أغسطس، وسط سحاب الغاز ومطر الرصاص المطاطيّ، ولم تكن هتافات. كنا صامتين بالغضب، وعندما كان بعضنا يهتف كان هتافه يتلاشى.
اندفع شباب الانتفاضة في حقول النار والغاز، وكانوا يتلقون ضربات رجال أمن السطة بعيون مليئة بالاشفاق والاحتقار.
يصابون وينزفون، وهم يشفقون على قامعيهم، ويحتقرون سلطة المافيا التي فقدت قدرتها على النطق، فلجأت إلى القمع.
كلام هذه السلطة تعفّن في أفواه من ينطقون به.
رائحة عفن الكلام أشد نتانة من رائحة الزبالة التي تركوها في الطرقات.
في الصباح حمل الشباب المكانس لإزالة الدمار، وفي المساء كنسوا السلطة.
رأيتهم من خلال ضباب الغاز، كانوا يتنشقون الغاز، ويسخرون من سذاجة القمع وتفاهته.
إحدى الصبايا رمت حجراً، ثم التفت، فرأيت دمعاً تكرج على خديها، قلت لها أن تتراجع إلى الوراء أمام سيل منهمر من القنابل المسيلة للدموع.
«هيدول مجاديب»، قالت، «من تلات ايام والدموع محبوسة بعيوني، وهلق عم ببكي وفرحانة اني قدرت ابكي، شكرا ميشال عون، قنابلك حررت دموعنا».
ورأيتها تندفع إلى سحابة الدخان والغاز، وهي تلوّح بقبضتها.
هذه بيروت، بيروتنا. مدينة تعرّت من كل الاستعارات والرموز لتصير استعارة نفسها، صارت هي البحر والسماء وقد احتضنا الكسندرا، طفلة السنوات الثلات التي قتلها الانفجار.
رأيت صور الكسندرا محمولة على كتفَي والدها، وهي تلوح بالعلم اللبناني في إحدى مظاهرات انتفاضة 17 تشرين.
ثم رأيتها مغطاة بدمها.
لم تنهمر دموع الطفلة من غبار الانفجار، ابتلعها صوته، فصارت الطفلة دمعتنا المحبوسة، وغضبنا الذي لا يتسع له الغضب.
كل هؤلاء الضخايا، كل هذا الدم، كل هؤلاء الذين ابتلعتهم النار ولن يعودوا، كلهم أنا، كلهم نحن.
إنه المنعطف يا بيروت. بيروت في منعطف الموت لكنها لا تستغيث، بيروت مخطوفة لكنها لا تنتظر الخلاص من أحد.
شابات لبنان وشبابه يعرفون أن هذه السلطة المنحطة رمت بلادهم في مصيدة الموت، وأنهم وحدهم من يستطيع إنقاذها.
لا تصدقوا أحداً، كلهم اجتمعوا على قتلنا وتركيعنا.
لا الأمريكي ولا الإيراني، لا الفرنسي ولا السعودي، وحدنا نلمّ أشلاءنا، ونتمسك بالحكمة والصبر والإصرار.
وحدنا سنقتلع هذه العصابة التي أخذتنا إلى هاوية الموت.
عصابة لم تكتف بنهبنا وتجويعنا، بل قتلتنا وتقتلنا كل يوم.
ذئاب مفترسة وضباع تنتظر نهش البقايا.
بيروت ليست بقايا. مشت بيروت على أرض مفروشة بالزجاج، دمها يسيل راسماً علامات الطريق إلى بيروت.
يجب أن تنقلع المافيا أولاً، المشكلة ليست حسّان دياب وحكومته. هذا التكنوقراطي الذي لا يملك سوى خيال صورته في مرآته، كان مجرد ورقة لستر عار المافيا الحاكمة.
سقطت الورقة ولم يبق سوى العار.
عار لبنان اسمه الأحزاب الطائفية التي تقاسمت ثيابه، عارنا اسمه ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري وسمير جعجع وحسن نصرالله ووليد جنبلاط وقافلة من أسماء الرؤساء والوزراء والنواب، وعلى رأسهم الصهر الذي لا يشبع سلطة.
ماذا سيفعل العار بعاره؟
العار الذي انحنى ذليلاً أمام الأجنبي سيواصل انحناءته كي ينقذ نفسه من مصيره المحتوم.
هم يريدون إنقاذ العار ونحن نريد إنقاذ بلادنا من العار.
آخ يا بيروت.
آلامك أشد إيلاماً من الألم.
آخ يا بيروت.
نخاطبك من قعر اليأس، ونقول لك إننا يئسنا حتى نهاية اليأس.
وفي نهاية يأسنا تعيديننا إلى الأول، وفي الأول تتعمدين بدم الضحايا، وسنكون لك، تضميننا إلى خرابك كي ترتسمين بحراً على صفحة البحر.
آخ يا بيروت.