اضغط على المربع الازرق للانتقال للصفحة التالية
مقدمة
يتقدّم حزب الشعب الديمقراطي السوري بوثيقته البرنامجية إلى شعبنا بكل أطيافه، في الداخل وبلاد الاغتراب واللجوء، طالباً النقاش والحوار حولها، آملاً تأييده ودعمه، سواء بالتعاطف والتشجيع، أو بالانتقاد، الذي يكرّس حرية الرأي وحق الاختلاف وتعددية الأراء ووجهات النظر، التي تغني الوثيقة وتعزز الحوار الوطني. وفي كلّ الأحوال، تبقى هذه الوثيقة، مثل أي نص، ليست فوق النقد.
كما يتقدم بها إلى قوى ثورة الحرية والكرامة وشبابها، وإلى حلفائنا وأصدقائنا وجميع القوى السياسية والاجتماعية، والفعاليات الاقتصادية والثقافية والمهنية، طالباً الحوار والعمل المشترك لتشكيل كتلة وطنية تعبر عن إرادة السوريين وتقود كفاحهم عبر برنامج وطني للانتقال الديمقراطي ينقذ البلاد من الاستبداد والاحتلال ويحقق أهداف الثورة.
بطبيعة الحال المهمة كبيرة وتاريخية، وليس من السهل بلورة برنامج فعّال جامع يستند على قواسم وطنية مشتركة، في مرحلةٍ يسود فيها الانقسام والتشتت والإحباط والعجز أوساط السوريين، وتتصارع خلالها القوى الإقليمية والدولية على سورية التي ترزح تحت نير احتلال الدول والمليشيات، وفي ظل الاستبداد والتوحش الأسدي. تحاول الوثيقة أن تنطلق من الوضع الراهن لتضيء على مرتكزات العمل الوطني والانتقال السياسي وآلياته ومهامه، وتحدد طموحاتنا في وطننا والصورة المنشودة لسورية المستقبل.
لقد وضعنا هذه الوثيقة، آخذين في الاعتبار الانفتاح على المجتمع وعلى قوى ثورة الحرية والكرامة والقوى الوطنية والديمقراطية في سوريا بطيفها المتنوع، وضرورة التوصل إلى برنامج مشترك في أيّ لقاء أو مؤتمر وطني يجمعها. إن ما آلت إليه الثورة السورية والمعارضة السياسية من تمزق وضعف وارتهان يعود، بصورة أساسية، إلى غياب الخط الوطني الواضح والمتماسك، الذي يبرز هوية شعبنا الوطنية، وأهداف التغيير والثورة، وإدارة تحالفاتها، بما يمكّنها من الدفاع عن القرار الوطني السوري المستقل الذي يشكل عصب النجاح، ويجنّبها الانتهازية والفساد والتطرف.
ومهما اكتست وثيقتنا من ملامح خاصة، فهي تؤكد أن ما يجمع بين السوريين على اختلاف انتماءاتهم أكثر بكثير مما يفرّقهم، ويبرز المهمة المركزية الجامعة: الخلاص من نظام الاستبداد الأسدي وقوى الاحتلال وبناء سورية الجديدة وطناً حراً لكل أبنائها، بجهود الجميع ومن أجلهم.
في الأسباب العميقة للثورة
كانت للثورة السورية ظروفها الموضوعية العميقة التي دفعت إليها في لحظة تاريخية محدّدة، وجاءت في إطار ثورات الموجة الأولى من الربيع العربي من أجل الكرامة والحرية والتغيير. فهي لم تكن لحظة عابرة حدثت بالصدفة، فقد تراكمت أسبابها لعقود، منذ أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. حيث بدأت سورية تخطو خطواتٍ كبيرة على طريق الدولة التسلطية، حينما راح الحكم الشمولي يلقي بثقله على المجتمع، وأخذت السلطة الحاكمة تحتكر بالقوة المجال السياسي، وقطاع الدولة ومؤسساتها، وفضاء المجتمع ومنظماته المدنية والأهلية. فالقوى العسكرية الصاعدة في تلك الفترة لم تؤسس لسلطة تشريعية مستقلّة ومنتخبة انتخاباً حرّاً ونزيهاً من الشعب، وحلّت الأحزاب وألغت الحياة السياسية، وردعت نشوء أي معارضة في البلاد، وسيطرت على مؤسسات المجتمع المدني، مما أدَّى في النهاية إلى فقدانِ الرقابة تماماً على مؤسسات الدولة وممارسات السلطة سواءً في القطاع الاقتصادي أو قطاعات المجتمع الأخرى، وإلى عدمِ القدرة على كبح آفة الفساد التي راحت تقتحم كامل أجهزة الدولة والمجتمع. وإذا كان مفهوم الدولة الحديثة قد شهِدَ بعض التبلور والنمو والتقدّم إبان حكم المستعمر، وفيما بعد إبان حكم البرجوازية الوطنية، ففي عهد “الانقلابيين التقدميين الجدد” منذ عام 1963، تغوَّل مفهوم السلطة وتقلّص مفهوم الدولة إلى حدّ كبير ليتماهى ويذوب في السلطة الحاكمة، لدرجة صار يصعب التمييز بين المفهومين. وكانت النتيجة تكريس سلطة متضخمة ديكتاتورية قمعية ودولة واهية. وصارت السياسة حكراً على أهل الحكم والأقرباء والموالين، وحُرِمَتْ أكثرية الشعب من ممارسة حقّها في العمل السياسي وفي تمثيلها الحقيقي في البرلمان والحكومة، وألغيت الصحافة الحرّة لتقتصر على الصحافة الحكومية. وقيِّدَ النشر بشكل عام بقوانينَ جائرة للمطبوعات، وصودِرَتْ المؤسسات الأهلية والمدنية التي كانت قائمة. وهكذا خسرت الدولة جناحها الثاني الذي يشكّل عامل التوازن مع السلطة بفقدانها للمجتمع السياسي والمجتمع المدني.
وما إن استحوذَت السلطة بحزبها الواحد على السياسة والمجتمع، حتى اندارت لتستحوذَ باسم “العدالة الاجتماعية” و”الاشتراكية” على الاقتصاد بكامل فروعه، وتقْطِعَ إدارته للموالين ولحاشيتها والمقربين منها. وبعد انقلاب 16 تشرين 1970 تفاقم الوضع وساء عشرات الأضعاف، وراحت السلطة تتحكّم في توزيعِ الثروة وتتلاعب بمحتوى جيوب الناس بشكل يتناسب مع درجة ولائِهم. وما حدث في سورية في هذه الحقبة كان نمطاً من الإقطاع السياسي، الذي هيّأ بدوره لقيام نمطٍ جديد من الإقطاع الاقتصادي. وهذا الأخير لا يتعلّق بامتلاك الأراضي كما كان الحال في العهد الإقطاعي القديم، إنما يتعلّق بإقطاع مؤسسات الدولة والقطاع العام والمؤسسات المدنية والاتحادات والنقابات والجمعيات التي استولت عليها السلطة.
إن السلطة التي تحتكر المجال السياسي لا تنتج إلا اقتصاداً تابعاً يخدم مصالحها، وبالتالي يبقى عاجزاً عن تحسين السياسة وتنميتها. لأن الطرف الفاعل والمؤثّر الوحيد في الاقتصاد والسياسة هو السلطة الشمولية المهيمنة على السلطتين التشريعية والقضائية. وبالفعل لم يستطع الاقتصاد السوري أن يؤثّر إيجابياً في تقدّم المجال السياسي خطوة واحدة إلى الأمام، لا بل قزّم حزب البعث الحاكم نفسه
وملحقاته، كالجبهة الوطنية، وقلّص دورهما في القرار السياسي. فطوال هذه الحقبة كانت العلاقة بين السياسة والاقتصاد محكومة بجدل الضعف. لذلك ليس غريباً أن تفشل كل محاولات الإصلاح الاقتصادي التي حاولتها السلطة واصطدمت بالطريق المسدود، لأنها في محاولاتها هذه كانت تسعى لإرضاء طغمتها وزبانيتها أولاً، وإلى إعطاء انطباع زائف ومضلّل بوجود اصلاح، وذلك لتخدير الناس والتغطية على فساد السلطة والمسؤولين ثانياً، وإلى إصلاح المستوى الاقتصادي في المجتمع بدون إجراء أي تغيير على المستوى السياسي ثالثاً. لذلك من الطبيعي أن تتّسم البنية الاجتماعية السورية الفقيرة سياسياً والعاجزة اقتصادياً بركودها واستنقاعها وتقادم تخلّفها وتكرار أزماتها، وهذه السمات جعلتها أقرب إلى البنية الإقطاعية السلطانية القديمة. ومن الطبيعي في مثل هذه البنية التسلطية الشمولية أن يتفاقَمَ اندحارُ الطبقة الوسطى، ويصبح المجتمع أكثرية من الفقراء والمسحوقين، وأقلية من الأغنياء ذوي الثروات الضخمة. وأمست كل شعارات “الاشتراكية” و”العدالة الاجتماعية” و “التقدّم الاجتماعي” في طيّ النسيان.
وما تفاقم بشكل غير معهود في سورية هو الطائفية السياسية، وخاصة بعد ” الحركة التصحيحية “، حيث أخذت تتصاعد باستمرار لتشمل كل القطاعات في الجيش والأجهزة الأمنية والاقتصاد والمؤسسات الحكومية والنقابات والجامعات وغيرها. وفي الواقع ضمن هذه البنية الشمولية والطائفية والإقطاعية المتجدّدة، لم يفقد المواطنون السوريون حرياتهم وحقوقهم السياسية والمدنية فحسب؛ إنما فقدوا شعورهم بمواطنتهم وكياناتهم كأفراد؛ وصار يتملّكهم شعور دائم بالعبودية للسلطة، ليس فقط في لقمةِ عيشهم، وإنما في معظم شؤون حياتهم ومستقبلهم، وحتى في اختيارِ أعمالهم ومهنهم ودراساتهم، وتنميط شخصياتهم ونفسياتهم وأخلاقياتهم. ولقد صار المواطنون السوريون في تعاملهم اليومي، يواجهون أعراض أمراض اجتماعية مثل جنونِ العظمة والدونية، والأمراض النفسية والاجتماعية الأخرى التي تنتشر في مجتمع الناس المقهورين، مع استشراء النفاق والكذب والاحتيال والوشاية والنصب.
وفي ظلّ هذه البنية الشمولية الإقطاعية المتجدّدة أخذ الانتماءُ الوطني ينحدرُ إلى الانتماء الطائفي والمذهبي والعشائري والأسري، وراح الفسادُ يترعرعُ، وتُشرعَن الرشوة ويؤدلَجُ لهما لإسباغ سمات الذكاء والشطارة والنجاح عليهما. وبيئة كهذه خير بيئة للنكوص الفكري الديني وإنتاج التطرّف الذي لجأ إلى العنف والإرهاب كوسيلةٍ للتغيير. وهو ما ساعد بدوره على انحسار نفوذ القوى الوطنية الديموقراطية، ووفّر للسلطة ذريعة اندفاعها أكثر على طريق العسف والقمع والتنكيل بالشعب كله. وكانت النتيجة تفاقم ضعف الدولة لمصلحة السلطة وأجهزتها القمعية، وتراجع اقتصادها ومعرفتها وتقنيّتها وثقافتها وقوة المعارضة فيها وقدرتها على مواجهة التحدّيات والأخطار الخارجية. كان النظام السوري وما يزال يعتبر ضعف المعارضة مؤشّراً إلى قوة الدولة ودلالة على استقرارها، في الوقت الذي نرى أن المعارضات القوية لا توجد إلا في الدول القوية والأكثر استقراراً. فدول اللاسياسة واللا معارضة واللا مجتمع مدني، هي دول فاشلة بائسة لا مستقبل لها في هذا العصر.
ولقد تبيّن بالتجربة التاريخية أن مفهوم الحزب القائد للدولة والمجتمع، قد لعب دوراً مركزياً في تكريس المجتمع الشمولي البيروقراطي. فهذا المفهوم العصبوي يقوم في الأساس على النفي المستمرّ للرأي لآخر، وعدم الثقة بالشعب والخوف الدائم من إسهامه في القرار
السياسي، ويتّسم دائماً بخوف الشعب من السلطة، وخوف السلطة من الشعب. فالخوف المتبادل بين الطرفين هو من أهم سمات المجتمع الشمولي.
تحوّلت السلطة في سورية إلى غولٍ سياسي وغولٍ اقتصادي، وهذا الحال ينتج الاستبداد والاستعباد والنهب، فالقسم الأعظم من الناتج الاقتصادي في المجتمع لا يذهب إلى تراكم ونمو في الإنتاج، بل يذهب لخدمة السلطة وأمنها ورفاهيتها وتعظيم ثرواتها في البنوك الأجنبية.
إن الخطاب السلطوي المتخلّف والاستعبادي يتجسّد يومياً في مفاهيم “الأب القائد، والمكرمات والعطاءات”، و”الرَحمة” و”التوبة” وغيرها من المفاهيم البالية. وإلى جانب الحضور العميق للمجتمع السلطاني المتجدد في بلادنا من خلال “البصّاصين العصريين” الذين لا تخلو منهم دائرة أو حي أو قرية أو مدرسة. ويبقى الأهم في هذا الحضور الإقطاعيون الجدد الذين ملأت شهرتهم الأسماع في الخارج والداخل، حيث يبدّدون مع ذرياتهم ثروات البلاد المنهوبة. لذلك لم يكن الأمر غريباً أن يبقى مفهوم الشأن العام أو مفهوم الجمهورية رمادياً وواهياً في سورية، فتحوّل الدولة إلى مزرعة قد مهّد الطريق إلى التوريث السياسي والتفكير الفئوي والسلوك الميليشياوي. ضمن هذه الشروط والظروف التي تعيشها سورية منذ عقود انتفض الشعب وثار مستفيداً من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وملتقطاً شرارة الربيع العربي التي انطلقت من تونس، ثم امتدت إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين، وكان من الطبيعي ألا تستثني سورية. إن الربيع العربي حقيقة كبرى في المنطقة، لا يقتصر على موجة واحدة، وها نحن نعيش الآن زمن موجته الثانية في كل من السودان والجزائر ولبنان والعراق.
الأوضاع الدولية والإقليمية
أولاً: الوضع الدولي ومؤثّراته في القضية السورية:
لم يكن الوضع الدولي مأزوماً منذ نهاية الحرب الباردة بين القطبين، كما هو في الحقبة الراهنة. فالعولمة وثورة المعلومات والاتصالات وحركة التجارة الدولية، جعلت للصراع الدولي أشكالاً جديدة ومتنوعة وأدواتٍ مختلفة ومتباينة تبعاً للموقع الجيوسياسي الذي يجري فيه الصراع. وخلقت حالة من الفوضى والانقسام في مواقف وتوجهات القوى الدولية، الأمر الذي أدى إلى اختلاف مقارباتها للأزمات الناشئة في العالم. فيأخذ اللاعبون الدوليون مواقفهم بطبيعة الحال وفقاً لمصالحهم الحيوية المتعارضة، ولكن في هذه الحقبة، التي يشهد العالم فيها تراجعاً للديمقراطية الليبرالية أمام الشعبوية الصاعدة، نراهم لا يأخذون أي اعتبار لمصالح وتطلعات الشعوب على الإطلاق، ويتنكرون للاتفاقيات والمواثيق الدولية، ويضربون عرض الحائط بالقرارات الأممية.
استغل النظام الموقع الجيوسياسي لسورية، في سعيه لدور وظيفي وبناء تحالفات إستراتيجية إقليمية ودولية تضمن استمرارية تسلطه، كما تضمن له دوراً فاعلاً في المنطقة وقضاياها الكبرى. وهو ما حول سورية إلى ساحة للصراع على المصالح وتناقض الأهداف بين القوى الدولية، التي أخذت بدورها تشكل اصطفافات إقليمية، تعمل لمصالحها وأطماعها الخاصة، وهذا ما أدى إلى زيادة الأوضاع تضخماً وتعقيداً في مواطن الأزمات، وأدى تعددها في منطقة الشرق الأوسط إلى أن يكون الانقسام في الموقف الدولي سيداً في كل الصراعات الإقليمية، وتجلى هذا الانقسام في سورية بـ 16 فيتو روسي، شاركت الصين بستة منها خلال 9 سنوات.
لقد ارتكزت الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على ثلاثة ثوابت:
1-ضمان أمن اسرائيل وحماية حدودها. 2- ضمان أمن تدفق النفط من المنطقة. 3- حماية المصالح الأمريكية وتحالفاتها. ورغم توجه واشنطن نحو آسيا والمحيط الهادئ، إلا أن ثوابتها لم تتغير. وما تغير هو أسلوب إدارة المصالح والسياسات بعيداً عن الحروب والتدخلات العسكرية المباشرة. فقد تم استبدالها منذ عهد “أوباما” بآليات الإدارة من الخلف وعبر الوكلاء وعقد الصفقات وتطبيق العقوبات وصولاً للحصار السياسي والاقتصادي ومثالها تطور الأزمة مع إيران.
ولكن الاستراتيجية الأمريكية تجاه القضية السورية، اتّسمت بسياستها الانسحابية من الشرق الأوسط، وإبقاء الصراع فيها مفتوحاً، وتتم إدارته من الخلف، مع الإمساك بخيوطه ونتائجه، ومنع أي طرف من تحقيق الانتصار. وعلى الرغم من اعتمادها محاربة الإرهاب وتحجيم الدور الإيراني والدفع إلى الانتقال السياسي، فإن بوصلة سياستها كانت تؤشّر دوماً صوب أمن إسرائيل، انطلاقاً من مصلحتها في إجهاض ثورات الربيع العربي وتحويلها إلى أزمات مفتوحة، يسهل التحكم بمآلاتها من أجل ضمان مصالحها، وليس الانتصار لحقوق السوريين.
لقد عملت الولايات المتحدة على إدارة الصراع السوري والتحكّم بكل مآلاته منذ البداية، وذلك عبر استنزاف بعض القوى الإقليمية والدولية المتصارعة، وإغراقها في المستنقع السوري، وتركها تدفع أكلاف هذه الحرب من رصيدها السياسي والاقتصادي والعسكري. وجعلت القضية السورية في دائرة الاهتمام الأميركي عبر “قانون قيصر” والحصار الخانق على إيران؛ لفرض إرادتها في الحلّ اعتماداً على قرار مجلس الأمن 2254، مستخدمة أسلوب الضغط بالعقوبات، مستثمرة للمتغيرات على الأرض حيناً، وصانعة لبعضها حيناً آخر، في عملية توضيب للجميع تمهيداً لصفقة دولية تحقق أهدافها، وترضي كافة المشاركين.
أمّا بالنسبة إلى استراتيجية روسيا في سورية، فهي تدعي التمسّك بمقولة احترام النظام الدولي واحترام سيادة الدول، وعدم قبول تغيير الأنظمة من الخارج. ومن هنا قامت سياستها على حسم الصراع عسكرياً، بعد احتلالها سورية، بهدف منع انهيار النظام وتثبيته وإعادة إنتاجه وتأهيله مع الحفاظ على هيكلية السلطة لضمان مصالحها في سورية والشرق الأوسط عموماً، بما يجعل منها قوة دولية مؤثرة. واستمرت تحاول منذ بداية الأزمة شرعنة بقاء النظام واستمراره عربياً ودولياً، تمهيداً لفرض حلّ يتماشى ورؤيتها، وفي الوقت نفسه تحقق أهدافها في صراعاتها الدولية مع الغرب، إذ تمكّنت من فرض نفسها شريكاً ومنافساً دولياً في إدارة الأزمات وتسويق السلاح والطاقة، مع التزامها مثل أميركا بأمن إسرائيل. لكنها فشلت في الاستثمار السياسي لحملتها العسكرية، فحاولت تعطيل مسار جنيف وقرارات مجلس الأمن، وعرقلة استصدار قرارات تخدم قضية السوريين. فدأبت على خلق مسارات بديلة مثل “أستانا وسوتشي”، التي وإن ساهمت في إنجازاتها العسكرية، فهي قد أفشلت من جهة أخرى سعيها في إقناع المجتمع الدولي بجدوى التصوّر الروسي وقدرته على تحقيق الحل بمضمون القرارات الدولية.
أمّا الاتحاد الأوربي فعلى الرغم من أنه يعتبر نفسه معنيّاً بشكل مباشر بأحداث المنطقة، ليس فقط بسبب قربه من منطقة الشرق الأوسط، وإنما بسبب ما أصابه من نتائج الصراع (الإرهاب، والهجرة، الكلفة المادية، الإغاثة…)، فهو يرى مصلحته في إيقاف هذا الصراع ولملمة نتائجه. إلا أنه لا يملك القرار السياسي المستقل والقوة القادرة على ذلك، إذ يبدو الحلقة الأضعف في الكباش الدولي المتصاعد، ويتعرّض لضغط وابتزاز اقتصادي وسياسي، في الوقت الذي يواجه صعوبات جدّية تجاه أزماته الداخلية وحالات الانقسام وتضارب المصالح بين دوله. وهذا ما أدى إلى بروز سياسات وتقديرات أوربية مختلفة، وتحديات كبيرة بالنسبة إلى حماية دوره وحفظ مصالحه على الساحة العالمية، وتصديه لمحاولات تهميشه وإلحاقه بسياسات أمريكا في مختلف القضايا الإقليمية والدولية. وعلى الرغم من ذلك يمتلك الاتحاد الأوربي في القضية السورية ورقة هامة من أوراق الصراع، وهي ورقة إعادة الإعمار المرتبطة بالحل السياسي، وأوراقاً سياسية أخرى مثل ورقة اللاجئين والورقة الحقوقية والحصار الاقتصادي المترافق بالضغط السياسي والدبلوماسي.
أمّا ما يتعلّق بموقف الهيئات الدولية فإننا نرى أن ارتباك المشهد الدولي، وتباعد مواقف وتوجهات القوى الدولية المؤثرة، واختلاف مقارباتها للأزمات الإقليمية والدولية، قد أثر تأثيراً بالغاً على الهيئات الدولية وأدى إلى تراجع دورها في إيجاد حلولٍ للصراعات الإقليمية. فسيادة تغليب المصالح الضيقة، وتنكّر الدول للمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان، واستمرار الحروب بالوكالة، واعتماد العقوبات الاقتصادية لفرض وقائع وسياسات على الدول، قد وفَّر إمكانية استدامة المعاناة السورية، على الرغم من اتفاق جميع الأطراف الدولية المتصارعة بأن حلّ القضية السورية لا يمكن أن يكون عسكرياً، بل سياسياً عبر بيان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254، لكنه لن
يكون راسخاً إلا بحلول قضايا المنطقة كافة، تأخذ بعين الاعتبار مصالح شعوب المنطقة، ومصالح الدول المتصارعة إقليمياً ودولياً. كما بات من الضروري اصلاح الهيئات الدولية وخاصة مجلس الأمن الدولي.
ثانياً: الوضع الإقليمي ومؤثراته في القضية السورية
منطقة الشرق الأوسط، من أكثر مناطق العالم عرضةً للتقلّبات والهزّات السياسية والأمنية، نظراً لموقعها الجيوسياسي الحيوي ووفرة مواردها الطبيعية وتنوّعها ووقوعها على خطّ تقاطع المصالح الدولية وأجنداتها. إلا أن العامل الأكثر تأثيراً عليها هو صراعات المشاريع الإقليمية الفاعلة (المشروع الصهيوني، والمشروع الايراني القومي، والمشروع التركي). وتجد هذه المشاريع ضالّتها في استهداف أمن دول المنطقة وشعوبها ومواردها ووحدة أراضيها، في ظلّ غياب المشروع العربي الذي يحمي أمن العالم العربي ومصالحه الحيوية. لقد حول الصراع بين هذه المشاريع المنطقة برمتها، وخاصة في ظل ثورات الربيع العربي وانعدام الوزن النوعي للمنظومة العربية، إلى بؤرة للاستقطاب والتنافس الاقليمي والدولي، وساحةً للصراعات المتعدّدة الأطراف. وجعل دولها تفتقر للاستقرار، وتحوّل بعضها إلى دول فاشلة، وبدأ الاستعمار يعود إليها لكن بحلّة جديدة.
1-الدور الإسرائيلي:
لقد نجحت إسرائيل في استغلال حالة الاهتراء العربي بعد انكشاف الأنظمة أمام شعوبها إثر ثورات الربيع العربي. ولم تخفِ دعمها لبقاء نظام الأسد. فقد تغاضت عن تدخل إيران وحزب الله والمليشيات الأخرى لحمايته، ورأت في جرائمه بحقّ الشعب السوري ما يغطّي على جرائمها. وهي تقف اليوم في مقدمة اللاعبين المستفيدين من المحنة السورية، فقد وفّر لها تدمير أركان الدولة السورية من قبل الأسد وقوى الاحتلال حزمة من المكاسب السياسية والعسكرية والاقتصادية، لم تكن لتحلم بها. كما وفرّ لها الفرصة لمواجهة النفوذ الإيراني واستنزافه من البوابة السورية، بما يجعلها أكثر قبولاً في المنطقة، بالعمل على تحويل الصراع فيها إلى صراع فارسي-عربي. وها هي تدفعهم للالتحاق بالسياسة الأمريكية والإسرائيلية لحماية عروشهم من التساقط ودولهم من الانهيار ثمناً لإطلاق يدها في الجولان والأراضي الفلسطينية وغور الأردن.
2-الدور الإيراني:
دأب نظام ملالي طهران على تصدير “ثورتهم” من أجل تحقيق حلمهم القومي في الهيمنة على المنطقة عبر المتاجرة بشعار العداء لإسرائيل. وقد تمحورت سياساتهم حول فكرة تحويل إيران إلى قوة إقليمية كبرى، من خلال مشروعها المذهبي والقومي التوسعي، مستفيدةً من برنامجها النووي، ومن السكوت الأميركي، على تدخّلها العسكري والميليشياوي في العديد من دول المنطقة، واختراق أمن مجتمعاتها وتفتيت وحدتها ونشر النزعات المذهبية والطائفية فيها، وتعريض أمن واستقرار دولها للصراعات والحروب المفتوحة في ظل
الانكفاء الأميركي وعدم وجود مشروع عربي. ولقد شكّل نظام آل الأسد حجر الزاوية في مشروع ملالي طهران، وأمَّن جسراً لتواصلهم البرّي مع وكيلهم الإقليمي حزب الله اللبناني. وبعد انطلاق الثورة السورية، رأت إيران أن سقوط نظام الأسد يعني ضرباً لإستراتيجيتها وإضعافاً لدورها، فوجدت بذلك فرصتها لترسيخ نفوذها الإقليمي ودعماً لبقاء نظامه في آن. فحشدت لذلك إمكانات مادية وعسكرية وبشرية ضخمة، وأنشأت عشرات الميليشيات الطائفية واستقدمتها من شتى أصقاع الأرض إلى جانب الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني انطلاقاً من قناعتها بأن انتصار الثورة السورية يشكّل هزيمة لمشروعها، وخطراً على مستقبل نظامها.
3-الدور التركي:
عملت تركيا كل ما بوسعها في بداية الثورة لعدم خسارة الشريك السوري، إلا أن تعنّت الأسد دفعها لقطع علاقتها معه في آب ٢٠١١ وإعلان تعاطفها مع الشعب السوري في ثورته، فاستقبلت ملايين اللاجئين، واحتضنت مؤسسات الثورة والمعارضة السياسية والفصائل العسكرية ومنظمات المجتمع المدني المتعدّدة. أرادت تركيا أن تستفيد من التغيير في سورية. فهي لاعب إقليمي تمتدّ مصالحه إلى مختلف بلدان المنطقة، وتشكّل سورية بوابة العبور لتجارته نحو العالم العربي وخاصة دول الخليج. كما أن حاجة تركيا لمصادر الطاقة تدفعها دائماً للبحث عن مصادر جديدة. وقد وجدت في الأراضي السورية ممرّاً ملائماً يصلها بالغاز القطري. ولأسباب جيوسياسية، رأت الفرصة ملائمة لتصحيح موازين القوى لصالحها ودعم نـظام بديل يكون حليفاً إستراتيجياً لها يُمكّنها من دعم حركات الإسلام السياسي، بما يصبّ في تعظيم نفوذها ومكانتها ودورها في المنطقة، ويتيح لها حماية أمنها القومي ومنع قيام كيان كردي انفصالي على حدودها الجنوبية. ورغم أن تركية دولة أطلسية، لكنها اندفعت للشراكة مع روسيا في مسارات ” أستانا ” و “سوتشي” التي رمت ظلالاً قاتمة على قضية الشعب السوري، وأضرت بثورته كثيراً. وهي ما تزال أسيرة سياساتها المعقّدة للتكيّف مع المتغيّرات الإقليمية والدولية المتسارعة، في إطار سعيها للحفاظ على مصالحها ودورها في سورية وطموحاتها في المنطقة. فأرسلت قواتها المسلحة داخل الأراضي السورية في إدلب وعفرين وشرق الفرات لتمتين مواقعها على الأرض وتعزيز مصالحها ومكانتها في الحلّ السياسي. وتواجه في هذا المسعى العديد من التحدّيات، أبرزها مواقف واشنطن الغامضة والمتغيّرة تجاه دورها وسياساتها المتشابكة، وكذلك حجم التناقضات المتزايدة مع شريكيها الروسي والإيراني. لكنها في مواجهة هذه الخيارات الصعبة تبدي حرصها على عدم القطع مع الولايات المتحدة رغم اكتوائها بسياساتها، وتبقي على شعرة معاوية مع الأوروبيين رغم كثرة تناقضاتها معهم. وكذلك تبدي تركيا تمسّكها بمحور ” أستانا “، وبعلاقاتها المؤثّرة والفاعلة في منظمات قوى الثورة والمعارضة ومؤسساتها السياسية والعسكرية لضمان حضورها الفاعل في الملفّ السوري.
4- الدور الخليجي:
قبل انطلاق الثورة، حظي نظام الأسد بعلاقات طبيعية ومستقرة مع دول الخليج. وعلى رأسها السعودية وجمعته علاقة مميّزة مع قطر. غير أن دور النظام في خدمة الإستراتيجية الإيرانية وسياساتها الإقليمية وتدخّلاتها في البلدان العربية، تسبَّب بمزيد من ابتعاد الخليجيين عن نظام الأسد. فوجدوا في الثورة فرصة للتغيير ونقل سورية من موقع الحليف لإيران إلى الجهة المقابلة. كما أن أحداث البحرين واتّهام إيران بتأجيجها كان العنصر الحاسم في تحديد توجّهات هذه الدول للوقوف ضد نظام الأسد بوصفه جزءاً من المشروع
الإيراني، بعد أن تلمّست أخطاره على أمنها ومصالحها. فسَعَتِ السعودية ومعها بعض دول الخليج إلى حرمان إيران من حليفها السوري، بعد تفرّد طهران بالسيطرة على العراق وتمدّد نفوذها لتشكيل ” الهلال الشيعي “. وبالإضافة إلى خوف دول الخليج من تصاعد نفوذ إيران في اليمن وتدخّلاتها المستمرّة في شؤونها الداخلية وتهديداتها لأمن الملاحة والعبث بالتركيبة الديمغرافية في المنطقة، تعاملت إيجابياً مع الثورة السورية ودعمت المعارضة بجناحيها السياسي والعسكري. لكن الجزء الأكبر من هذا الدعم صبّ في خدمة فصائل معينة ساهمت في تشتيت قوى الثورة وحرفها عن أهدافها. وبدأ تراجعها التدريجي بعد الغزو الروسي لسورية، وانحسار فكرة القيام بعمل عسكري أمريكي ضد طهران. كما أن تعثّرها في اليمن، وتفجّر الخلاف مع قطر، والمتغيّرات السياسية الإقليمية والدولية دفعتها لإعادة تموضعها من جديد والبحث عن خيارات أخرى سعياً وراء مصالحها التي بقيت وحدها ثابتة. لكنها بقيت تؤكّد أن حلّ الأزمة السورية لن يكون إلا سياسياً وعبر بيان جنيف والقرار 2254.
الأوضاع العربية
شكّل الاستبداد، وما يزال، السمة الرئيسة للأنظمة العربية بوصفه الأساس العميق لحالة التدهور والتردّي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه من تمزّق وتفكّك. فقد ضعفت مجتمعاتنا العربية، وفقدت عناصر المنعة والقوة والتضامن في وجه الأنظمة المتسلطة الفاسدة التي حظيت باستمرار بدعم القوى الخارجية. فضاعت معالم الدولة الوطنية، وأنهكت القوى الوطنية والديمقراطية التي عجزت عن إنهاء الاستبداد وإنجاز التغيير الجذري ببلدانها والانتقال بها إلى دول وطنية ديموقراطية. هذا بالضبط ما حفّز الشعوب العربية على إطلاق ثوراتها ضد تسلّط حكامها وفسادهم، من أجل تدشين عصر عربي جديد، تستعيد فيه الشعوب حقوقها المستلبة وحريتها وكرامتها المستباحة. حيث أدَّتْ ثورة المعلومات والاتصالات إلى كسر حالة الاستنقاع في عموم المنطقة، ومكّنتْ الشباب والشرائح المهمّشة من تفجير طاقاتها، بعد احتقاناتها وتململاتها الطويلة المتراكمة منذ عقود، ضد أنظمة الاستبداد والفساد. وهذا ما خلق فضاءً سياسياً عربياً، دفع ملايين العرب للخروج إلى الشوارع، توحّدهم طموحاتهم بالكرامة والحرية والديموقراطية والتخلص من أنظمتهم القمعية الفاسدة، والدخول في مسار تغييري يفضي إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، دولة الحريات والمواطنة والتعددية التي يمكنها أن تضع حدّاً لسردية التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتحفظ كرامة وسيادة شعوبها.
أحدثت هذه التطوّرات العاصفة، هزةً عميقةً في البلدان العربية، وانقسمت المنطقة بين قوى تسعى إلى التغيير وأخرى تجهد لمنعه وردعه، وخلقت حالة استنفار دولي وإقليمي واسعة. إذ رأت نظم الاستبداد العربي في هذه التطوّرات خطراً يهدّد وجودها واستمرارها، ويشكّل إنذاراً بنهاياتها، وإرهاصاً بولادة جديدة للمنطقة بأيدي شعوبها ولمصلحتها خارج إرادة الدول العظمى وامتداداتها. وكان من الطبيعي أن تتحرّك سريعاً للعمل على إجهاضها وحرفها عن مسارها. وشكّلت التدخّلات الإقليمية والدولية، وقوى الثورة المضادة من أنظمة وحركات إسلامية متطرّفة سنّية وشيعية عاملاً حاسماً في انحرافات ثورات الربيع العربي عن أهدافها وانزلاقاتها إلى الصراعات الداخلية والحروب بالوكالة. فتمكّنت هذه القوى من صدّ رياح الثورات العربية في موجتها الأولى، ونجحت في تشويه صورتها، وإغراقها بالدم، بهدف تأبيد الاستبداد والقضاء على تطلّعات الشعوب نحو الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
ففي تونس نجحت الثورة في إسقاط رأس النظام، وتجنّب الانزلاق نحو صراعات عنفية، لكنها ماتزال تعيش مخاضها وتكافح من أجل تحقيق أهدافها أمام تحالف رموز النظام القديم المدعوم من أطراف عربية تسعى لإفشال التجربة السياسية الوليدة.
أمّا في مصر فقد استغلّت المؤسسة العسكرية تجربة الإخوان المسلمين في السلطة، وجنوحهم نحو أخونة الدولة، وتمكّنت من ركوب موجة الاحتجاجات والقفز إلى السلطة عبر حركة انقلابية أدخلت مصر في تجربة استبداد جديدة، تشكّل الآن رأس حربة للثورة المضادة في المنطقة العربية، مستغلة شعار “محاربة الإرهاب” لتصفية الحسابات مع قوى الثورة التي أسقطت نظام حسني مبارك، وإرهاب أي حراك ديمقراطي، سعياً لنيل الرضى الإسرائيلي ومباركة الأطراف الدولية.
وفي اليمن، انقلب تحالف قوى الثورة المضادة من الحوثين وأنصار النظام السابق على الشرعية التي أنهت حكم علي عبد الله صالح، فتحوّلت البلاد إلى مسرح صراعاتٍ داخلية وإقليمية ودولية، ولعب التدخّل الإيراني والسعودي والتواطؤ الدولي دوراً في تأجيج الصراعات الدموية وتمدّدها لاستنزاف الأطراف اليمنية والدول المتدخّلة في الشأن اليمني.
وفي ليبيا أسقطت الثورة نظام القذافي، وانقلب الإسلاميون على نتائج الانتخابات، ودخلت البلاد في صراعات دموية، تغذّيها الأطماع الدولية والإقليمية لأطراف الصراع بحثاً عن مكاسبها ومصالحها وزيادة نفوذها، وماتزال الأطراف الداخلية تتنقّل بين دعم خارجي وآخر في معارك كرًّ وفرٍّ بين شرعيات متصارعة ومجتمع دولي يأخذ الأزمة نحو مزيدٍ من الصراع والاستنزاف، دون اكتراث لمعاناة الشعب الليبي الذي يدفع فاتورة هذا الصراع. ولقد تعقّدت الأزمة الليبية في الفترة الأخيرة بدخول القوات التركية إلى ليبيا، وقد لجأت مثل غيرها من اللاعبين الإقليميين والدوليين في المنطقة على اختلافهم لخوض حربها هناك بالوكالة معتمدة على الجنود المرتزقة من السوريين وغير السوريين.
أمّا في سورية، فمازال الصراع الدولي والإقليمي في بلدنا وعليها، تدور رحاه بالترابط مع أزمات المنطقة، لا سيما حيث النفوذ الإيراني في كل من لبنان والعراق واليمن. وقد أدّت تدخّلات الأنظمة العربية وخاصة الخليجية منها والأطراف الإقليمية الأخرى إلى الانقسام بين داعم لقوى وفصائل يتصدّر الإسلام السياسي مشهدها العام، وبين داعم لقوى الثورة المضادة وإعادة تأهيل النظام. لعب التنافس الشديد مع الدور التركي تأثيراً كبيراً في تحوّل مواقف السعودية ومن يدور في فلكها، وأدّى إلى بروز المحور الخليجي المصري، الذي دعمت بعض أطرافه التدخّل العسكري الروسي في سورية وميليشيا “قسد” لإضعاف النفوذ التركي.
على وقع هذه الخطى، شكّل المشهد العربي في محصلته استجابة متدرّجة من غالبية الأنظمة لمخططات واشنطن وإسرائيل للانخراط في مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتجلى ذلك عبر مشروع صفقة القرن، وإقامة علاقات وتواصل بين إسرائيل وعدد من الأنظمة العربية سرّاً وجهراً، تمثّلت بزيارات ووفود متبادلة وعقدٍ للاتفاقات وصلت إلى مستوى التطبيع، ورفع الأعلام الإسرائيلية في بعض العواصم، وتنسيق رسمي تحت ستار محاربة الإرهاب وإضعاف النفوذين الإيراني والتركي. وهذا ما شجع إدارة ترامب على نقل سفارة بلادها إلى القدس والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، وكذلك اعترافها بضمّ الجولان المحتلّ للكيان الصهيوني.
شهد العام 2019 انطلاق الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي. بدأت في السودان وأنجز انتصار الثورة في إسقاط حكم البشير، ثم انتفاضة الجزائر التي أجبرت الرئيس على التنحّي. وتتواصل انتفاضة الشعبين بمزيد من الإصرار لتحقيق كامل أهدافها. وفي أواخر العام نفسه، شهد كل من العراق ولبنان اندلاع انتفاضة شعبية عارمة على نظامي النهب والفساد والمحاصصة الطائفية في البلدين، كسرت كل المحظورات السياسية والمذهبية، متجاوزة الأحزاب والطوائف والمذاهب، بعد أن اكتوى الشعبان طويلاً بويلات الفقر والتهميش والاستغلال الطائفي. وهذا ما يؤكّد أن الربيع العربي لم يكن حالة طارئة أو لحظة عابرة في المنطقة، بل ثورات شعبية حقيقية أصيلة، تعبّر عن استحقاق تاريخي تراكمت فيه الأسباب والعوامل الذاتية والموضوعية في المجتمعات العربية، لتتحدى إرادة الشعوب قوة القهر والتسلّط والفئوية السياسية المنفلتة لعقود. ولقد تزامنت انتفاضات الربيع العربي مع انتفاضة الشعب الإيراني ضد نظام الملالي وسلطة الولي الفقيه في إيران. فقد خرج الإيرانيون بمختلف شعوبهم وقومياتهم مطالبين بإسقاط ولاية الفقيه، ومنع تبديد أموال الإيرانيين على التسلّح النووي وإعداد الميليشيات الطائفية التي تعيث فساداً في المنطقة.
مرتكزات العمل الوطني
لإنقاذ البلاد وتحقيق أهداف الثورة
أدت الظروف الإقليمية والدولية والذاتية التي عصفت بالثورة، والأوضاع التي آلت إليها البلاد جراء ما ارتكبه النظام وحلفاؤه وداعموه من الروس والإيرانيين وميليشياتهم من جرائم فادحة بحق الشعب، إلى تسليم مقدّرات البلاد للدول المتعدّدة التي تحتلّ أرض سورية، وتنتهك سيادتها واستقلالها.
ونتيجة للتبدّد الحاصل في قوى الثورة والمعارضة، والتشوّه والعطالة وفقدان الاستقلالية في مؤسساتها السياسية والعسكرية، مع نمو روح التطرّف والفئوية والعنف التي ترعرعت في الجسد السوري نتيجة عنف النظام وميليشياته والمنظمات الإرهابية الأخرى؛ فإن النضال الوطني التحرري في هذه المرحلة يحتاج إلى مرتكزات وطنية، تحدّد الأهداف والوسائل المعتمدة لتحقيقها. منها مرتكزات ثابتة وموضوعية وأخرى جديدة، تفرضها الوقائع المستجدة على بلادنا وحياة شعبنا خلال سنوات المحنة. وهي مرتكزات لا غنى عنها لتكوين عتبة مشتركة للسوريين من أجل الانطلاق باتجاه العملية السياسية وإجراء التغيير لبناء سورية الجديدة.
1 – الحفاظ على الهوية الوطنية وعلى وحدة سورية أرضاً وشعباً، واستعادة وصيانة استقلالها وسيادتها.
2 – سورية جزء من العالم العربي، وتشكّل الثقافة العربية والإسلامية وكل الثقافات السورية الأخرى، وما ينهله شعبنا من مناهل المعرفة والفكر الإنساني العالمي، معيناً مشتركاً لقيم السوريين العليا، وعلاقاتهم الاجتماعية وعيشهم المشترك وإنتاجهم الفكري والثقافي الخلّاق.
3 – تتساوى مكوّنات الشعب السوري كافة (السياسية والدينية والإثنية والطائفية والمذهبية) في الحقوق والواجبات، مع ضمان الاحترام الكامل لعقائدها وثقافتها وتراثها وعاداتها وتقاليدها كمصدر غنى للنسيج السوري في الدولة والمجتمع. والمواطنة هي العلاقة الأساس والأرفع التي تجمع كل السوريين وتوفّر لهم العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون
4 – قامت الثورة السورية المجيدة من أجل الحرية والعدالة وكرامة الإنسان. وهي ثورة وطنية اجتماعية مدنية ضد الظلم والفساد والاستبداد. لا تحمل أي صفة فئوية طائفية أو مذهبية، بل تخصّ جميع السوريين وتعنى بهم.
5 – تحتاج سورية -ويعمل أبناؤها -لإقامة نظام وطني عصري وعادل، يحقّق المشاركة الشعبية في صياغة السياسات الوطنية في الدولة والمجتمع. وبناء دولة مدنية ديمقراطية، يتمّ تداول السلطة فيها وفق الإرادة الشعبية، وعبر انتخابات حرّة ونزيهة. مع رفض كل أشكال المحاصصة بما فيها السياسية والطائفية. ويعتمد نظام الحكم الحياة الدستورية وسيادة القانون. ويستند إلى مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وضمان الحريات والحقوق المدنية والسياسية المتساوية للجميع.
6 – تعتمد الدولة السورية مبدأ اللامركزية الإدارية في إدارة شؤون البلاد، بما يوفّر صلاحيات وافية وحقيقية وفعّالة لإدارة جميع المناطق والمحافظات من قبل أبنائها بالذات، عبر السلطات المحلّية المنتخبة مباشرة من الشعب، دون أن ينعكس ذلك سلباً على وحدة البلاد.
7 – الدولة كيان سياسي محايد، تبقى على مسافة واحدة من الأفراد والجماعات المكوّنة لها، والتي تعيش فيها. تدار السلطة فيها وتمارس بطريقة تداولية وفق إرادة الشعب ومصالحه، التي يعبّر عنها بحرية كاملة عبر انتخابات حرّة ديمقراطية ونزيهة.
8- حرية الاعتقاد والتعبير والوصول إلى المعلومات وتكوين الأحزاب السياسية وإنشاء الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني حقّ للجميع في إطار القانون ووفق دستور البلاد، وبما لا يتعارض مع مبادئه. مع التأكيد على دور منظمات المجتمع المدني في بناء الدولة والمجتمع.
9- تتمتّع المرأة بكامل حقوقها العامة والفردية في إطار المساواة التامة مع الرجل. وتعمل الدولة على تمكينها، وتضمن إسهامها الفاعل والمكفول دستورياً وقانونياً في جميع المؤسسات الرسمية والهيئات الاجتماعية ومواقع صنع القرار.
10-اعتبار القضية الكردية قضية وطنية سورية، يجب معالجتها على قاعدة الوحدة الوطنية والحقوق المتساوية مع الجميع، والعمل على ضمان الحقوق اللغوية والثقافية للمواطنين الكرد دستورياً.
11-الشعب السوري مصدر السلطات والمخوَّل باختيار الطريقة التي يوضع بها الدستور عبر ممثّليه الحقيقيين الذين ينتخبهم بحرية. وهو وحده صاحب الحقّ في إقراره ومنحه الشرعية واعتماده.
12-تحتكر الدولة حقّ حيازة السلاح واستخدامه. ولا تسمح تحت أي مبرّر بوجود الميليشيات. وتوفّر الشروط القانونية والواقعية لنشاط الأفراد والجماعات في الإطار السلمي القانوني وتحت سقف الدستور. وتتيح لهم إمكانية التعبير والاحتجاج بالطرق السلمية. وتترك للمجتمع فضاء العقائد والثقافات والأفكار.
13-تلتزم الدولة السورية بالمعاهدات والمواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وخاصة تلك التي هي طرف فيها. وتلغي جميع التشريعات المتناقضة معها، كما تلتزم باحترام الحقوق الدينية والثقافية واللغوية المشروعة لجميع مكوّناتها. وترعاها في إطار من التضامن الاجتماعي والاحترام المتبادل والوحدة الوطنية.
14-تؤدّي سورية مقتضيات عضويتها في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وهيئة الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها. وتنضم إلى نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وتضمن عدم تكرار انتهاكات حقوق الإنسان على الأرض السورية.
15-سورية لكل السوريين من هم بداخلها، ومن هاجروا أو هُجِّروا منها. ولهم كامل الحقّ في العودة الآمنة إلى بيوتهم وأرضهم وممتلكاتهم والعيش فيها دون قيد أو شرط. مع إلغاء القرارات والقوانين ذات العلاقة والمتخذة بعد آذار من عام 2011، وهذا يتضمّن
قرارات المنح والاستملاك والتجنيس التي تمّت بعد ذلك التاريخ، بما في ذلك منح الجنسية لغير السوريين. وإبطال قرارات وإجراءات مصادرة الممتلكات والتغيير الديمغرافي والتهجير القسري أو الطوعي، الفردي والجماعي. وإلغاء جميع النتائج المترتّبة عليها باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومنح الجنسية السورية لجميع السوريين مكتومي القيد والذين امتنع عليهم الحصول عليها بموجب الاحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة عام 1962، ومعالجة الآثار القانونية المترتبة على ذلك.
16-الحلّ في سورية سياسي بالدرجة الأولى وبرعاية الأمم المتحدة، وفق بيان جنيف لعام 2012 والقرارات الأممية ذات العلاقة، وعبر تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، مع ضرورة توفير الضمانات الدولية لإقرار هذا الحلّ وتنفيذه.
17-إن عملية الانتقال السياسي في سورية هي مسؤولية السوريين بدعم ومساندة المجتمع الدولي، بما لا يتعارض مع السيادة الوطنية. وتهدف إلى تأسيس منظومة حكم جديدة، تحقّق التمثيل العادل لسائر أبناء الوطن، وبناء دولة تقوم على مبدأ المواطنة والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وضمان الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين جميعاً، دون أن يكون لرأس النظام وأركان نظامه ورموزه مكان فيها.
18-تشكّل العدالة الانتقالية شرطاً أساسياً لنجاح عملية الانتقال السياسي. وترتدي أهمية قصوى في تحقيق الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنية، وردع نزعات الثأر والانتقام المحتملة، مع ضرورة إنصاف الضحايا وردّ المظالم إلى أهلها، تمهيداً لعملية المساءلة والمحاسبة عبر المؤسسات الرسمية وأجهزة القضاء.
19- الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وإصلاحها لضمان تكافؤ الفرص، مع وجوب إعادة تشكيل وهيكلة مؤسساتها الأمنية والعسكرية، بما يضمن بناءها على أسس وطنية واحترافية، ووضعها في إطار النظام العام وتحت سلطة القانون. بحيث تنحصر مهامها في الدفاع عن الوطن والشعب وحماية أمن الوطن والمواطن، والحفاظ على حرية واستقلال سورية وسلامة أراضيها. وتخضع في ذلك للسلطة السياسية وقرارات الحكومة الشرعية. وتلتزم الحياد السياسي، إذ يمنع على أفراد الجيش والأجهزة الأمنية ممارسة النشاط السياسي أو الانتماء إلى أحزاب أو تيارات سياسية ما داموا في الخدمة.
20- حلّ جميع المليشيات والجماعات السورية المسلحة (العسكرية وشبه العسكرية). وإخراج كافة المقاتلين والمليشيات غير السورية، وجميع الجيوش الأجنبية من سورية.
21- منع كافة أشكال التدخل الخارجي في شؤون البلاد، من أي جهة كانت وتحت أي عنوان، وإلغاء سياسات التبعية والانحياز والولاء التي أسّسها النظام ورسّخها.
22-محاربة الإرهاب بكل أشكاله ومصادره، والتصدّي للمرتكزات والحواضن الفكرية والسياسية والتنظيمية التي تغذّيه كالتطرف والطائفية والفساد والاستبداد، والعمل على تجفيف مصادر دعمه وتمويله.
تنظيم قوى الثورة والمعارضة / الكتلة الوطنية الديمقراطية
إذا كانت الثورة السورية حتى الآن لم تحقّق كامل أهدافها التي انطلقت من أجلها، فهي بشكل أو بآخر قد زعزعت هيكل نظام القمع والاستبداد، وحرّرت السوريين من قيود الخوف والصمت، وأطلقت توقهم ومبادراتهم من أجل الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. وإذا ما تبقّى شيء من النظام السوري فهذا لم يكن بفضله، إنما بفضل الروس والإيرانيين وميليشياتهم الذين هرعوا لإنقاذه من السقوط. فمنذ اللحظة الأولى للثورة رأى هؤلاء في سقوط النظام السوري سقوطاً لمصالحهم ونفوذهم وإسفيناً في أنظمتهم الشمولية الاستبدادية. ومن الأسباب الموضوعية الأخرى التي أدّت إلى الوضع السوري الراهن، كان موقف المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل. فهما لا تريدان منذ البداية تغيير النظام السوري وانتصار الثورة. أما تأثير الموقف الأوربي فكان ضعيفاً ومتواضعاً. لكن في المقابل لا يمكن تعليق المآل السوري الراهن على العوامل الخارجية فقط؛ إنما يجب عدم التغاضي عن العوامل الذاتية لقوى الثورة والمعارضة السورية بشقّيها المدني والعسكري، وما أفرزته ثقافة الاستئثار والاقصاء المتبادل من مظاهر الفرقة والانقسام، وما خلّفتهُ نزعات الهيمنة والتسلط لخدمة مصالح ضيقة، وتطلعات أيديولوجية اضرت بقوى الثورة ومسارها وأهدافها، وخاصة من قبل فصائل الإسلام السياسي ومثيلاتها. والتي أسهمت في تردّي الوضع الراهن، الذي أصبح خاضعاً بكامله لمحصلة إرادات وتناقضات الدول الخارجية. أمّا النظام فقد تحوّل إلى كيانٍ صوري هزيل، يستخدمه المحتلون كورقة سياسية، بعد أن انتزعوا منه القرار السياسي والعسكري وتقاسموا ما تملكه سورية من ثروات ومصالح ومرافق اقتصادية. لذلك فإن المهام المطروحة أمام قوى الثورة والمعارضة السورية كبيرة ومعقّدة من أجل إنقاذ البلاد بإسقاط النظام وإخراجها من سيطرة الدول المحتلة لسورية، الإقليمية وغير الإقليمية. من هنا نرى:
1-على قوى الثورة والمعارضة السورية أن تشرع في نقد تجربتها لاستعادة زخمها ووهجها، ومن الضروري أن يكون نقدها موضوعياً، في مواجهتها مع ذاتها، لتتمكّن من تحديد معظم الأسباب والعوامل التي حكمت مسار الثورة ونتائجها. لقد افتقدت لنقدها الذاتي خلال السنوات التسعة الماضية؛ في الوقت الذي كان هذا النقد ضرورياً في وقت مبكر من مسارها، وهو لم يكن ليشكل إضعافاً لها، كما ساد مثل هذا الرأي في بعض الأحيان. والنقد أولاً وآخراً يحيل إلى إغناء الشيء وليس إلى إفقاره. وعلى العكس فإن عدم النقد أسهم في إضعافها وتعقيد مسارها ومآلاتها؛ وأفسح في المجال لقوى الثورة المضادة أن تستثمر أخطاءها لحرفها عن شعاراتها التي انطلقت بها وأهدافها التي قامت من أجلها.
2- لم تستطع قوى الثورة والمعارضة السورية بمستوييها السياسي والعسكري أن تشكّل كياناً ثورياَ موحّداً. إنما بقي كيانها مشتتاً منقسماً متعدّد الرؤوس، وقد سيطرت على الكثير من أطرافه النزعات العقائدية والإيديولوجية والمصالح الذاتية أكثر من المصلحة السياسية والوطنية للثورة. ولم تستطع هذه الأطراف التوصّل إلى قواسم وطنية مشتركة تجمعها وتوحّدها سواءً على مستوى خطابها الفكري والسياسي، أو على المستوى الميداني الإستراتيجي والتكتيكي.
3- يجب النظر إلى الثورة كمجتمع مثل أي بنية اجتماعية، حيث المستوى السياسي فيها هو المحور الرئيس الذي يدير باقي مستوياتها. لكن ما ساد في الثورة السورية وخاصة بعد عسكرتها، هو عمل المستوى السياسي بدلالة المجريات على الأرض، وعمل الفصائل العسكرية بدلالة الداعمين وإرادتهم. وإذا كانت تجري بعض التنسيقات بينهما، فقد بقيت مؤقّتة ومتواضعة إلى أبعد الحدود.
4- لقد أثر وهن العلاقة والتنسيق بين المستوى السياسي والفصائل العسكرية على وضع الثورة بشكل عام. فأضعف حضورها وخطابها وأفقدها الكثير من سماتها الوطنية والديموقراطية التي بدأت بها، وهي سمة تشكّل حجر الزاوية في أية ثورة شعبية تناهض الاستبداد، وتنشد الكرامة والحرية والدولة الديموقراطية الحديثة. وفي كثير من الأحيان كان الخطاب السياسي للفصائل العسكرية يجنح بنصوصه ورموزه وأسمائه وإشاراته وأساليب عمله، إلى الانتماء المذهبي والتقوقع الديني، ولا نستثني في هذا السياق بعض النزوعات الإثنية.
5- لقد سيقت الثورة إلى الأسلمة وهذا ما كان يريده النظام ويخطّط له منذ انطلاقها، وكذلك أسهمت بعض فصائل المعارضة وداعموها في ذلك؛ ولقد فتحت هذه الظاهرة ثغرة واسعة استطاعت أن تنفذ منها الفصائل المتطرفة بكل أنواعها وأشكالها من داعش والنصرة وأخواتهما، التي شكّلت في العمق رديفاً غير مباشر لقوى الثورة المضادة. استغلّ النظام هذا التطرّف لتشويه صورة الثورة خارجياً وجعله ذريعة لأعماله الوحشية ضد الشعب بأكمله. واستغلّت كل الدول التي لها مصالح وأطماع في سورية تسرّب التطرّف إلى صفوف الثورة، فجعلته مسوغاً وحجة لتدخّلها، وجاءت إلى سورية تحت يافطة (محاربة الإرهاب). وفوق ذلك، كان الهدف الأساس لنيران الفصائل المتطرّفة الشعب السوري وقوى الثورة الحقيقية وليس النظام.
6- ومن الأسباب الرئيسية والمحورية التي أضعفت الثورة السورية، ارتباط بعض قوى المعارضة والفصائل العسكرية مبكراً مع بعض الدول الإقليمية وغير الإقليمية، فخسرت قرارها الوطني المستقلّ، وعملت وفق إرادة هذه الدول ومصالحها. وشكّل هذا وبالاً على بنيتها السياسية والعسكرية معاً، وأسهم إلى حدّ كبير في اقتتالها وتمزيقها وتفطيرها إلى عشراتٍ من الكيانات والفصائل والدكاكين. وفي هذا السياق كان ارتهان الثورة ومؤسساتها للعسكرة خطأ جسيماً؛ لم تتمكّن من تصويبه وإجراء حسبة واقعية لموازين القوى وتحالفاتها، والأوضاع الإقليمية والدولية، وتحالفات النظام.
7- لا يمكن مواجهة الوضع السوري الرازح الآن تحت سيطرة الاحتلالات المتعدّدة وبقايا قوى النظام دون معارضة سورية موحّدة في كتلة وطنية ديموقراطية تمثّل آمال ومصالح ومستقبل شعب سورية بكافة مكوّناته وثقافاته، الطامح إلى التغيير وبناء دولته الوطنية الحديثة.
8- تتوجّه هذه الكتلة إلى الشعب بخطاب سياسي بعيد كل البعد عن الارتجالية، والتجريبية، والتقوقع الطائفي والمذهبي والإثني والحزبي، يتضمّن قواسم مشتركة جامعة، تدعو لدولة قائمة على مبادئ الحرية والديموقراطية والمواطنة المتساوية والتنوّع الثقافي وسيادة القانون.
9- يمكن للكتلة الوطنية الديموقراطية، إذا ما وحّدت أهدافها وقواسمها المشتركة في خطاب سياسي واحد، أن تحافظ على تماسكها واستقلالية قرارها السياسي، فتعصم نفسها من التمزّق والتفطّر والانقسام، وهذا ما يمنحها مزيداً من التأييد الشعبي داخلياً والاحترام لدى المجتمع الدولي وفي علاقاتها الخارجية.
10- تخاطب الكتلة جميع السوريين وتحسن التواصل معهم، وتشاركهم في نشاطاتها وتحركاتها السياسية، فتصغي إلى هواجسهم ومخاوفهم ومقترحاتهم في بناء الدولة ومؤسساتها، وتساهم في تبديد الأوهام وتوحيد الرؤية والموقف باتجاه تكوين رأي عام وطني سوري الهوية والانتماء والمصير.
11- أن تبادر الكتلة إلى إشراك السوريين داخل البلاد وفي بلدان اللجوء والاغتراب ومؤسسات المجتمع المدني في معالجة القضايا الاجتماعية والثقافية الاستراتيجية، وتعديل وتجديد القوانين التي تلعب دوراً محورياً في توحيد الشعب السوري وبناء كيانه الوطني وتصليبه وازدهاره.
12-واستناداً إلى الدور الهام والكبير الذي يقوم به المجتمع المدني في الانتفاضات الشعبية والحراكات الثورية في البلدان العربية، وفي بناء الدولة الحديثة، يتوجّب تنميته وتشجيع بناء منظماته، التي يتطلّبها الواقع وتلبّي احتياجات المرحلة.
13- تخرج الكتلة من الخطاب النمطي والرومانسي التقليدي وتنظر إلى الواقع، حيث تتوجّب معالجة مسألة الثقافة والهوية السورية على أسس جديدة. فلا تتحدّد الثقافة السورية بالقومية العربية والإسلام فقط، وإنما تتحدّد أيضاً بثقافات وحضارات كل مكوّنات الشعب الموجودة على الأرض السورية، وكل الشعوب الأخرى التي سكنتها ووفدت إليها. وإن حجر الزاوية الرابع في مستقبل الثقافة السورية هو انفتاحها على الثقافات العالمية والإنسانية المعاصرة، فقد كانت الدولة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي قبل مجيء الانحطاط مفتوحة نوافذها وأبوابها على ثقافات العالم المختلفة، تتعايش معها، وتأخذ منها وتعطيها.
في المهام الراهنة والدور المطلوب
تمرّ سورية في الوضع الراهن بمرحلة التحرر الوطني للخلاص من قوى الاحتلال والاستبداد، وهذا يتطلب من قوى الثورة والمعارضة ومنها حزبنا، بناء تحالف وطني عريض يتلاقى مع مهام هذه المرحلة والتي تتلخّص فيما يلي:
1-الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً، وصيانة سيادتها واستقلالها. ومواجهة جميع المشاريع والمخططات التقسيمية والانفصالية (المكشوفة والمستترة) التي تهددها. والعمل على إفشالها برص الصفوف على قاعدة احترام إرادة الشعب السوري، وأرضية الوحدة الوطنية والمصير المشترك.
2- تجديد روح الثورة السورية، وحماية خطّها الوطني الديمقراطي التحرّري بمواجهة الاحتلال والاستبداد والتبعية والطائفية. واعتماد المشروع الوطني السوري، الذي يتّسع لجميع السوريين. فلا يتجاوز الوطنية السورية، ولا يقبل بما هو دونها.
3- التمسّك باستقلالية القرار الوطني السوري وحمايته، وتوفير الشروط اللازمة لتحقيق ذلك. مع المحافظة على أعلى درجات التعاون والتنسيق مع الدول من أصدقائنا وحلفائنا في المنطقة وعلى الصعيد العالمي.
4-إنتاج خطاب وطني سوري، يتوجّه إلى جميع السوريين في جميع مناطق تواجدهم، وعلى اختلاف انتماءاتهم ومواقعهم. يستوعب خصوصية جميع مكوّنات الشعب السوري بآمالها وآلامها، بقلقها ومخاوفها، من أجل تجاوز الماضي وعثراته، ووضع حدّ للمحنة التي طالت الجميع، تمهيداً لصياغة عقد اجتماعي جديد يحتاجه السوريون، ويكون من صنع أيديهم وبإرادتهم.
5-اعتماد الحلّ السياسي كخيار رئيس لقوى الثورة والمعارضة في صراعها مع النظام وحلفائه، على أساس التمسّك بأهداف الثورة والعمل على تحقيق الانتقال السياسي عبر مفاوضات جادّة ومثمرة لتنفيذ بيان جنيف 1 لعام 2012، والقرارات الأممية ذات العلاقة 2218 و2254 و262 /67، على ألا يكون هناك أي دور لرأس النظام وزمرته الحاكمة في المرحلة الانتقالية أو في مستقبل سورية. والاستمرار بدعم العملية السياسية والجهود الدولية عبر مسار جنيف وبرعاية الأمم المتحدة بأعلى درجة من الأهلية والمسؤولية.
6- العمل على خروج جميع الجيوش والقوات الأجنبية عن الأراضي السورية، ورحيل كافة المليشيات غير السورية والمقاتلين الغرباء.
7- محاربة الإرهاب بكل أشكاله ومصادره ونبذ التطرف، ودعم الجهود الإقليمية والدولية في هذا المجال. على أن تشمل إرهاب النظام وداعش والقاعدة، وإرهاب المليشيات الطائفية التي استولدتها إيران وموّلتها وأطلقتها لقتل السوريين وممارسة حقدها الفئوي المذهبي على الأرض السورية.
8- فتح جميع المنافذ والمسارات للتواصل الفعّال والمنظّم باتّجاهين مع المجالس المحلّية والهيئات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الوطنية للثورة لمعرفة اتّجاهات الرأي العام والإصغاء إليه. وتأمين أوسع مشاركة ممكنة للسوريين في بلدان اللجوء
والاغتراب بصنع القرارات المصيرية ورسم مستقبل بلدهم، وذلك بالتشاور مع شرائح ومكوّنات المجتمع السوري دون استثناء، لتأمين أوسع توافق على القضايا المطروحة.
9- إطلاق كتلة وطنية مستقلّة للفعاليات السورية، تصبح مركزاً للحوار والتشاور والتوافق، تعمل على طرح رؤية واحدة ومشتركة فيما يواجه القضية السورية من استحقاقات ومهام. وتضع خبرتها وإنتاجاتها الفكرية والسياسية بين يدي الشعب لتشكيل رأي عام وطني ومواقف مشتركة، تعيد السوريين إلى قلب الصورة ودائرة الفعل فيما يتعلق بقضيتهم وشؤونهم. ولا تسعى الكتلة للتنافس مع المؤسسات الوطنية الأخرى.
10- المساهمة في إقامة حوار وطني شامل، يمهّد لعقد مؤتمر موسّع لقوى الثورة والمعارضة (داخل البلاد وخارجها)، يضمّ أوسع طيف من شباب الثورة ونشطائها الذين كانت لهم بصمات واضحة في مسارها. يشكّل المرجعية الشعبية للكتلة، ويتولّى صياغة برنامج عمل وطني لمواجهة التحدّيات والاستحقاقات.
11- العمل على تمكين المرأة والشباب والإفساح في المجال أمامهم للعمل والقيادة.
12- بناء شبكة علاقات عربية وإقليمية ودولية مع المؤسسات والجهات المعنية وصنّاع القرار لشرح قضايا الثورة. والتواصل مع أصحاب الرأي والتأثير في الدول الفاعلة لعرض قضايانا العادلة، وتأمين الدعم للخيارات الوطنية المستقلّة.
13- تنشيط الإعلام لإيصال صوت الشعب السوري وشرح قضيته دولياً، وتشجيع المجتمع المدني ومنظماته على تفعيل عملها ودورها في هذه المرحلة.
14- فضح ارتهان النظام للخارج واستسلامه لإرادة داعميه ومصالحهم، وتفريطه بالسيادة الوطنية وثروات البلاد ومقتنياتها. مع ما يحمله ذلك من تأثير على تهتّك أجهزة الدولة وانهيار مؤسساتها، بل وتدمير البنية الوطنية الجامعة لصالح عصابات ومافيات حزبية وميليشياوية ولصوصية عابرة للحدود وتابعة لداعميه، تدمّر سورية، وتنهب مقدّرات شعبها.
15- العمل على إطلاق سراح جميع المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين، والدفع بقضية المحاسبة لمرتكبي الجرائم والمجرمين بحقّ الشعب السوري أمام المحاكم الدولية، لضمان عدم الإفلات من العقاب في جميع الجرائم المصنّفة كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وخاصة جرائم التصفيات الجسدية للسجناء والمعتقلين السياسيين. وجرائم الترحيل والتهجير القسري والإحلال السكاني، والجرائم المتكررة باستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين وغيرها.
16-العمل على توفير الشروط والوسائل والمؤسسات اللازمة لتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية كمهمّة راهنة ومستقبلية، يحتاجها السوريون.
العملية السياسية
في آذار 2012 ظهرت أولى معالم العملية السياسية ممثّلة بخطة كوفي أنان ذات النقاط الستّ من أجل سورية، والتي أعلنها بصفته المبعوث الخاص للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. تضمّنت الخطة الدعوة لـ “عملية سياسية شاملة يقودها السوريون “. لم تلقَ الخطة تجاوباً إيجابياً من قوى الثورة والمعارضة رغم موافقة النظام الشكلية عليها، وعدم جدّية المجتمع الدولي وسعيه لإطالة أمد الأزمة، ما أدّى لاستقالة أنان وتكليف الأخضر الإبراهيمي بالمهمّة.
وفي 30 حزيران 2012 اجتمعت مجموعة العمل من أجل سورية، وأصدرت بيان جنيف1 الذي صار الأساس الذي ارتكزت عليه العملية السياسية في محطاتها اللاحقة. تحدث البيان عن ” تطبيق خطة أنان ذات البنود الستّ ” لكنه مضى أعمق في رسم معالم الحلّ ” إقامة هيئة حكم انتقالية. . تمارس كامل السلطات التنفيذية، تُشكَّل على أساس الموافقة المتبادلة “. وجاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 262 / 67 لعام 2013 ليعمق هذا الأساس، حين تحدث بوضوح عن ” إنشاء هيئة حكم انتقالية، تقوم على توافق الآراء، تخوَّل لها كامل السلطات التنفيذية، وتحوَّل إليها جميع مهام الرئاسة والحكومة بما فيها المهام المتعلقة بالمسائل العسكرية والأمنية “. وتعززت هذه العملية السياسية بقرار مجلس الأمن 2118 لعام 2013.
أثمرت الجهود الأممية جولة مفاوضات مباشرة بين النظام السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في العاشر من شباط 2014 في جنيف. أدارها الوسيط الأممي والعربي الأخضر الإبراهيمي. كانت الجولة أشبه باحتفالية أممية ودولية عديمة الفائدة بالنسبة للسوريين وقضيتهم، وانتهت إلى طريق مسدود، استقال بعدها الإبراهيمي معتذراً من الشعب السوري ومحمّلاً النظام مسؤولية الفشل.
في 14/11/2015 جرت في فيينا اجتماعات المجموعة الدولية لدعم سورية، وتمّ تكليف ستيفان ديمستورا كوسيط أممي لإدارة المفاوضات، وتكليف المملكة العربية السعودية بالمساعدة على جمع المعارضة وتحديد من يمثّلها في المفاوضات. فعقد مؤتمر الرياض في 9/12/2015 الذي شاركت فيه الفصائل العسكرية، ومن نتائجه ولدت ” الهيئة العليا للمفاوضات ” لتتولى العملية التفاوضية ومقتضياتها.
وفي 18/12/2015 صدر قرار مجلس الأمن 2254 في ظل التدخل العسكري الروسي (أيلول 2015). دعا القرار لبدء محادثات سلام في سورية، ودخل بمزيد من التفاصيل، برزت من خلالها نتائج الاحتلال الروسي على العملية السياسية. ومما جاء فيه:
أ-تحقيق الانتقال السياسي بهدف إنهاء النزاع في سورية.
ب-الدعوة للمشاركة على وجه السرعة في مفاوضات رسمية بشأن مسار الانتقال السياسي.
ج-تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، تشمل الجميع وغير طائفية بين الحكومة السورية والمعارضة السورية.
د-اتخاذ تدابير بناء الثقة للقيام بعملية سياسية في غضون ستة أشهر، وردت في المواد 12و13و14 من القرار
ه- انتقال سياسي برعاية الأمم المتحدة استناداً إلى بيان جنيف.
و- تهيئة الظروف المؤاتية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين.
ز- الإفراج عن المحتجزين ووصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المناطق.
مطلع شباط 2016 بدأت المفاوضات في جنيف، وانتهت سريعاً بعد أن قرّرت الهيئة قطع المفاوضات ومغادرة جنيف بعد الجولة الأولى، وكذلك فعلت بعد الجولة الثالثة، بسبب تعنّت النظام واستفحال الإجرام الروسي في الداخل. أصدرت الهيئة في 6/9/2016 رؤيتها للعملية السياسية بوثيقة، أعلنتها في لندن بعنوان ” الإطار التنفيذي للحلّ السياسي “. أربع جولات مشابهة عقدت عام 2017 أظهر وفد الهيئة تفاعلاً ملحوظاً فيها، وسلّم العديد من الوثائق، بينما استمرّ النظام بالحضور الشكلي والمراوغة. وبقيت المفاوضات عبر الوسيط الأممي دون حصول أي جلسة للمفاوضات المباشرة. لذلك لم تحقّق الجولات السبعة أي تقدّم يذكر على الصعيد السياسي، بينما حصل بعض التقدّم على الصعيد الإنساني لتحسين ظروف الحياة في الداخل.
في تشرين الثاني 2017 عقد مؤتمر الرياض2 بالوجود الروسي الكثيف ومؤثراته، وبحضور منصة موسكو ومنصة القاهرة ووجوه جديدة من المعارضة. أنتج المؤتمر ” هيئة المفاوضات ” لتتولّى مهمّة التفاوض، دون أن تحصل أي جولات تفاوضية جدّية ومثمرة.
وكانت روسيا قد ابتدعت مع تركيا وإيران مسار أستانا للمباحثات بالشأن السوري، بهدف التطاول على العملية السياسية الجارية في جنيف وحرفها عن مسارها لتتوافق أكثر فأكثر مع مصالحهم. وبعد أكثر من 13 جولة نجحوا بنقل موضوع الدستور من مسار أستانا – سوتشي إلى المسار التفاوضي عبر تشكيل ” اللجنة الدستورية “. ثم أغلق الباب أمام المفاوضات وبالتالي المساعي الجادّة لدفع العملية السياسية إلى الأمام.
لم يعد هناك جدوى من استئناف المفاوضات، طالما بقي المجتمع الدولي والأمم المتحدة في حالة من العجز وانعدام الإرادة في تنفيذ القرارات الدولية والتقدّم باتّجاه الحلّ وإنجاز الانتقال السياسي. من هنا نرى:
أ-التمسّك بالعملية السياسية على أساس بيان جنيف 1 لعام 2012 والقرارات الأممية ذات العلاقة، ورفض أي انزياح عن أسس الحلّ التي أقرت فيها.
ب-أن يكون الفريق التفاوضي (الهيئة المشرفة على المفاوضات) ممثّلاً حقيقياً لقوى الثورة والمعارضة. يتمتّع بالخبرة السياسية والقانونية والدبلوماسية الكافية.
ج- وضع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أمام مسؤولياته لتطبيق القرارات الدولية ووضعها موضع التنفيذ. والتأكيد على أن أي حلّ سياسي لا يكون حقيقياً ومقبولاً من السوريين، يكون بوابة لفتح جروح جديدة، ويحمل مخاطر كبيرة على الوضع السوري وأوضاع المنطقة، تحرمها ولفترة طويلة من الأمن والاستقرار.
د-الدستور السوري من اختصاص السوريين ومن مهام المرحلة الانتقالية، تضعه داخل البلاد جمعية تأسيسية منتخبة، تمثّل جميع مكوّنات الشعب، ويتمّ إقراره أصولاً.
المرحلة الانتقالية
مهما طال الزمن، وكائناً ما كان شكل الحلّ السياسي وحوامله الداخلية والخارجية، تحتاج البلاد إلى مرحلة انتقالية تكون جسراً للعبور إلى سورية المستقبل وممرّاً لا غنى عنه لإخراجها من المحنة الوطنية المتعدّدة الجوانب التي وقعت فيها، وتوفّر شروط وظروف انتقال البلاد إلى دولة جديدة، تكون وطناً حرّاً لكل أبنائها. دولة تحقّق تطلّعات السوريين وتثمِّر تضحياتهم خلال الثورة وما قبلها، من أجل التأسيس لبناء نظام سياسي يحقّق سيادة سورية واستقلالها وسلامة أراضيها، ويحترم إرادة الشعب. نظام يوفّر الحريات العامة والخاصة ويحميها، ويصون الحقوق الفردية والجماعية من خلال دولة مدنية ديمقراطية تعدّدية تقوم على مبدأ المواطنة، وتوفّر للجميع الحرية والعدالة والمساواة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمساءلة. دولة تزدهر فيها جميع فئات الشعب السوري وطبقاته الاجتماعية ومكوّناته القومية والدينية والطائفية والسياسية دون تمييز أو إقصاء، مع تمتّع المرأة بالمساواة التامة وبكامل الحقوق العامة والفردية وضمان إسهامها الفاعل والمكفول قانونياً ودستورياً بجميع الأعمال في مؤسسات الدولة والمجتمع.
المستند الواقعي والقانوني
تستمدّ المرحلة الانتقالية استحقاقها وضرورتها من حجم الدمار الهائل في البشر والحجر الذي تعرّضت له البلاد خلال نصف قرن من حكم النظام الشمولي والدولة التسلّطية القمعية وخاصة خلال العقد المنصرم. والذي أدّى إلى الاحتلال المتعدّد للأراضي السورية من قبل عديد الدول والمليشيات، وما سبّبته من أعمال القتل والتدمير والتهجير والهندسة السكانية والعبث بمقدّرات البلاد، التي جرت بيد النظام وبمعرفته خدمة لحماته الإقليميين والدوليين. مما يتطلّب وقتاً وخططاً وتمويلاً وبرامج عمل وطنية عامة وعيانية محلّية، تعيد الأمر لأصحابه من السوريين وفق إرادتهم وطموحاتهم ومصالحهم في معالجة الأوضاع.
كذلك رسمت القرارات الدولية ذات العلاقة دوراً محورياً لـ ” المرحلة الانتقالية ” في عملية الحلّ السياسي وتعافي البلاد مما وقعت فيه. يبدأ من وقف إطلاق النار الشامل، وينتهي بإجراء الانتخابات المحلية والتشريعية والرئاسية، التي تشير إلى ولادة الدولة الجديدة ومؤسساتها وفق الإرادة الحرّة للشعب. نصّ على ذلك بيان جنيف1 بتاريخ 30 حزيران 2012، وهو الأساس الذي بنيت عليه العملية السياسية، وتعزّز في القرارات الأممية اللاحقة. قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 262 / 67 لعام 2013 – قرار مجلس الأمن الدولي 2118 لعام 2013 – قرار مجلس الأمن الدولي 2254 لعام 2015.
هيئة الحكم الانتقالي
تبدأ المرحلة الانتقالية بإنشاء ” هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات ” – تستوجب رحيل رأس النظام وزمرته ممّن تلطّخت أيديهم بدماء السوريين – تتولّى قيادة المرحلة الانتقالية. وهي سلطة مؤقّتة توفّر الشروط اللازمة لتمكين السوريين من التعبير عن إرادتهم الحرّة في رسم شؤون حياتهم وتحديد مستقبل بلدهم. ويجب أن تكون شفّافة في عملها وتخضع للمحاسبة.
يتمّ تشكيل الهيئة عبر الموافقة المتبادلة بين الطرفين قوى الثورة والنظام، على أن تتمثّل فيها جميع أصوات مكوّنات الشعب السوري. تخوَّل بكامل السلطات التشريعية والتنفيذية، بما فيها مهامّ الرئاسة والحكومة. وهذا يتضمن المسائل المتعلّقة بالمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخبارية، مع كفالة استمرار المؤسسات والدوائر الحكومية في عملها.
المهامّ المطلوبة
1-تأمين سيادة الدولة السورية على كامل ترابها الوطني، وصيانة استقلالها ووحدتها أرضاً وشعباً.
2- ممارسة السلطة العليا في جميع الأمور السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية.
3- تمثيل الدولة السورية في المحافل والمنظمات الدولية والإقليمية، والعلاقات الخارجية مع الدول.
4- العمل على انضمام سورية إلى نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية.
5- توفير البيئة الوطنية والمناخات المناسبة لعملية الانتقال السياسي ومؤسساتها وإجراءاتها.
6- تصدر الهيئة عند الضرورة تشريعات مؤقّتة لمعالجة جميع القضايا، يكون لها قوة القانون.
7- تأمين وصول المساعدات الإنسانية الطبية والإغاثية إلى المحتاجين في جميع المناطق.
8- تهيئة الظروف الملائمة لعودة جميع السوريين غير المشروطة إلى وطنهم ومناطق سكنهم الأصلية.
9- إدارة جميع مؤسسات الدولة والحفاظ عليها وإصلاحها، وضمان استمرار العمل فيها دون عراقيل.
10- ضمان احترام المبادئ الأساسية للمرحلة الانتقالية، والفصل في الخلافات بين مؤسساتها العاملة.
11- اتّخاذ القرارات والتدابير اللازمة لإخراج القوات والمليشيات المسلحة غير السورية من البلاد.
12- حلّ التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية المتواجدة، ومحاربة التنظيمات المتطرّفة والإرهابية.
13- إعادة النظر بأجهزة الدولة التي تورّطت بانتهاك حقوق الشعب السوري، واتّخاذ الإجراءات للازمة بحقّها من حلّ أو ضمّ أو إعادة هيكلة وتشكيل.
14- محاسبة الأشخاص الذين تورّطوا بانتهاكات لحقوق الإنسان، وارتكبوا جرائم حرب بحقّ الشعب على قاعدة الشفافية والنزاهة والتزام القانون. والحؤول دون بروز سياسات اجتثاث أو أعمال انتقامية.
15- إطلاق نظام للإدارة المحلّية، يؤسس على مبدأ اللامركزية الإدارية، يتضمّن أوسع الصلاحيات لإدارة المحافظات والمدن والبلدات والقرى.
15- تطبيق مخرجات الحوار الوطني، وإجراء انتخابات محلّية وتشريعية ورئاسية بإشراف الأمم المتحدة وفق جدول زمني محدّد، ينهي عمل الهيئة ومسؤولياتها، ويعلن بداية مرحلة جديدة في سورية.
الإجراءات اللازمة
أ-وضع نظام أساسي لعمل الهيئة، يرسم آلية عملها، وآلية اتخاذ قراراتها، وينظم العلاقة بينها وبين المؤسسات الانتقالية التابعة.
ب-وقف العمل بالدستور، وإصدار إعلان دستوري مؤقّت يشكّل مرجعية دستورية وقانونية لها، ويكون دليلاً لعملها خلال المرحلة الانتقالية وحتى إقرار الدستور الدائم. يقرّ ويعمل به فور تولّي الهيئة لمهامّها.
ج-تشكيل حكومة للمرحلة الانتقالية تتولّى إدارة مؤسسات الدولة ومرافقها، وتعمل تحت إشراف الهيئة.
د- تشكيل مجلس عسكري مشترك لضبط الأمن، يعمل تحت إشرافها لإعادة هيكلة وبناء المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية على أسس وطنية. يعيد المنشقين إليها، ويضمّ مَن يرغب من قوى الثورة ضمن تشكيلات وطنية احترافية. يعمل على جمع السلاح وضمان حصر حيازته بيد الدولة.
ه- حلّ مجلس الشعب وتجميد العمل بقانون الأحزاب إلى حين صدور قانون جديد، وفرض الحراسة القانونية على ممتلكات الأحزاب المرخّصة.
و- إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وضمان حرّية عمله واستقلاله.
ز- إعادة تشكيل المحكمة الدستورية العليا، وضمان استقلالها وحياديّتها وحرية عملها.
ح- تدعو الهيئة خلال ستّة أشهر من ولادتها إلى عقد مؤتمر وطني. يتكوّن من الداخل والخارج، يمثّل جميع مكوّنات الشعب وقوى المجتمع المدني والنقابات وشخصيات دينية وسياسية وثقافية وفكرية، تتمتّع بحضور على المستوى الوطني. يتولّى المؤتمر إطلاق عملية حوار وطني شامل ومنظّم بإشراف الهيئة.
ط- يقوم المؤتمر الوطني بدور استشاري للهيئة. ويضع دستوراً جديداً للبلاد، يُقرّ أصولاً باستفتاء شعبي.
ي- تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية. تتولّى تنفيذ برنامج للعدل والإنصاف، يردّ المظالم إلى أهلها ويجبر الضرر للضحايا. وتعمل لتحقيق المصالحة الوطنية مع ضمان المصداقية وعدم المحاباة، لمنع قيام أي أعمال انتقامية أو سياسات عزل أو عقاب جماعي.
ك- تشكيل لجنة للمعتقلين والمفقودين لتولّي هذا الأمر. تضمن الإفراج عن المعتقلين والبحث عن مصير جميع المفقودين والمختطفين، وتقوم بمراقبة مراكز الاحتجاز.
ل- تشكيل لجنة مختصّة لمراجعة جميع القوانين السورية – وخاصة تلك التي صدرت بعد انطلاقة الثورة -ووقف العمل بالقوانين والمراسيم والبنود التي تتعارض مع اتفاق الحلّ السياسي ومهامّ الهيئة.
م- إلغاء القوانين والقرارات والإجراءات التعسفية، وما ترتّب عليها من تغيير ديمغرافي أو ترحيل فردي أو جماعي، وإبطال قرارات وتدابير مصادرة وحجز الممتلكات والتهجير القسري.
ن- إلغاء المراسيم والقوانين الاستثنائية وإجراءاتها المتعلّقة بحقوق السوريين الكرد ومعالجة تبعاتها. وإعادة الجنسية لجميع السوريين الذين جرّدوا منها بموجب الإحصاء الاستثنائي عام 1962 بمحافظة الحسكة، ومعالجة الآثار المترتّبة عليه.
س-إلغاء القوانين التي تتعارض مع القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان وما ترتّب عليها من نتائج وصدر عبرها من أحكام.
ع- حلّ المحاكم الميدانية والاستثنائية ومحاكم الإرهاب وإلغاء أحكامها.
ف-تسجيل المكتومين والذين لم يُسجّلوا في دوائر نفوسهم أصولاً نتيجة الظروف التي مرّت على البلاد.
ص-تشكيل هيئة وطنية لإعادة الإعمار لوضع الخطط والبرامج وإجراء الاتصالات والعلاقات اللازمة.
ق-العمل على عقد مؤتمر دولي للمانحين، وإنشاء صندوق وطني لإعادة إعمار البلاد، وتعويض الأفراد والجماعات والمناطق المتضرّرة.
سوريا المستقبل كما يراها حزب الشعب الديموقراطي السوري
سورية المستقبل كما نراها: دولة مدنية ديمقراطية حديثة، السيادة فيها للشعب، تقوم على الأسس الدستورية واللامركزية الإدارية، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء. هي دولة المؤسسات، والتداولُ السلميُّ للسلطة من خلال انتخابات دورية حرّة ونزيهة، تشرف عليها هيئة انتخابات مستقلّة ومتخصصة، تضمن اختيار الشعب لممثّليه الحقيقيين إلى مؤسسات الحكم ومراكز صنع القرار.
دولة المستقبل السورية جمهورية برلمانية. يتولّى المجلس النيابي مهمّة التشريع ومراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها. وتقوم على مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وعلى سيادة القانون والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. وتحترم كيانات وحريات ومعتقدات الأفراد والجماعات الوطنية، وتضمن حقوقهم الإنسانية والثقافية والسياسية والمدنية المتساوية.
أسس الدولة السورية الديموقراطية الحديثة:
1-حجر الزاوية في هذه الدولة دستور ديمقراطي؛ يؤسس لنظام برلماني. تنعدم فيه أسس احتكار السلطة والاستبداد، ويغلق طريق العودة إليهما، تضعه جمعية تأسيسية منتخبة بحرّيّة، يأخذ الدستور مشروعيته أصولاً. وهو يكفل الفصل بين السلطات الثلاث، وخضوع السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية. كما يضمن استقلال القضاء وسيادة القانون وتساوي المواطنين أمامه. ويكرس التعددية والحريات والحقوق المتساوية لمكونات الشعب والمواطنين ويحدّد واجباتهم.
2- تجري الانتخابات وفق قانون ديمقراطي وعصري قائم على مبدأ النسبية، وتتم بإشراف هيئة خاصة ومستقلّة، تضمن انتخابات مباشرة حرة ونزيهة وسرية لاختيار ممثّلي الشعب في السلطة التشريعية.
3- اعتماد قانون للحكم المحلّي، منصوص عليه دستورياً، يقوم على اللامركزية الإدارية في جميع المناطق والمحافظات، يعطي للسلطات المحلية صلاحيات فعلية وحقيقية لإدارة مناطقها، بحيث تدار المناطق من قبل أبنائها عبر مجالس محلية وبلدية منتخبة، وحكام مناطق ومحافظين منتخبين مباشرة من الشعب. على أن تكون صلاحيات السلطات المحلّية محدّدة بوضوح في جميع المجالات، وأن تخضع جميعها للمراقبة والمساءلة والمحاسبة القانونية محلياً ووطنياً.
4- تكريس مبدأ الشفافية في عمل مؤسسات الدولة، وكفالة حريات المواطنين ومعتقداتهم وحقوقهم في التنظيم والتعبير والكتابة والنشر. وتكريس الحريات الإعلامية وحقّ الوصول إلى المعلومات والإحصاءات في الدولة.
5- حقّ تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني متاح للجميع في إطار القانون. مع التأكيد على دور المجتمع المدني في جميع المجالات لخلق التوازن الذي يحول دون تغوّل السلطة وهيمنتها على الدولة.
6- تشجّع الدولة كل الفعاليات الإنسانية من ثقافة ورياضة وفنون وآداب وعلوم ومعارف، وتدعم جميع العاملين في هذا المجال، وتعمل على تأمين ما يلزم لإطلاق الطاقات الإبداعية الحرة للفنانين والمثقفين والمبدعين، وضمان حقوق المواطن والمنظمات بالوصول إلى المعلومات والإحصاءات بحرية.
7- احترام حقوق الإنسان، والالتزام بجميع الشرائع والمواثيق الدولية بهذا الشأن، وإعطاؤها السند القانوني في الدستور وحيثما يتوجب في المنظومة القانونية.
8- العمل على تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة دستورياً وقانونياً، وتمكين المرأة من الإسهام في جميع مناحي الحياة، وفي مؤسسات الدولة والقطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومواقع صنع القرار فيها. وفي هذا الإطار يجب التأكيد على احترام حقوق الطفل ورعاية الأمومة والطفولة وأصحاب الاحتياجات الخاصة.
9- تبنى مؤسسة الجيش والقوات المسلحة والمؤسسات الأمنية، على أسس وطنية واحترافية، وتحدّد مهامها وصلاحياتها لحماية الوطن والشعب، وتوضع تحت سلطة القانون. وتخضع للسلطة السياسية وقرارات الحكومة. وعليها الالتزام بالحياد في المجتمع، ولا تسمح لأفرادها بالانتماء الحزبي وممارسة النشاط السياسي وهم في الخدمة. .
10- التأكيد على مفهوم المواطنة واحترام الحقوق القومية والدينية والتنوع الثقافي للسوريين، وتكريس المساواة التامة بين جميع المواطنين أمام القانون، والعمل على معالجة القضية الكردية كقضية وطنية وعلى هذا الأساس، وتصحيح كل أشكال الظلم والتعسّف والتمييز التي صنعها نظام الاستبداد، ومحاربة كل أشكال العنصرية والطائفية والتمييز والتعصّب والكراهية والتطرّف.
11- لا سلطة فوق سلطات الدولة ومؤسساتها، وهي على مسافة واحدة من الجميع. تعمل على تكريس سيادة القانون، وتحديث المنظومة القانونية والإدارية والتربوية وأنسنتها. وتضمن استقلال القضاء، واستئصال الفساد وتصفية آثاره، وتكريس قيم الحرية والعدالة والنزاهة واحترام كيانات الأفراد وشخصياتهم وكراماتهم القائمة على حقوق المواطنة وواجباتها. تحتكر الدولة حق حيازة السلاح واستخدامه ضمن القانون، ولا تسمح تحت أي مبرر بوجود سلاح أو قوى مسلحة خارج سلطتها.
12-بناء نظام اقتصادي قائم على العلم والمعرفة والمصلحة الوطنية، ويتسم بالتنوع والشفافية وعدم الاحتكار. اقتصاد متعدّد القطاعات، يكون فيه دور هام للقطاع الخاص المنتج والمستقل والتنافسي، ويشجّع ويدعم المبادرات الفردية والتعاونية بحيث يستطيع كلّ مواطن أو مؤسسة أو شركة المساهمة في تطوير الاقتصاد وتقدّمه. ويعمل على توفير فرص العمل وتنظيم شروطه بالوسائل العلمية والقانونية. ونرى أن النظام الاقتصادي الحرّ في شروط دولة الرعاية والديموقراطية الاجتماعية يشكّل رافعة لإعادة إعمار بلادنا وبناء اقتصادها من جديد وتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي للشعب، وحلّاً للمشاكل الاقتصادية الموروثة والطارئة، على أن ترعاه قوانين رشيقة ومرنة، تحرص على صون ملكية الدولة وحقوقها ودورها التنموي والاجتماعي، مثل حرصها على حقوق الملكية الخاصة للمؤسسات والأفراد، وتضمن حقوق العاملين المعيشية والمهنية والنقابية.
13- إصلاح القطاع الزراعي وإعادة هيكلته والعمل على رسملة الزراعة ومكننتها وتحديثها وتشجيع الاستثمار فيها وإطلاق آليات التنمية المتوازنة بين الريف والمدينة، ورفع مستوى الدخل الفردي للمواطنين.
14- تحقيق نظام ضمان اجتماعي، وضمان صحّي متطوّر، يحميان كرامة وسلامة وصحّة كافة المواطنين.
15- إصلاح وتحديث المؤسسات المالية والمصرفية، بما يكفل استقلال المصرف المركزي والمجلس الأعلى للنقد والتسليف وتنظيم عمل المصارف العمومية والخاصة. وكذلك تطوير قوانين ضريبية عادلة تخدم واردات الدولة والدخل الوطني، وتحقّق نموّ الاقتصاد، وتراعي المواطنين الأقلّ دخلاً، وتضعَ حدّاً للتهرّب الضريبي.
16- بناء مؤسسات رقابة حقيقية وحديثة وفاعلة. وتأسيس سوق للأسهم والأوراق المالية بالمعايير العالمية، ومحاربة الاقتصاد الموازي القائم على الاحتكار والفساد والتهريب وتجارة الممنوعات وتبييض الأموال.
17- بناء نظام تعليمي حديث ومتطوّر بعيداً عن المؤثرات الأيديولوجية والسلطوية، خالٍ من أدران الاستبداد والغوغائية وعبادة الفرد. واعتماد فلسفة تعليمية وتربوية قائمة على الحداثة والمنطق والعلوم المعاصرة والعقل النقدي. والتربية الوطنية لترسيخ قيم الوطنية الجامعة، واحترام التنوع والخصوصيات القائمة لمكونات الشعب. وتطوير طرق الامتحانات الرسمية لتعطي نتائج موضوعية وتقييماً حقيقياً ونزيهاً. والعمل بمبدأ استقلال الجامعات واحترام المعايير الأكاديمية والعلمية والأخلاقية لعملها في إطار حصانة صارمة، فالجامعة مؤسسة حضارية وفضاء مفتوح للرؤى ووجهات النظر والإنتاج العلمي والفكري والفني المتنوّع. تتحاور فيه مختلف التيارات الفكرية والسياسية والثقافية في جوّ من الحرية والديمقراطية واحترام العقل.
18-استقلال القضاء عن السلطة والتسييس، ليكون ضامناً للعدالة وحقوق السوريين المنصوص عليها بالدستور، ويتخلّص نهائياً من الفساد والمحسوبيات ومن البدائل العُرفية والمحاكم الخاصة والاستثنائية بكافة أشكالها ومسمّياتها. والتأكيد على حياد القضاة ونزاهتهم وعدم تحزّبهم وانحيازهم في عملهم -لغير الحقّ والعدل -تحت تأثير الانتماء أو الأيديولوجيا أو المصلحة الخاصة. واختيار أعضاء مجلسٍ القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية العليا من كبار القضاة ذوي النزاهة والكفاءة وفق معايير قانونية واحترافية، وتوفير الشروط لممارسة عملهما بشكل حرّ ومستقلّ.
19-العمل على استعادة الأراضي المحتلة باعتبارها مهمّة وطنية عليا، وعودة الجولان للسيادة الوطنية بالاستناد إلى القرارات الأممية: 242 لعام 1967، 338 لعام 1973، 497 لعام 1981.
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري
تمت المصادقة على هذه الوثيقة من قبل المجلس الوطني لحزب الشعب الديمقراطي السوري، الذي عقد في أواسط كانون الأول 2020.