رسالة سياسية
صادرة عن اجتماع اللجنة المركزية لحزب الشعب الديمقراطي السور
يعيش السوريون في زمن جديد، أعلنته إرادتهم الحرة عبر هتافاتهم للحرية والكرامة في شوارع المدن وساحاتها، وحيثما توفرت إمكانية ذلك داخل البلاد وخارجها. وحققته تضحياتهم التي عز نظيرها خلال سنوات الثورة، وصنعت تاريخاً جديداً ليس لسورية وحدها بل لدول المنطقة أيضاً. وهذا يفسر التأييد الشعبي الكبير الذي استقبل فيه السوريون يوم التحرير وسقوط الدولة التسلطية الفئوية، وتلقت بعده السلطات الجديدة هذا الدعم والاهتمام الكبيرين عربياً ودولياً من أجل عبور البلاد المرحلة الانتقالية بسلاسة ونجاح وسلام، فالمصلحة الإقليمية والدولية تتطلب ذلك أيضاً. غير أن حرارة التأييد والدعم داخلياً وخارجياً تأثرت كثيراً بالوقائع والمجريات خلال الأشهر التسعة الماضية وخاصة بعد ما جرى بالمنطقة الساحلية وفي محافظة السويداء، ما أدى إلى تزايد دوافع القلق وإشارات الاستفهام، وارتفاع السؤال الصارخ بين الناس: كيف ترى الأمور يا صاحبي، وإلى أين تمضي؟!
فمنذ سقوط الأسدية في 8/12/ 2024، وحتى اليوم، تتعرض البلاد إلى أزماتٍ كبرى، واستهداف منظّم من قبل أطراف داخليةٍ وقوى وخارجية، عملت على إثارة الفتن والأحقاد الطائفية بين أبناء الشعب السوري، في سعيٍ حثيث لزعزعة الاستقرار، وضرب السلم الأهلي وخلق انفلات أمني وفوضى في البلاد، يُراد به تفجير حرب أهلية بين السوريين للحؤول دون ولادة سورية الجديدة وطناً حراً لكل أبنائه. ويأتي ما جرى في الساحل السوري وما يجري في السويداء ضمن هذا السياق. وكان للمعالجة التي اعتمدتها السلطة دور في تفاقم الأوضاع وتعميق الجراح، ما استوجب تشكيل لجان التحقيق وفرض القانون لتحقيق العدالة. الأمر الذي يوجب على العقلاء والنشطاء القوى الوطنية والمدنية والروحية إدراك خطورة ما يجري وأن يعملوا على الجنوح إلى التهدئة، وتنبيه الناس إلى عدم الانجرار إلى التجييش والخطاب الطائفي الذي وصل إلى سوية مؤلمة وخطيرة، وصار يهدد وحدة الشعب السوري، وثورته التي تسعى لاستكمال أهدافها بتحقيق نجاح المرحلة الانتقالية، والابتعاد عن الاشتراطات المسبقة، وفرض الرؤى التي لا تتماشى مع الواقع ومع إرادة الشعب، واستباق الوقائع، والحكم على النوايا والتقديرات الخاصة. الأمر الذي يشكل خطراً جسيماً ويعيق وصول المرحلة الانتقالية إلى نهاياتها السعيدة والتي يعمل السوريون جميعاً لإدراكها والمشاركة في إنجازها. وبناء الدولة الوطنية، دولة المؤسسات والحريات والمساواة، دولة المواطنة والقانون والتنوع الثقافي. والوصول إلى مرحلة الاستقرار، بإنتاج دستور دائم للبلاد وقانون أحزاب وقانون انتخابات وقانون إدارة محلية قائم على اللامركزية الإدارية واجراء انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية وبالتالي قيام نظام ديمقراطي.
إن أحداث السويداء المؤلمة هي مجزرة دامية ذهب ضحيتها المئات من أهل السويداء وأبناء العشائر ومن قوات الأمن، تمثل كارثة وطنية ناتجة عن غياب السياسة والحوار الوطني، واعتماد المعالجات القاصرة على الوسائل الأمنية والعسكرية. وعن الأداء المرتبك وغير الواضح للسلطة السياسية في الانفتاح على الشعب وتحقيق المشاركة الوطنية في عملية البناء والتغيير التي تطال كل من الدولة والمجتمع. وهو ما ساعد القوى الداخلية والخارجية المتربصة بسورية لزعزعة أمنها واستقرارها، وأعطى العدو الإسرائيلي حجة للتدخل. وساعد الذين يعملون على ضرب الوحدة الوطنية وباتجاه التقسيم طالبين الحماية والتعاون مع العدو الإسرائيلي، على أن يكون صوتهم هو الأعلى في السويداء، وإلى إضعاف الفعاليات الوطنية والديمقراطية وقوى المجتمع المدني، والتي هُمّشت بفعل تطور الأحداث، وأصبحت هذه القوى غير قادرة على الفعل، وخاصة بعدما أقدمت عليه قوى المحسوبة على السلطة من جرائم مروعة بأعمال القتل والتنكيل بحق المدنيين العزل وإهانة كرامتهم وحرق المنازل والقرى، هذه الأفعال تركت آثاراً مدمرة على مجتمع السويداء، وأدت إلى شدّ العصب الطائفي. هذه الأحداث المدانة وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً، كذلك الحال فقد ارتكب أنصار الهجري جرائم ونكّلوا بأبناء العشائر وارتكبوا مجازر مروعة بحقهم، وتمّ طردهم من أحيائهم أيضاً. وهي أحداث مدانة وطنياً وإنسانياً. كما ارتكبت الجرائم الموصوفة والمستنكرة بحقّ قوى الأمن الداخلي والجيش الذين دخلوا محافظة السويداء بموافقة الطرفين لفض النزاع بين العشائر وبعض الأطراف في المدينة، خاصة بعد رفع أعلام إسرائيل في التظاهرات التي نظمتها هذه الأطراف، علماً أن إسرائيل لا تريد أن ترى دولة في سورية. فهي لا تحمي إلا الفوضى وعدم الاستقرار فيها، وتسعى لتمزيقها واستمرار تشتّت اجتماعها القومي والديني والطائفي والإثني. إن هذه المظاهر الغير وطنية، التي يحاول أنصار الهجري الباسها للتجمعات الجماهيرية، تعتبر افتراءاً سافراً على جبل العرب وإهانة لأهلنا في السويداء ولقيمهم الأخلاقية والاجتماعية النبيلة، وتَعَدّ باطل وأحمق على تاريخهم الوطني منذ نشوء الدولة السورية وحتى الآن، ونرى ضرورة فضح هذه العصابات، التي تستثمر سياسياً في مأساة أهلنا في السويداء في طلب استقدام الأجنبي وحمايته، وتعمل على طعن الوحدة الوطنية السورية في الصميم، وتعرية أصحاب هذه المواقف عبر سدّ الذرائع والثغرات التي يتسللون عبرها، وذلك من خلال إعادة الثقة بين أبناء السويداء وبقية السوريين ومع الدولة السورية، وضمان الأمن والاستقرار، وتلبية مطالب أبنائها، والتزام الدولة بحقوقها، وتعميم وتكريس خطاب وطني جامع لكل السوريين. كما ندعو إلى حماية ودعم القوى الوطنية والديمقراطية والمدنية في السويداء، من كلا الطرفين، الدرزي والعشائري، وفتح حوار شفاف وصريح بينها ومع السلطة القائمة، لأن المخرج الوحيد لن يكون إلا سياسياً، وعبر تحديد خارطة طريق وطنية للخروج من هذه الكارثة، صحيح أن المهمة صعبة ومعقدة لكن مدّ جسور الثقة متوجب وممكن، والبدء بخطوات أولى كالعمل على تحسين الأوضاع المعيشية والخدمات، وفتح جميع الطرق من وإلى السويداء، ونبذ وتجريم خطاب الكراهية والتجييش الطائفي. والتحقيق العادل والشفاف في الجرائم المرتكبة من اي جانب كان في السويداء، كما حصل في أحداث الساحل. ومحاسبة كل من تلطّخت يداه بدماء المدنيين دون تأخير، وكذلك جبر الضرر لأهالي الضحايا والمتضررين من الفريقين.
لقد ظهر جلياً التناغم والتعاون بين القوى الانفصالية التقسيمية التي تستند لقوى الخارج وتنفذ الأجندات الإقليمية والدولية المعادية لسورية الجديدة وطموحات شعبها، والذي كشف عن نفسه في مؤتمر الجزيرة، الذي ضمّ فلول النظام البائد وجماعة الهجري التي رفعت أعلام العدو الإسرائيلي ودعت للحماية الدولية وتقرير المصير، وكذلك فعلت قسد عندما تنصلت من الاتفاقية التي وقعتها في شهر آذار الماضي مع رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، وتلوح بمشروع انفصالي غير معلن.
كان شعارهم وحدة الصفّ، فهم يتجمعون ضدّ إعادة بناء الدولة الوطنية الجامعة لكل السوريين، وضد السير بالمرحلة الانتقالية وانجاح مندرجاتها، يريدون دولة على قياس مصالحهم، قائمة على اللامركزية السياسية أو الفيدرالية، التي لا تلائم الواقع الديموغرافي السوري، أي دولة قائمة على المحاصصة العرقية والطائفية وبقوة السلاح، تؤدي إلى التشتيت وتعميق للشروخ الاجتماعية والفوضى وعدم الاستقرار، وهو ما يحقق أغلى الأمنيات للعدو الإسرائيلي لإضعاف الدولة السورية الجديدة وفرض شروطه عليها.
إن أداء القيادة السياسية خلال الفترة المنصرمة لم يكن على مستوى التحديات التي خلفتها عصابة الأسد على البلاد من مجازر ودمار وخراب لكل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن الأسباب الرئيسية في ذلك غياب السياسة ولغة الحوار وضعف مشاركة القوى السياسية والمجتمع المدني والنقابات المهنية والحرفية والعمالية والحركة الثقافية والفكرية والفنية، في وقت يتوجب فيه على الجميع تقبل المشاركة الفعلية والعمل بصدق ودأب لتحقيق الثقة المتبادلة. وكذلك ارتفاع إشارات الاستفهام اتجاه السلطة ونواياها حول حل الفصائل المسلحة ونزع سلاحها، وإلى روح الاقصاء والغلبة والاستئثار التي وسمت هذه المرحلة، والتي ظهرت بوضوح في كل توجهات القيادة السياسية وقراراتها وفي مقدمتها الإعلان الدستوري ومخرجات الحوار الوطني وتشكيل الحكومة الانتقالية وكيفية تشكيل الجيش الوطني التي لاقت اعتراضات وانتقادات كثيرة من المكونات والنخب والمثقفين والمجتمع المدني والأحزاب.
إن سياسة “من يحرر يقرر” أي سياسة القوة والإخضاع، تتجاهل تضحيات السوريين التي حققت النصر بل تتنكر لها. ولن تؤدّي لبناء الدولة الوطنية والاستقرار أو تحقيق تعايش سلمي مستدام بدون مشاركة شعبية متعددة وفاعلة، تحاكي طبيعة سورية وبنية شعبها. والحوار السياسي الوطني هو ما يدفع لمزيد من المشاركة لكلّ السوريين.
من هنا يتوجب علينا كوطنيين، أن نعيد قراءة الواقع الجديد، وتغيراته على الصعيدين الإقليمي والدولي، والتساؤل عن وجهة البوصلة الدولية اتجاه منطقة الشرق الأوسط ومن ضمنها سورية، ومؤشر هذه البوصلة يشير إلى وحدة أراضي دول المنطقة واستقرارها بما يعني تصفية جميع الميليشيات وتجريدها من أسلحتها، وهذا ليس حباً ودعماً لشعوب المنطقة ، بل صوناً للسلام والاستقرار فيها لإعادة ترتيبها وفقاً لمصالحها، وتحقيقاً لاستثمارات كبرى لا يمكن العبث بها، فهي منطقة النفط والغاز والممرات البرية والبحرية والمعادن، وخطوط التجارة والاتصالات والموانئ لطريق الهند – أوروبا، وهو ما يقود الرياح إلى شراعنا. وكذلك يجب كف يد العدو الإسرائيلي عن العبث بورقة الأقليات، من هنا يتوجب علينا تعزيز الوحدة الوطنية وتصويب الرؤى الفاعلة لبناء سورية الجديدة، التي تحقق شروط الحرية والكرامة، وتنجز دولة المواطنة وسيادة القانون والعدالة والمشاركة والمساواة لكل السوريين من جميع المكونات القومية والدينية والإثنية والطائفية. عندها نكون فاعلين ومساهمين في تلك المتغيرات لتصب في مصلحة سورية وشعبها.
إننا في حزب الشعب الديمقراطي السوري، ونحن نشهد اليوم مخاض ولادة سورية الجديدة، وندرك تأثير الأوضاع الإقليمية والدولية على البلاد، والذي يحمل في طياته الكثير من التحديات، إضافة لما يحاك لبلدنا من قبل العدوان الإسرائيلي، وأذنابه. وهذا يتطلب تحصين أوضاعنا الداخلية وسدّ الذرائع والثغرات التي يتسللون من خلالها، وتعميم وتكريس خطاب وطني جامع لكل السوريين. وأن يتحمل الجميع مسؤوليتهم الوطنية، وتوحيد الصفوف لإنجاز المرحلة الانتقالية، وعلى مؤسسات الحكومة الانتقالية القيام بواجباتها باحترافية وعلى قاعدة وطنية، وتأمين متطلبات الناس الأساسية من معيشة لائقة وخدمات ميسرة، بعد أن عانوا طويلاً من التجاهل والتمييز والحرمان. وتوفير الأمن والاستقرار واعتماد لغة الحوار والتشاركية، وحق المواطن في المشاركة وتقديم الرأي والرؤية فيما يجري، ومساءلة المسؤولين عن أعمالهم… للوصول إلى خواتيم هذه المرحلة بانتخابات برلمانية ورئاسية. كما ندعو السلطة في البلاد ألّا تقصر معالجاتها على الإجراءات الأمنية، بل أن تنطلق نحو الحوار وأن يكون فضاؤها حرّاً مفتوحاً للعمل والسياسة وللحريات وهي جيدة وواسعة، وندعو لاستثمارها والحرص عليها وقوننتها، لتوسيع الأفق الوطني والانفتاح على القوى الوطنية والمدنية ومكونات المجتمع السوري دون استثناء، توسيعاً لدائرة التشاركية. كما ندعوها لتفعيل مسار العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا ورد المظالم عبر القانون والمؤسسات القانونية، لما يخلِّفه عدم تفعيلها من تجاوزات وانتقامات تهدد السلم الأهلي. وأن تكون الدولة حيادية اتجاه المكونات والأديان، وتقف على مسافة واحدة من الجميع، وأن تعمل بإخلاص على تبديد الهواجس والمخاوف لكافة مكوناتنا الوطنية، وتعزيز الثقة بين الجميع بإجراءات ملموسة، وأن تتصدى بكامل مؤسساتها المعنية، وبالحزم الكافي لكلِّ أشكال التحريض والتجييش الطائفي عبر منعه وتجريمه، لما قد يجرُّه من مخاطر على السلم الأهلي والعيش المشترك، وما يخلِّفه من مخاطر وتحديات أمام وحدة البلاد.
كما نرفض كل أعمال الانتقام والثأر، ونؤكّد أن دم السوري على السوري حرام، وندين من يتسبب بسفكه أيّاً يكن انتماؤه أو تبعيّته، كما نستنكر أيّ تطاول أو إساءة أو عبث يطال الرموز الوطنية وأيّ تعدٍّ على كرامات الناس أو حيواتهم.
ونؤكد أن سورية واحدةٌ، أرضاً وشعباً ولا تقبل القسمة، وكل عمل يؤدي إلى التشتت وعدم الاستقرار مُدان وطنياً، وندعو إلى الابتعاد عمّا يسيء إلى الشريك الوطني ويؤجّج المشاعر ما قبل الوطنية، حفاظاً على وحدة سورية ومستقبلها وحفاظاٌ على الأمن والاستقرار والسيادة على أراضيها.
نؤكد ايضاً أنّ الدولة وحدها ـــ كما في كلّ دول العالم ـــ هي من يحقُّ لها احتكار السلاح وأدوات القوة والأمن وإنفاذ القانون. لذا فإنّ مهمتها الأولى؛ هي حل جميع الفصائل وجمع السلاح من أيدي الجميع دون استثناء وبالمطلق.
إن نظام اللامركزية الإدارية يجب أن يطبق في جميع المحافظات السورية، وهي التي تعزز الديمقراطية والتشاركية، حيث يدير أبناء كل محافظة شؤونهم الإدارية والخدمية، وهم منتخبون بدأً من المحافظ إلى مجالس القرى.
سورية وطن متنوع الكيانات والأديان والطوائف والقوميات، وكل منها متنوع أيضاً، من هنا تصبح الأكثرية هي الأكثرية السياسية.
إن سورية الجديدة لا تنهض، ولا تعود إلى أهلها وسوريتها، دون أن يكون فضاؤها حرّاً مفتوحاً للعمل والسياسة وللحريات، وتثبيت أسس الديمقراطية والمواطنة لجميع السوريين، وبناء دولة المؤسسات التي توفر الحياة الدستورية وسيادة القانون والتنوع الثقافي والصحافة الحرة والحياة الحزبية المشروعة والمقوننة، وتكون قد تحرّرت بتضحيات الجميع. عندها نكون قد طوينا الصفحة السوداء للأسدية وفلولها من تاريخ سورية إلى الأبد، لترتقي سوريتنا وتأخذ مكانها تحت الشمس من جديد.
دمشق 5/ 9 / 2025
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري