إلى سوريا 1989، بعد أيام على سقوط جدار برلين، يصل عميل الموساد أري بن صهيون (الممثل الإرلندي جوناثان ريز ميرز)، متخفياً تحت شخصية رجل الأعمال الألماني هانز هوفمان؛ القادم لعقد صفقة سجاد عن طريق وزير التجارة السوري الفاسد معين الحسيني، وبالتعاون مع ضابط نازي سابق مقيم في دمشق. مهمة بن صهيون هي إخلاء العالِم السوري حازم حمرة، عيون وآذان الموساد داخل البرنامج الكيميائي للنظام السوري، الأمر الذي سوف يتضح في النهاية أنه محض غطاء لمهمة أخرى تنهض على اتفاق بين الجنرال السوري فؤاد (الذي يظهر دائماً باللباس العسكري، ويتصل بسهولة مع حافظ الأسد)، ورئيس الموساد ميكي (يلعب الدور الممثل البريطاني المخضرم جون هرت). الصفقة تنطوي على تبادل الجواسيس بين سوريا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، من جهة أولى؛ وتوريط سليمان سراج، رئيس المخابرات السورية (يظهر، في المقابل، باللباس المدني دائماً) في عملية استخبارات فاشلة تسفر عن الإطاحة به، لأنه… يهدد أمن البلدين!
ليست هذه هي انعطافة السيناريو المفاجئة الوحيدة، في فيلم «غطاء دمشق» للأمريكي دانييل زيليك بيرك، إذْ ثمة المصوّرة الصحافية كيم جونسون (أوليفيا ثيرلبي)، التي يصادفها بن صهيون في القدس المحتلة، أمام حائط البراق، وينقذها من يهود غلاة اعتدوا عليها لأنها صوّرتهم نهار السبت. المصادفة ستجمعهما مجدداً، ولكن في دمشق هذه المرّة، في فندق الشيراتون حيث جاءت كيم لإنجاز تحقيق صحافي لصالح جريدة «يو إس نيوز». يتطور بينهما ولع عاطفي ينتهي بعلاقة جنسية، لكي نكتشف أنّ الصحافية سورية الأصل، اسمها سلمى، وهي تعمل مع المخابرات السورية لإنّ الضابط سراج يبتزها عن طريق تهديد حياة طفلها. مفاجأة أخرى أنّ الجنرال السوري فؤاد، وليس ميكي رئيس الموساد، هو الذي يكشف للعميل بن صهيون حقيقة عملية دمشق هذه، التي كان الأخير محض غطاء لها؛ كما يبوح له بالسرّ الرهيب: أنّ الجنرال هو نفسه «الملاك» الذي يتردد اسمه في ملفات الموساد الأكثر سرّية، بوصفه رجل الاستخبارات الإسرائيلية الأعلى كعباً داخل سوريا!
هذا هو شريط بيرك الثاني، والسيناريو مأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للأمريكي هوارد كابلان، المختصّ في أدب التجسس؛ مع فارق أنّ المخرج العتيد عدّل زمن الرواية من سوريا أواسط السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات، لكي تتزامن الأحداث مع سقوط جدار برلين. وفي حين أنّ عمل كابلان ينمّ عن معرفة معقولة بطبائع الحياة السياسية والاجتماعية في سوريا، فإنّ شريط بيرك يكشف عن فضائح كارثية في هذا الجانب تحديداً. التصوير جرى في الدار البيضاء، مع ثوان معدودات منتزعة من شرائط إخبارية تعكس ملصقاً عن حافظ الأسد تارة، أو صورة تاكسي دمشقية صفراء اللون طوراً؛ لكنّ مدير التصوير لم يكترث، البتة، باقتراح أي ديكورات توحي بمدينة دمشق، أو أحيائها القديمة، أو حتى فندق الشيراتون بتصميمه المعماري المميز!
أفظع من هذا أنّ بن صهيون يكتشف علاقة كيم/ سلمى بالمخابرات السورية عن طريق تعقب سيارة المخابرات التي تنقلها للقاء الضابط سراج (في مشهد مزرٍ، نرى فيه بن صهيون يطلب من سائق تاكسي سوري أن يتعقب سيارة مخابرات!)؛ ثم يتسلل خفية إلى داخل المبنى ليبصرها، عبر كوّة في الشارع، تتحدث مع سراج في مكتبه! فظيع، أيضاً، أنّ الجنرال فؤاد، على مسمع ومرأى بن صهيون، يتصل هاتفياً برئيس الموساد عبر هاتف أرضي مباشر، من قلب دمشق؛ وكأنّ خطوط الاتصال بين دمشق وتل أبيب مفتوحة ومتاحة! وأمّا الأفظع، ولعله الأشدّ غباء، أنّ العالِم الذي جاء بن صهيون لإخلائه من سوريا إلى دولة الاحتلال، ويُفترض أنه عميل الموساد الأهمّ داخل برنامج السلاح الكيميائي للنظام، ليس يهودي الديانة فقط، بل يسكن في «الحيّ اليهودي» أيضاً!
رسائل كثيرة خبيثة يستبطنها الشريط، بينها أنّ الاستخبارات السورية غبية وقاصرة ومتخلفة (وهذا ليس جديداً)، ولكنها معنية بالأمن الوطني السوري في مواجهة الاستخبارات الإسرائيلية، وليس بممارسة القمع ضد المواطن السوري أوّلاً، على سبيل حماية الاستبداد والفساد. في المقابل، يحرص الجنرال، الذي يظهر مراراً وهو يقود عمليات عسكرية، على مجابهة ضباط الاستخبارات في سياق حرصه على الأمن الوطني والسلام مع دولة الاحتلال. وأمّا الموساد فإنها الجهاز الأذكى والأرفع تطوراً (وهذا بدوره ليس جديداً)، ولكنها أيضاً مؤسسة يمكن لأجهزة النظام السوري أن تخترقها وتهزمها وتجبرها على التعاون! كلّ هذا شريطة أن تكون للموساد اليد العليا في نهاية المطاف، وأن يتمكن مدير محطتها في سوريا من الفرار عبر عملية جيمسبوندية، وأن تتكشف في شخصية بن صهيون جوانب إنسانية نبيلة تدفعه إلى المجازفة بحياته في محاولة إنقاذ كيم/ سلمى، قتيلة الموساد…
شريط آخر سخيف، يمجّد مؤسسات الكيان الصهيوني على نحو فجّ وتافه؛ قد يقول قائل، محقاً. لكنّ وجود بعض ألمع أسماء السينما الهوليودية المعاصرة، خاصة هرت وميرز، يمنح الشريط مساحة انتشار واسعة، كفيلة بتكريس سلسلة تنميطات خبيثة حول سوريا؛ ليس في أواخر الثمانينيات فقط، بل في المناخات الراهنة التي تشهد محاولات إعادة تدوير نظام مجرمي الحرب.