بدأت الحكاية من مخزن بضائع صغير أنشأه المهاجر الألماني هنري ليمان في مدينة مونتغمري، ولاية ألاباما، في سنة 1844؛ ثمّ طوّره بعد ستّ سنوات، بشراكة مع شقيقيه إمانويل وماير، فاتخذت الشركة اسم «الأخوة ليمان». ولقد ازدهرت هذه المؤسسة على مرّ العقود، وصمدت أمام موجات الكساد والأزمات وحربَيْن كونيتين، حتى أصبحت رابع أضخم مؤسسة استثمارية أمريكية، بأصول تتجاوز 639 مليار دولار أمريكي، ودَين يعادل 619 مليارا، و25 ألف موظف على امتداد العالم. في أيلول (سبتمبر) 2008، انحنت المؤسسة العملاقة أمام الزلزال المالي الذي اجتاح المصارف الأمريكية، ثمّ العالمية في المراكز الرأسمالية الكبرى، فأشهرت إفلاسها؛ وكانت الواقعة مثال الإفلاس الأضخم في التاريخ الأمريكي.
فهل طوى التاريخ حكاية نجاح، ثمّ انهيار وإفلاس، «الأخوة ليمان»؟ كلا، على العكس، كما تقول آخر الأخبار عن احتفالات كبرى تقيمها المؤسسة في نيويورك ولندن، في شهر أيلول (سبتمبر) المقبل؛ ليس لقبول العزاء في ما انتهت إليه المؤسسة المالية العملاقة، بل للاحتفاء بذكرى مرور عشر سنوات على خروجها من الأزمة، ونهوضها من جديد، أكثر عافية و… شراسة! «إنه أمر مخزٍ»، يقول جون ماكدونيل وزير المالية في حكومة ظلّ حزب العمال البريطاني، وهو يستذكر الناس الذين فقدوا أشغالهم وبيوتهم ليسددوا أقساط الصيارفة أنفسهم الذين خلقوا الأزمة. «أية طريقة للاحتفال بالذكرى العاشرة أفضل من لمّ شمل موظفينا مجدداً؟»، يقول إيميل «الأخوة ليمان» في الدعوة إلى الحفل. وبين الخزي والابتهاج، ثمة تلك الوقائع الصلبة التي تشير إلى أنّ بيوتات المال والاستثمار والصيرفة لم تضع الأزمة خلفها فقط، بل هي لا تبدو البتة مكترثة بنُذُر أزمات أخرى مشابهة تلوح في أكثر من أفق واحد.
لاري إليوت، المحرر الاقتصادي في صحيفة الـ»غارديان» البريطانية، يلوم «التقدميين» في عدم استثمار واحدة من أخطر أزمات الرأسمالية المعاصرة؛ معتبراً أنّ قوى اليسار فاتها أن تلحظ جوهر زلزال أيلول 2008: أنه كان «نتيجة رفع كلّ القيود أمام الرأسمالية الاستثمارية العالمية التي وُضعت، لأسباب وجيهة خلال ثلاثينيات القرن الماضي. لكنّ الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فشلت على نحو بائس في الخروج بردّ تقدمي على أزمة كانت كفيلة بأن تنطوي على معالجة اختلال التوازن بين رأس المال والعمل. لقد تهيبوا حين توجّب أن يتحلوا بالشجاعة، ولذلك دفعوا أفدح الأثمان». ثمة وجهة نظر صائبة هنا، ليس لأنّ تلك الأحزاب كانت جديرة حقاً بريادة طليعية حاسمة في تلك الحقبة من عمر الرأسمالية المعاصرة، كما يرى إليوت (ولعلّ العكس هو الصحيح، في واقع الأمر)؛ بل أساساً لأنّ الأزمة كانت زلزالاً نوعياً، أقرب إلى نعي رأسمالية ما بعد نظريات «انتصار الغرب» و«نهاية التاريخ»…
مدهش، في هذا الصدد، أنّ النعي جاء يومها من أطراف غير منتظَرة، أو لا يُنتظر منها إلا التغنّي بتلك النظريات، ومباركة ظفر الفلسفة الرأسمالية على كلّ ما عداها. ففي ذروة اشتغال الزلزال، وبعيد أيام قليلة أعقبت إشهار إفلاس «الأخوة ليمان» وركوع عشرة مصارف أمريكية كبرى (بينها «بنك أوف أمريكا»، «سيتي بنك»، «جي بي مورغان»، «ميريل لينش») أمام الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، على نقيض واحدة من مداميك العقيدة الرأسمالية؛ طلع الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بهذه الإعلانات الصاعقة: «اقتصاد السوق وهم»، و«مبدأ ’دعه يعملLaissez faire انتهى»، و«السوق كليّة الجبروت، التي كانت دائماً على حقّ، انتهت أيضاً»، و«من الضروري إعادة بناء كامل النظام التمويلي والمالي من الأسفل إلى الأعلى، على غرار ما جرى في بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية». لم يكن ساركوزي يعلّق على الأزمة بصفته رئيس فرنسا فقط، بل كذلك من موقع ترؤس بلاده للاتحاد الأوروبي في تلك الدورة. كذلك فإنّ وجه الطرافة لم يقتصر على الخفّة في إصدار أحكام الإعدام ضدّ ركائز اقتصادية وفلسفية رأسمالية، كانت عزيزة على ساركوزي دائماً؛ بل في أنه هو، وليس أيّ مسؤول أوروبي اشتراكي ـ ديمقراطي آخر، أعلن دفن العجل الذهبي المقدّس: دعه يمرّ! دعه يعمل!
وفي الجانب الأهمّ من معادلات الزلزال، كان طريفاً أيضاً أن يحظى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بمباركة بيوتات المال الأمريكية الكبرى لأنه اتخذ الإجراءات التي تنتشل تلك البيوتات من أوحالها؛ رغم أنه رئيس ديمقراطي، يُحتسب في الصفّ الليبرالي، أو يسار الوسط كما يُقال. التضاد بين أوباما وسلفه فرنكلين روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي، بالغ الدلالة كما يرى إليوت: كلاهما وصل إلى البيت الأبيض في أزمنة يائسة، وكلاهما تمتع بانتداب شعبي لحلّ الازمة. لكنّ روزفلت اعتبر الإصلاح ضرورياً لإنقاذ الرأسمالية من ذاتها، عبر تعديل قوانين استثمار المصارف والأشغال العامة وتخفيف البطالة وتسهيل عمل النقابات؛ في حين أنّ أوباما، على شاكلة «اليسار» الذي ينتمي إليه، ظلّ تكنوقراطياً يحابي المؤسسة المالية والاستثمارية والصيرفية. ومع ذلك، يستحق أوباما فضيلة الشك من زاوية واحدة على الأقلّ: أطوار المآزق العظمى تتطلب فيلسوفاً يوفّر الإطار السياسي للفعل: آدم سميث ودافيد ريكاردو لأجيال ليبراليي السوق الحرّ، وكارل ماركس لأمثال لينين، وجون مينارد كينز لحقبة الكساد، وملتون فردمان وفردريش هايك في السبعينيات، و… لا أحد، عملياً، في أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين!
في صفّ «اليمين» الأمريكي، أو الجمهوريين، كانت مفردة «الثقة» هي الركيزة الكبرى، وربما الوحيدة، التي لاح أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن يتكئ عليها في تسويغ برامج التدخّل الحكومي الواسعة، التي هدفت إلى انتشال المصارف الأمريكية والبورصات والأسواق المالية من هوّة الكارثة. المفردات الأخرى غابت عن خطابه بالطبع، ولن نعثر عليها، خبيثة أو كسيحة أو سخيفة، إلا في خطابات أخرى لأمثال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي ردّ الأزمة إلى دول منظمة الـ «أوبك» وارتفاع أسعار النفط؛ أو هنري بولسون، وزير الخزانة الأمريكي يومذاك، في شراء أصول المؤسسات المنهارة بأكثر ممّا تقدّره لها السوق من أثمان؛ أو توماس ل. فريدمان، المعلّق الأمريكي الشهير، الذي سأل جلال الطالباني ونوري المالكي: لماذا يتوجب أن تدفع أمريكا مليار دولار يومياً من أجل صالح العراق، في وقت تبحث فيه الأمّة الأمريكية عن تريليون دولار لإنقاذ مصارفها المنهارة؟
الجوهر، مع ذلك، كان يشير إلى الحقائق الواضحة الصلبة، على غرار امتلاك 400 أمريكي لثروة تعادل ما يملك 150 مليون مواطن أمريكي؛ وأنّ ثقافة الإقراض والاستدانة باتت حكمة يومية، تبدأ من البطاقة البلاستيكة لسحب الأموال، ولا تنتهي عند رهونات منازل السكن. والجوهر، كذلك، أنّ التاريخ سجّل العديد من فترات الركود الرأسمالية الطاحنة، وكان اقتصاد السوق الحرّ في إنكلترا ذاتها (مهد ولادة هذا الاقتصاد، وميدان تطبيقه الأوّل) قد شهد آلام العيش اليوميّ في كنف سياسات مفقِرة وظالمة اجتماعياً، ابتداءً من اللورد بالمرستون وحتى تيريزا ماي، ليس دون استذكار مارغريت ثاتشر. وليس أقلّ جوهرية ذلك الزعم الطنان بأنّ الزمن الراهن سوف يكون أوّل قرون الرأسمالية الصافية الصرفة؛ بالنظر إلى أنّ القرن العشرين خالطته «شوائب» مثل الشيوعية والنازية والفاشية والأصولية!
وآخر ما هو جوهري، ببساطة المأساة، أنّ «الأخوة ليمان» يحتفلون بعقد على انقضاء الزلزال، ولا عزاء للضحايا في أربع رياح الأرض، ولا الخرائب والأطلال في قلب «وول ستريت»!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس