صبحي حديدي
الرقم، في ذاته أولاً، مذهل ومتعدد الدلالات: على امتداد 100 عام من حياة مصر السياسية، أي خلال القرن العشرين بأسره، بما شهده من استعمارات وانتدابات واحتلالات وأزمات وطنية وثورات وحروب… صدر في مصر 1429 حكماً بالإعدام؛ وأما في الفترة بين تموز (يوليو) 2013 وحتى الآن (أي عهد عبد الفتاح السيسي)، فإنّ المحاكم المصرية أصدرت 1480 قراراً بالإحالة إلى المفتي (وهذا يعني الإعدام، كما هو معروف في تقاليد القضاء المصري)، في 44 قضية، تضمنت 791 حكماً بالإعدام!
وإذا كانت هذه الخلاصة الرهيبة، التي تعرضها «التنسيقية المصرية للحقوق والحريات»، تشير إلى حال الاستسهال الفظيعة، التي باتت المحاكم المصرية تنزلق إليها بصدد عقوبة الإعدام؛ فإنها، من جانب آخر توفّر سلسلة من الأدلة الدامغة على سياسة متكاملة أقرّها النظام، وأخذ ينوّع طرائق تطبيقها، في تسخير القضاء الجنائي، أو القضاء العسكري، بغية تصفية الخصوم السياسيين، وترويض المعارضة على اختلاف تياراتها ومستويات عملها.
و»التنسيقية المصرية» تعتبر هذه السياسة «انتهاكاً خطيراً للحقّ الأول والأصيل للإنسان، وهو الحقّ في الحياة، ويعيد البلاد عصوراً إلى الوراء حيث يتمّ التغوّل بمنتهى الوضوح على العمل القضائي، ويتمّ إلباس التصفية السياسية ثوب القانون والعدالة المزيفة». وإذْ تطالب المنظمة بـ«إبعاد القضاء عن تأثيرات العملية السياسية، وتفعيل دور القضاء والنيابات في تطبيق القانون وتحري العدالة، لا في إنفاذ وتمرير مآرب السلطات السياسية»؛ فإنها تشدد على ضرورة تخليص المحاكم من تأثيرات السلطات التنفيذية، خاصة وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، التي اعتادت تلفيق الاتهامات، وأخذ الاعترافات من المتهمين نتيجة التعذيب أو الإخفاء القسري.
وفي تقريره عن العام 2014، كان «التحالف الدولي ضدّ عقوبة الإعدام»، الذي اعتاد إحياء يوم عالمي لمناهضة هذه العقوبة؛ قد أوضح أنّ نيجيريا وحدها سبقت مصر في إصدار أحكام الإعدام (659، مقابل 509). ولكنّ الجانب الآخر في المأساة كان تكتيك الدفاع الذي اعتمدته أجهزة النظام، حين صنّفت مثل هذه التقارير، التي تصدرها منظمات دولية مستقلة، في باب «التدخل الخارجي الوقح» في شؤون القضاء المصري، «المستقلّ» و«النزيه» و«السيادي»!
والحال أنّ هذا القضاء قد يكون، بالفعل، مستقلاً ونزيهاً ومحايداً في حالات استثنائية؛ كأنْ يبطل أحكام الإعدام خلال الاستئناف أو النقض (كما في مثال حكم الإعدام بحقّ محمد مرسي، المنقلب من رئيس منتخب شرعياً، إلى ضحية للانقلاب العسكري الذي قاده السيسي)؛ أو أن يذهب إلى درجة تحدّي قرارات الحكومة، في القضاء الإداري (والمثال الأبرز هو تثبيت مصرية جزيرتَيْ تيران وصنافير، ورفض طعن الحكومة). وقد يحدث، في المقابل، أن تنقلب صفات الاستقلال والنزاهة والسيادية إلى مزيج من المأساة والمهزلة، كما في تبرئة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك من تهمة التورط في قتل متظاهرين خلال انتفاضة 2011؛ أو تبرئة الغالبية الساحقة من رجالات العهد البائد، سواء بصدد انتهاك القوانين، أو الفساد والإثراء غير المشروع.
ويبقى أنّ بعض المسؤولية في انحطاط القضاء، وتردّي أوضاع حقوق الإنسان والمواطنة في مصر عموماً، إنما يقع على عاتق معظم فئات المعارضة المصرية لنظام مبارك؛ التي تلهفت على الاستجارة من رمضاء الإخوان المسلمين، وأخطاء مرسي الكثيرة، بنار الانقلاب العسكري، وإعادة إنتاج سلطة العسكر. ولعلّ ذروة المفارقة أنّ ذلك الانقلاب لم يبدأ من تصفية خصومه وحدهم، بل استكمل سيرورة تثبيت أركانه عن طريق التهام الأنصار السابقين أيضاً!
وليس تفصيلاً عابراً أن يكون القضاء المصري خلال ثلاث سنوات من حكم السيسي، قد تفوق في إصدار أحكام الإعدام على القضاء ذاته خلال 100 سنة من عمر مصر الحديثة، والمعاصرة؛ مع فارق إضافي، رهيب بدوره: أنّ القادم قد يكون أعظم، وأشدّ هولاً!