صبحي حديدي
نقرأ الشاعر السوري نزيه أبو عفش: «هم الذين ذبحوه/ بعد أنْ ذبحوه وأَشبعوه عذاباً وذبحاً/ هم أنفسهم، بعد عهودٍ وعهودٍ من ذبحه ونسيان سيرته/ هم أنفسهم (وفيما هم جالسون ليستريحوا ويتنعموا بملذات الذكرى)/ عنّت على بالهم صورتُه فأصيبوا بالحزن/ حزنوا عليه كثيراً وكثيراً…/ بحيث لم يستطيعوا منعَ أنفسهم من التساؤل:/ أحقاً؟… أحقاً أنّ ذلك المسكين الذين ذبحناه/ يمكن أنْ يكون قد صار ميتاً؟.. ميتاً إلى هذه الدرجة؟!…/ حقاً سألوا/ وحقاً: كانوا صادقين».
وأبو عفش صاحب سلسلة مواقف شهيرة، محابية للنظام السوري، أو ساكتة عن جرائمه، أو مؤيدة لشركائه في الإجرام؛ من طراز التباكي على انسحاب جيش النظام السوري من لبنان، سنة 2005؛ و»البيت كلّه يوشك أن يتهدَّم فوق رؤوس ساكنيه، وأنتم تختصمون على منْ يحق له أن يحمل المفاتيح»؛ و«العبد المقتول يتحوّل إلى عبد قاتل»؛ و»أجمل قصيدة… مسامحة القتلة مسؤولية الله أما إرسالهم إلى الله… فتلك مسؤوليتي. فلاديمير بوتين أبو عفش»… لهذا فإنّ قصيدته المقتبسة أعلاه، التي نُشرت قبل أيام في «الأخبار» اللبنانية، يصعب أن تُقرأ خارج سياقات حلب (وليس تدمر، كما للمرء أن يرجح!)؛ أو بعيداً عن تورطه القديم/ المتجدد في التعاطف مع النظام.
ثمّ نخرج من سوريا إلى فلسطين، ونقرأ للشاعر الفلسطيني زكريا محمد هذا التعليق: إللي بيسمع بعض الناس عندنا بيفكر إنه النظام السوري بيحارب أتباع تشي غيفارا وأحفاد كارل ماركس والجمهوريين الإسبان في حلب. لا يا حبيبي هو بيحارب قطاعين الرؤوس وراجمين النساء وقتالين الناس على الهوية، أصحاب أسامة بن لادن، وعباد أردوغان الديكتاتور، الممولين من قاطعي الرؤوس الوهابيين في الرياض». هل هنالك فرصة، ضئيلة ضئيلة ضئيلة، أن تكون براميل الأسد تقتل السوريين أيضاً، في عرف شاعرنا الفلسطيني، ابن النكبة، وسليل قتلى آل الأسد في تل الزعتر واليرموك، وضحية العنصرية الإسرائيلية؟ كلا، بالطبع، العين عمياء أو مغلقة بطين، والعقل كتيم أو مسدود بقطران، ما دام غيفارا ليس في حلب تحت البراميل، ولا ماركس في الغوطة تحت القصف الكيميائي…
وإذا صحّ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية تكفلت بإسقاط مقولات عديدة لاح، في عقود مضت، أنها راسخة مكينة في التفكير الغربي عن مجتمعاتنا؛ فإنها، أيضاً، أرسلت إلى العراء المكشوف، وإلى ميادين التعرية الأقرب إلى التفضيح، سلسلة سلوكيات اقترنت على الدوام بطبائع شرائح متنوعة من المثقفين العرب. ولقد رأينا مَنْ كانوا في صفّ المطبّلين للمستبدّ، اللاهجين بفضائله، المسبّحين بحمده… ينقلبون، في التوقيت الدقيق القاتل، إلى منتفضين عليه، منقلبين ضدّه، لاهجين بفضل الديمقراطية، مسبّحين بحمد «الثورة»! طريف، مع ذلك، أن يتابع المرء حفلات تبديل الجلد، قبيل المنعطفات الحاسمة التي تقتضي تبديل الولاءات سريعاً، أو خلال الزمن الفاصل بين ولاء وآخر، أو بعد هذا وذاك بقليل!
وثمة، هنا، «خيانة» من طراز خاصّ فريد، لأنّ المثقف الخائن (أو «الخوّان»، في التعبير البدوي الجميل)،
يحسن استخدام الكثير من الأقنعة، فيرتدي هذا أو يخلع ذاك أو يسدل قناعاً على قناع، بحيث تبدو الخيانات محض تنويعات لـ»صحوة ضمير» هنا، أو «مراجعة للذات» هناك؛ ليس دون صخب وضجيج حول التمرد والانشقاق والانسلاخ. هذه حال هي نقيض الخيانة التي امتدحها جوليان بيندا، حين ألحق الخزي والعار بكلّ مثقف لا يجازف بحياته (على المحرقة، أو الصليب، أو المقصلة!)، دفاعاً عن الحقيقة. ولا صلة تجمعها، البتة، بـ»الخيانة شبه القسرية» التي اعتبر ميشيل فوكو أنّ المثقف يمارسها، وهو يرابط وسط شبكة معقدة من السلطات والأنظمة والخطابات والقوى.
إنها، في المثال العربي تحديداً، «شطارة» التخفي أثناء الاصطفاف على هامش قطبَيْ العزلة والانحياز، بدل انتزاع موقف نقدي جدير بمثقف لا يليق به أن يكون واحداً من اثنين: صانع إجماع محايد، أو تاجر كليشيهات وحقائق مسبقة الصنع، على حدّ تعبير إدوارد سعيد.
وأن يذرف الدموع مدرارة على ذبيح تناهشته السكاكين، متعمداً الهرب من توصيف الذابح الأوّل والأكبر (كما يفعل أبو عفــــش)؛ أو أن يُخلي حلب من النساء والأطفال والشيوخ والعزّل، فلا يُبقي فيها إلا قاطعي الرؤوس (كما يفعل محمد)؛ فإنّ ذلك «المثقف» ينقلب إلى محض «عطّار»، أو محض «قفّة»، أو محض بائع متجوّل يعرض كلّ ما هبّ ودبّ من بضائع؛ فيبيع أرباع الحقائق لهذه السلطة، أو أنصاف الحقائق لتلك السلطة الأخرى، النقيضة أو الحليفة، سيّان.
وليس عجيباً، والحال هذه، أن تهبط قصيدة ذلك العطار/ القفّة/ البائع المتجوّل، إلى سوط يستخدمه جلاد أثناء وصلة تعذيب، أو حذاء يرتديه قناص يتربص بامرأة حامل، أو حتى… حشوة عطنة ضمن مكوّنات برميل ناسف!
“القدس العربي”