الياس خوري
تبدو سوريا استثناء في خريطة الربيع العربي بعد أفوله. فالنظام السوري نجح في الانتقام لمعمر القذافي والسخرية من سلمية الثورة التونسية والوصول إلى التوريث الذي فشل المستبد المصري في الوصول اليه. فسورية في خرابها هي تلخيص للخراب العربي العام. رئيسها ملك مستبد كملوك النفظ ولكن من دون ثروة نفطية، أرضها سائبة كالأرض العربية التي تحتلها القواعد العسكرية، دمارها يشبه الدمار الليبي ولكن في إطار مؤدلج صنعته لغة الممانعة وتباع أجزاء من أرضها مثلما بيعت تيران وصنافير والى آخره…
كل هذا يجري والسيد الرئيس في موقعه ومكانه. هناك الكثير من الكلام عن مواقف روسية غير راضية عن أدائه أو بقائه، لكن لا شيء ملموسا. الأسد يحلم بالبقاء في السلطة من أجل توريثها إلى ابنه. فالرجل نجح في امتحان الجريمة، فهو لم يتفوق على والده فقط، بل تفوق على جميع أقرانه من المستبدين العرب والأعاجم. فلقد قتل عدداً يتجاوز بمئات المرات العدد الذي قتله والده في حماه عام 1982. وإذا كان مؤسس السلالة الأسدية قد دمّر مدينة سورية واحدة، فالابن دمر كل المدن تقريباً، ولا يزال يتحفز لتدمير دمشق إذا ما شعر بضرورة ذلك.
بالمقاييس التي أرساها حكم الحركة التصحيحية، وضمن تقاليد البعثين العراقي والسوري، فإن طبيب العيون يستحق اليوم لا أن يرث فقط بل أن يورث أيضاً. فتعريف السلطة في علم السياسة البعثي هو التسلط، والقدرة الكلية على تحويل الناس إلى قطيع من الماشية يقاد إلى المسلخ. الدولة، في هذا التراث، هي غنيمة، ويحق للغانم أن يتصرف بالمغنوم كما يشاء، ووفقاً لأهوائه ورغباته.
لا يلام الأسد الصغير إذا تبنى هذه المفاهيم، فالطبيب الذي كان يتابع تخصصه في بريطانيا، نشأ في دولة المرايا، كل شيء كان مرآة للسيد الرئيس الذي ملأت صوره وتماثيله الأمكنة كلها. وحين وصلت إليه السلطة بعد وفاة شقيقه الكبير، لم يجد أمامه سوى صوره وقد التصقت بصور والده وشقيقه. رأى نفسه فجأة كما لم يرها من قبل، ولم يعد قادراً على التمييز بينه وبين صورته، فتماهى بالصورة. بدل أن تكون الصورة انعكاسه، صار هو انعاكسها، ولم يعد أمامه من خيار سوى تقليد الصورة والتحول إلى مرآتها.
عالم المرايا الاستبدادي هو لعبة تحويل الفرد إلى مرآة لصورته، فالسيد الرئيس ابن السيد الرئيس، لم يقم سوى بالعمل الذي فرضه تناسخ صورته أمامه. رأى نفسه رئيساً يفترض به أن يبطش بخصومه، هذا ما توقعه الجميع منه، فذهب إلى الجريمة مبتسماً، ومع تناسل جرائمه، صار مبهوراً بقدراته الهائلة. يقتل من يشاء، ويدوس على الناس كما يشاء، حتى المقربين منه، قتل بعضهم ومثّل ببعضهم الآخر، بحيث صار التخويف هو لغته التي تختبىء خلف لغته. وحين بدأ الوهن يضرب آلته السلطوية أمام ثورة شعبية عارمة، لجأ إلى كل الألاعيب التي تعلمها من والده. استعان بأعدائه الأصوليين الذين أطلقهم من السجون، ثم حين أعيته الحيلة لم يتوقف أمام اعتبارات السيادة الوطنية ولو للحظة، فاستنجد بالميليشيات الايرانية وبالحرس الثوري وحزب الله، وحين شعر أنه لا بد مما ليس منه بد، سلّم البلاد إلى الوصاية العسكرية الروسية، وجلس على شرفة قصره يتفرج على الخراب.
لم يكن الرجل معنياً بدخول التاريخ بصفته أكبر سفاح في تاريخ المنطقة، همه الوحيد كان البقاء في السلطة. ومن أجل هذا الهدف لم يمانع في دخول التاريخ كسفّاح، وعندما دخل إلى هذه المنطقة التاريخية شعر بمتعة شديدة. سوف يروي، إذا روى، أو إذا استوحى كاتب من سيرته حكاية تُروى، أن المتعة الكبرى هي القتل والتدمير. وأن صحبته لهتلر وشارون وتشاوشيسكو وكيم ايل سونغ وهولاكو وتيمورلنك، متعة لا يساويها سوى متعة وجوده رئيساً بصحبة بوتين وترامب وأضرابهما. سوف يتباهى على أقرانه الموتى والأحياء بأنه، ومن دون أن يخطط لذلك، صار علامة بداية الألفية الثالثة. نعم أنا العلامة سوف يقول، لأنه جعل الناس ينسون البلقنة والقبرصة واللبننة، ويتحدثون فقط عن السورنة. سوف يقول للسوريات والسوريين الذين شردهم، أنه جعل الاسم السوري على كل لسان في العالم، وانه أسس لزمن جديد من الهجرات الجماعية سوف يرتبط باسمه إلى الأبد، وانه باق في منصبه حتى لو لم يبق في سوريا أحد.
عندما روت مسرحية الرحابنة «هالة والملك»، ان اللاشيء أكبر من الملك، لم تكن تدري أنها تلامس جوهر العقل الاستبدادي، الذي يسعى إلى فرض الخراب وحكم اللاشيء، اذا كان لا بد من ذلك.
يستطيع الأسد الصغير أن يحلم بالبقاء في السلطة، انه على استعداد أن يطيع أوامر القيصر الروسي أو الولي الايراني، لكنه لم ولن يبدي استعداداً للتنازل أمام الشعب السوري.
الشعب السوري يستحق العقاب، لأنه حين قام بتدمير تماثيل الأب وتمزيق صور الابن، كان يدمر مرايا الرئيس. والرئيس الذي صار مرآة لمرآته شعر بالألم وهو يرى مراياه تتحطم.
لا تستطيع المرآة أن تغفر لمن قام بتكسيرها، فحين يسقط الخوف من صورة السلطة تسقط السلطة أيضاً.
الرئيس الذي شعر بالضياع حين بدأت مراياه تتكسر قرر وبشكل تلقائي نصب مرايا جديدة لذاته. ولم يكن أمامه سوى سفك الدماء. الدماء تصير مرايا السلطة المهددة بالتداعي، هكذا قرر الرئيس وحاشيته، وعندما أعياه سفك الدماء استعان بالآخرين، فجاءت الميليشيات والطائرات وغطت البلاد دماء الضحايا. وعندما صارت سوريا بركاً من الدم ورأى الرئيس صورته منعكسة على المرايا الجديدة الحمراء وجد نفسه من جديد.
عندما انهارت المرايا شعر الرئيس بالضياع، وأحس ان وجوده مهدد بالغياب، ولم يستعد رشده إلا حين ملأ بلاده بمرايا الدم، رأى وجهه الجديد فشعر أنه عاد رئيساً، وبدأ يحلم من جديد بحكم البلاد إلى الأبد.
لكن الرئيــــس المشغــــــوف باستعادة صورته لم ينتـــــبه إلى أن الدم يخبئ أنين أرواح الموتى، وأن العـــــودة إلى ما كــــان مستحيلة، وأن ما يعتقد أنه صورته هو صورة ضحاياه.