“ميليشيا الإلحاد” عنوان كتاب يتحدث عن ظاهرة الإلحاد التي تفشت في الغرب وصار لها رموزها من علماء وأساتذة جامعات وكتاب وفنانين وساسة، وقد قضى رموز هذه الظاهرة على كل إمكانية للمساومة مع أصحاب الفكر الديني، وحسموا أمرهم بإلقاء الدين في متحف المنسيات.
وصرت ترى حديثاً صريحاً عن وهم الإله، وعن خرافة البعث والحساب، وعن غباء من يؤمن بخالق، وعن الصلة السببية بين الدين والشر
ليس الإلحاد ظاهرة جديدة، ولا ظهور من يجاهر به مستغرباً، ولكنه استحال مع هذه الظاهرة إلى مطلب سياسي اجتماعي مرتبط بأحداث، وليس مرتبطاً بقطيعة معرفية كما كان حاله قبل عقود عندما أعقب الثورة العلمية إحلال المعرفة العلمية النسبية محل اليقين الديني.
وعندما احتاجت البرجوازية إلى منظومة مغايرة لمنظومة خصمها الطبقة الإقطاعية التي طالما تلطت خلف ثنائيتي الخير والشر والحق والباطل المستمدتين من المنظومة الدينية الغيبية في المسيحية.
وترتبط الظاهرة الجديدة باستعلاء واضح يعبر عنه رموزها في خطابهم وتعاملهم ليس مع المؤمن فحسب، وإنما مع اللا أدري كذلك الذي لم يحسم موقفه بصورة نهائية تجاه الدين ومقولاته.
ما أردنا أن نمهد له من هذه المقدمة أنّ أحد أسباب الدفع بظاهرة الإلحاد إلى حدود قصوى في الغرب هو أفعال الإرهاب التي ارتكبها متطرفون دينيون من أديان مختلفة ومنهم المتطرفون الإسلاميون، وهذا ليس استنتاجاً وإنما هو ما يصرح به .رموز الإلحاد المذكورون
ولأنّ الطبيعي أن يولد الحب شعوراً إيجابياً وأن ويولد البغض ما يشبهه كذلك، فإنّ سلوك المتطرفين يقوم على ما هو أكثر من المشاعر السلبية تجاه الآخر فيدفع إلى ما هو أكثر من البغض.
فأن تلحد في التراث الإسلامي لا يعني أن تنكر وجود إله، ولكنه يشمل كذلك أن تنكر النبوات من دون أن تجحد وجود خالق، وأن تجسم الإله، وأن تقول بالحلول والاتحاد، وغير ذلك من صور الميل عن المعتقد السائد.
وإذا كان التجسيم في التراث يعبر عن اعتقاد بوجود أعضاء للخالق المنزه، فإنه من قبيل التجسيم كذلك أن تختزل هذا الكائن المتسامي في مشروع الدولة، وأن تفقر هذا المفهوم وتحرمه من التفاعل الجدلي مع معطيات الواقع.
إنّ الالتجاء إلى الكائن المتعالي للاحتماء به من واقع متغير بسرعة لا تقوى مفاهيمك على الإمساك بأحداثه المتسارعة لأنك متقوقع داخل مفهوم للزمان ومفهوم للمكان مطلقين في عالم تحكمه المفاهيم النسبية، هو نكوص جبان خوفاً على هوية لم يتمكن حاملها من فتحها على آفاق إنسانية مواكبة، وجعلها قادرة على التحول الديناميكي.
أما قصر مفهوم الإله على مشروع سياسيّ، فهو تجسيم أخطر من التجسيم الذي يجعل الله عز وجل جسماً ذا أعضاء مشابهة لأعضاء المخلوق.
ولذلك فهو لا يبعد عن كونه شكلاً من أشكال الإلحاد خصوصاً وأنه -وهو بصدد تحققه مشروعاً سياسياً- يستمرئ الذبح والتعذيب وكل ما يناقض رحمة هذا الإله المتسامي وعدله.
إنّ ميليشيا الإلحاد التي كان من أسباب نشوئها في الغرب عنف المتطرفين يحاكيها في عالمنا العربي ميليشيا إلحاد علمانية متطرفة لا تزال تجتر مقولات ماركسية أكل عليها الدهر وشرب، واهمة أنها عثرت عبر المعرفة العلمية على مايؤيد يقينها وهي يقينية لا محل لها في عالم المعرفة النسبية، ولكن ما يميزها عن ميليشيا الإلحاد في الغرب أنها لا تفصح عن نفسها بشجاعة وقد ذهب أكثر أفرادها في الفترات القريبة الماضية إلى انتهاج منهج المجاملة لأصحاب الفكر الديني في تكلف وتصنع واضحين.
قد يختلف الملحد الصريح عن الملحد الذي يعتدي على مفهوم الله ويختزله في مشروع خاص به، ولكن اختلافهما في النوع لا في الجنس، وما يجمع بينهما من حيث المآل أنهما يساهمان في حرف بوصلة المجتمع، وقطع جسور التواصل مع واقعهما، وتنفير العموم من خطابيهما.
ميليشيات الإلحاد موجودة بين ظهرانينيا، وإن اختلفت تجلياتها في يسار متكلس أو في مشروع طائفي أو في مشروع جهادي، ويحمل راياتها موتورون لا يدركون أنّ الله عز وجل أكبر من أن تلغيه من وجدان الناس رغبة نخبوي موهوم مستلب، و أكبر من أن يختزل فيمشاريع مشتقة من تأويلات بشرية قاصرة للنصوص لقابعين خارج التاريخ، وأكبر من أن يستخدم استخداماً بشعاً لخدمة مشروع طائفي قومي عنصري.
إنّ الظروف الموضوعية- بحسب إحدى فرضيات علم اجتماع المعرفة- حوض مائي يفتح مساراتٍ لممكنات ويغلقها أمام ممكنات أخرى، وإذا كان قد فتح مسارات لممكنات كالتي ذكرنا، فإن واجبنا أن نفتح مساراتٍ لممكنات مغايرة تنسج علاقة جدلية بين مفهوم الله وبين الواقع تنسجم مع قيم الرحمة والحب والتعارف بين البشر، وإلا فإنّ ميليشيات الإلحاد -على اختلاف أنواعها- سوف تدفع بنا إلى الانقراض، وقد حدث مثل ذلك في التاريخ.
رئيس التحرير