“الحياة تبدلت جذرياً بالنسبة إلى دونالد ترامب. قد لا يدرك ذلك الآن، لكنه سيفعل قريباً. بهزيمته في مجلس الممثلين، أنهى الديمقراطيون سنتين من رفض الحزب الجمهوري ممارسة أي إشراف ذي معنى على إدارته”؛ يكتب ريشارد وولف في صحيفة الـ”غارديان” البريطانية، متحمساً أكثر مما توحي به الحال، أغلب الظنّ.
صحيح، في المقابل، أنّ سلسلة من المؤشرات، التي أسفرت عنها انتخابات الكونغرس النصفية، إنما تذهب بالفعل في مسار تقييد ترامب، كما تنذر بمستقبل عاصف في العلاقة مع مجلس النواب خلال السنتين المقبلتين. ولكنّ الصحيح الآخر، الموازي، هو أنه أحكم قبضته على نحو أشدّ في مجلس الشيوخ، من خلال أغلبية جمهورية باتت رهينة له أكثر فأكثر؛ خاصة بعد انخراطه مباشرة في الحملات الانتخابية للمرشحين، وتعبئة الشرائح الشعبية التي تناصره، ظالماً أو مظلوماً، في خدمة عدد من أفيال مرشحي الحزب.
صحيح، ثالثاً، أنّ هذه الإدارة لا تبدي كبير اكتراث بالكونغرس حين لا يتصل الأمر بحيثيات دستورية تفترض تقييد صلاحيات الرئيس، وهذه باتت جدّ قليلة، أو حتى نادرة، يوماً بعد آخر. على سبيل المثال، ما حاجة ترامب إلى تشريع من الكونغرس، يجبره على محاباة هذا أو ذاك من الأعضاء الجمهوريين، في مشروعه لإلغاء حق الجنسية بالولادة؛ ما دام مقتنعاً بأنه يستطيع تمرير هذا التغيير الجذري ــ الذي يمسّ، مع ذلك، التعديل الرابع عشر مباشرة ــ عن طريق الأوامر التنفيذية الرئاسية؟ وما حاجته إلى الكونغرس، كي يصدر الأوامر إلى الجيش الأمريكي لممارسة مهامّ الأمن الداخلي على الحدود مع المكسيك، رغم أنّ القانون يحظر هذا على القوات المسلحة؟
ثمة، مع ذلك، تلك المؤشرات السوسيولوجية التي أفرزتها انتخابات الكونغرس الأخيرة، والتي لا يصحّ التغاضي عن آثارها الراهنة، وكذلك المستقبلية، في تقليص نفوذ ترامب، وكذلك تعديل حظوظه في الانتخابات الرئاسية للعام 2020. المؤشر الأوّل هو تبدّل أهواء النساء البيض، اللواتي شكلن واحداً من العناصر الأبرز في انتخابه؛ إذْ كان قد حقق تقدماً بتسع نقاط في أوساطهن، وأمام خصم حدث أنه أوّل امرأة تنافس على البيت الأبيض في تاريخ الولايات المتحدة. وضمن هذا المعطى الديمغرافي، يُشار أيضاً إلى أنّ الكونغرس سوف يشهد دخول 47 ديمقراطياً جديداً، بينهم 28 امرأة (اثنتان من أصل فلسطيني وصومالي)؛ مقابل 33 جمهورياً جديداً، بينهم 3 نساء فقط. كذلك يقول مؤشر آخر إنّ أبرز ناخبي الجمهوريين اليوم هم البيض، المتقاعدين غالباً، وفي سنّ 65 وما فوق؛ وهذا لا يدلّ على شيخوخة الحزب وجمهوره فحسب، بل يشير كذلك إلى انحسار واضح في التعددية الأجيالية التي كانت أحد عناصر نجاح ترامب.
ذلك لا ينتقص من أهمية مؤشر آخر، تجلي كذلك في الانتخابات الرئاسية التي أرسلت ترامب إلى البيت الأبيض؛ أي العلاقة، غير المترابطة، بين التصويت الشعبي والتصويت الانتخابي الفعلي. فلقد بيّنت الانتخابات النصفية تفوّق الديمقراطيين بنسبة 12,5% في التصويت الشعبي، ومع ذلك فقد خسروا أربعة مقاعد في انتخابات مجلس الشيوخ؛ وهذا يعيد المسألة إلى ثنائية تناقض مستعصية، صاغها المعلق الأمريكي جيفري سانت كلير هكذا: سياسة أمريكا ما بعد حداثية، قائمة مع ذلك على نظام سياسي ما قبل حداثي!
ولعلّ خير الأدلة على هذه الحال العالقة أنّ في مطالع قرارات ترامب بعد الانتخابات النصفية أنه أطاح بوزير العدل جيف سيشنز، الذي أصرّ على النأي بنفسه عن تحقيقات روبرت موللر حول تدخل روسي مزعوم في الانتخابات الرئاسية؛ وعيّن مكانه كبير موظفي البيت الأبيض، ماثيو وايتكر، الذي يؤمن بأنّ القضاء يتوجب أن يقع في منزلة أخفض بالمقارنة مع الحكومة!
فهل، حقاً، تبدلت الحياة عند ترامب… قبل حداثة الانتخابات النصفية، أو بعدها؟