بينما مرّ مفهوم الذات البشرية في الغرب بأطوار مختلفة إلى أن وصل إلى أكثرها نضجاً على يد المفكر الليبرالي المعاصر جون راولز، ظلّ شغلنا الشاغل في العالم العربي والإسلامي هو سبر مفهوم الذات الإلهية وصفاتها، وهل الأخيرة عين الذات أم مغايرة لها.
والمفارقة بيننا وبين الغربيين أنهم اشتغلوا على تطوير المفهوم في تفاعل جدليّ مع الواقع لكي يتمكّنوا من جعله متخفّفاً من حمولاته الإيديولوجية وقادراً على التناسج مع الحاجات الملحة لبناء مجتمعات حرة محكومة بالقانون وذوات حرة تتحرك باتجاه غايات تحددها وتختارها بمحض إرادتها وليست غايات محددة سلفا بإرادة ميتافيزيقية تنحصر مهمة الذات في اكتشافها.
بينما ظلّت الذات البشرية لدينا مهملة لأنها مملوكة مع ما تحوزه لله، ولا مهمة نضطلع بها إلا حراستها مع ما تحوزه باتّباع تعاليم محددة من سلطة عليا.
بدأت سيرورة مفهوم الذات في الغرب مقيدة بدور مفروض عليها منذ الولادة إلى الممات في القرون الوسطى، متحركة في إطار واطئ السقف ترسمه ظروف البنية الأرستقراطية لمجتمعات تلك القرون وقد ألفت نفسها منذ الخروج إلى الحياة محاطة به، ثم تطورت مع اقتصاد السوق وزوال تلك البنية القروسطية إلى ذات ليبرالية تتوخّى منحها فرصا متساوية مع نظيراتها، وهو ما شابه قصور تمثل في إغفال عجز بعض الذوات عن اهتبال هذه الفرص بسبب ظروف متشابكة بحكم السياق الاجتماعي، وهو ما التقطه راولز فاقترح أن تكون الفرص المتساوية الممنوحة مراعية ظروف الذوات الأقلّ حظاً وفق معاملة تفضيلية تحقّق هذه المراعاة.
هذه الذات الحرة التي يتغلب بعدها الإرادوي على بعدها المعرفي بمعنى أنها –كما ذكرنا- تملك حيازاتها وتحدّد بمحض إرادتها ما تصبو إليه هي التي تمكنت من صنع أنظمة ديمقراطية ينعم المواطنون فيها بالاستقلالية والمساواة والحرية.
لسنا ملزمين بالطبع بانتهاج الطريق نفسه الذي سلكه غيرنا، ولكن ما نحن ملزمون به أن نمتلك ذواتنا بعد أن نهبط بانشغالنا من السماء إلى الأرض، وأن نحرّرها من أغلالها، وأن ندرك أن تفريدها سابق على كثرتها بسبب تعدد الذوات، وخصوصاً في ظل انبعاث الهويات الذي فرض انبثاق ظاهرة التعددية الثقافية.
إن انتفاضتنا الكبرى ضد الاستبداد خطوة أولى يمكن أن تكون بداية الطريق الطويل والشاق لتحقيق ذواتنا الحرة التي تحتاج إلى شغل نظري وعملي لتخليصها من العوارض الاجتماعية التي تنوء تحت ثقلها، وهو ما يفرض مواجهة حتميّة مع الاستبداد الديني الذي يريد أن يبقيها مثقلة بأحمالها، محرومة من استقلاليتها، مقيدة بغايات محددة سلفاً، ويلغي بعدها الإرادوي لحساب بعدها المعرفي.
لم يكن انحراف الثورة عن مسارها وهيمنة المتطرفين عليها مسبّباً عن ظروف سياسية صرفة، وإنما كان من بين أسبابه أننا لم نستردّ ذواتنا التي سلبها منا الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، وهما لا يزالان يعكفان على حرماننا من امتلاكها، لأن امتلاكنا لها كفيل بدحرهما.
لا تمثّل الذات الإلهية عائقاً أمام حريتنا واستقلاليتنا، ولكنها تكون كذلك إذا بقينا نجترّ سجالات قديمة حولها لم تأمرنا هي أن تكون بؤرة تركيزنا.
المعركة مع الاستبداد الديني ليست أقلّ خطراً من المعركة مع الاستبداد السياسي، وهي تتطلّب عدّة مغايرة تتمكن من اقتلاع جذوره الراسخة في الأرض، وهي معركة تباركها الذات الإلهية التي لا ترضى بحرماننا من استقلاليتنا وكرامتنا وحريتنا.
رئيس التحرير