حازم الامين
لا نملك رواية صلبة ومتماسكة عن الإرهاب والعنف اللذين تجري وقائعهما في رحاب عيشنا وإقامتنا. حادثة مقهى الكوستا في شارع الحمرا ببيروت كشفت انعدام ثقة هائل بين كل مكونات الهدف الذي كاد يُفجره «الإرهاب». لم يثق أحد بالرواية الرسمية، على رغم أن عناصر صلبة تضمنتها الرواية. هناك منفذ له اسم ووجه وحكاية، ألقي القبض عليه. وهناك شهود عاينوا حزامه الناسف، وأهل له قالوا إن له ماضياً وتجربة. لكن الشكوك ساورت الجميع، والأسئلة طاولت كل شيء، وكلها بدا محقاً ومستنداً إلى تفسيره الشكاك بما لابس الرواية من ركاكة.
ثم أن الشكوك لا تتصل بوقائع محاولة التفجير وإفشالها، إنما بما قبلها وبعدها. فالتنسيق بين جهازي الأمن المشتَرِكين بمراقبة الإرهابي مدار شك، وتركه إلى حين الوصول إلى هدفه أيضاً دارت حوله تساؤلات. ويبدو أن وعياً «لبنانياً» ما زال يعتقد أنه في منأى عن الإرهاب هو الذي راح يحضّ الشكوك. وهو الوعي نفسه الذي يرى أن الإرهاب كائن غريب يأتينا من خارج الحدود، ولكي نفسره علينا العودة إلى مصادره في الخارج.
والحال أننا جميعاً نملك وعي «الإرهابي» وجميعنا عرضة لاحتمالاته، ذاك أننا جزء من فشله المديد والمتوارث، وهذا ما يرشحنا للارتياب بكل شيء. فالإرهابي قدِم إلى شارع الحمرا من أوهام لطالما ساورتنا، وهو كان بصدد الانتقام لنا من أنفسنا. كان سيقتلنا لأننا أيضاً ضحايا أعدائه، ولأننا امتداد لفاجعة أصابته ببطء منذ ولادته. وما فشله في تنفيذ مهمته إلا دليل آخر على أن الرجل يشبهنا.
فلنُعِد شريط الصور منذ الإصابة الأولى لعمر العاصي عندما كان مقاتلاً في مجموعة أحمد الأسير. فلنعد الى حربنا الأهلية التي وقعت في صيدا في مرحلتها الأسيرية. إلى فقراء الأسير المرعيين من أغنيائه، وحزب الله، ذلك الكائن الهلامي المبتسم لتخبط أعدائه والمتورط بالحرب حتى أذنيه، والجيش اللبناني اللاهث وراء نصر أهلي. هذه واحدة من حكايات الإرهابي اللبناني الكثيرة، وهي ما نحاول أن نشيح أنظارنا عنها خوفاً من أن نعثر على أنفسنا في إحدى مراياها.
لا أحد بريء في الرواية غير الصلبة عن إرهابي مقهى الكوستا. القوى الأمنية التي ألقت القبض عليه ليست بريئة، ذاك أن الرجل المولود في 1993، كان عدوها منذ نحو عشر سنوات، وصار خلالها عدونا أيضاً. القاتل المتردد والخائف كان يغلي منذ عقد من الزمن، هناك في منزله في صيدا حيث لم نكن نستمع إلى ما يجري بينه وبين نفسه.
القاتل اليتيمُ ابن اليتيمِ، ما كان له إلا أن يُقدم على قتلنا، نحن الذين لا نجيد الاستماع إلى ما يجري خلف جدران غرف القتلة العاديين. ولا نملك سوى الشك، وهذا لا يرقى إلى تبرئة القاتل من فعلته، بقدر ما هو هروب مما جره صمتنا عن الجريمة الموازية.
لا رواية واحدة للجريمة في لبنان، وكذلك في كل الإقليم. وتعدد الروايات ليس قرينة على خصوبة خيال، انما هو شك مداره النفس بالدرجة الأولى.
اللبنانيون لم يصدقوا أولاً أنهم هدف القاتل بصفتهم لبنانيين، فهذا الأخير غالباً ما اختار من بينهم أهل الضاحية، أو ربما مرتادي النادي الليلي المقابل، ولم تثنهم عن شكوكهم هويته وأهله وكلام النادل الذي أتى له بالقهوة قبل أن يُقبض عليه. إنهم أبرياء لمجرد أنهم أشاحوا بوجوههم عما يجري، فكيف لقاتل ولد من كل هذا النكران أن يقتلهم.
قد يبدو مستحيلاً تأليف حكاية الإرهابي من كل هذه الشكوك، لكن يمكن الخلوص منها إلى صورة عن أنفسنا نحن الذين أنجبناه وشحنّاه بهذه الطاقة المترددة والخائفة. فعناصر دحض الرواية، كما عناصر الرواية أيضاً، لا يمكن أن تأتلف في سياق يفضي إلى تفسير ما جرى. الحاجة إلى «إرهابي» في قبضة القوى الأمنية، توازيها الحاجة إلى نفي رغبة إرهابي بقتلنا! عند هذين العنصرين تنفصم الرواية. وفي موازاة هذا الفصام ينعقد فصام آخر بين من يرغب منا في دفع التهمة نحو غيره (الصورة التي انتشرت والتي تجمع الانتحاري مع النائب بهية الحريري) وبين من صور فعلته بصفتها مؤامرة (الخبر الذي قال إن خال الانتحاري مسؤول في سرايا المقاومة).
وهذه الوقائع تُسرد في سياق نفي حقيقة أن الانتحاري جزء من العلاقات الطبيعية التي تربطنا بعضنا ببعض. فوظيفة توريط الآخر بالفعلة تنطوي على رغبة في تبرئة النفس منها. الجريمة هناك، وأنا لست أكثر من ضحية محتملة لقاتل جاء من منطقة الأعداء.
الجريمة امتداد لحكاية كنا جميعاً شخصياتها وأبطالها. و «داعش» الذي أرسل عمر العاصي ليقتلنا لم يأتِ بغريب عنا. لا بل إن من المرجح أن يكون عمر هو من ذهب إليه سائلاً قتل نفسه وقتل آخرين. وبهذا المعنى فإن «داعش» أقل المتورطين بالجريمة، ذاك أن دوره اقتصر على تزويد القاتل بأداة القتل. وهذا دأب «داعش» منذ ولادته، فالتنظيم لم يكن أكثر من مصفاة لنقمات وضغائن وفصامات سابقة على وجوده، وهو لم يأت بغير أدوات الجريمة. الإرهابي جونز لم يجنده «داعش». هو من تطوع من تلقائه وجاء إلى الرقة.
لم تسقط الجريمة علينا من كوكب آخر. جميعنا شارك في التحضير لها. هذا تماماً ما نحاول الهروب منه عبر شكوكنا في حكاية القاتل، ذاك أنه نحن جميعنا، وما تردده سوى صورة عن أنه جزء من جريمة أهلية اختلط فيها القاتل بالقتيل.
إنه نحن، الإرهابي الذي قالت جارته إنه «اليتيم الذي عاش وعائلته على حنيّة الأقارب والجيران». إنها «الحنيّة» المولدة للعنف، تلك التي نعوّض فيها خراباً أصلياً، والتي يُشرِّع الواحد منا عبرها لنفسه غطرسته وتفوقه. «الحنيّة» التي تتفشى في سِيَر الإرهابيين الفقراء، وترِد في حكايات أمهاتهم عنهم.
في الكوستا كان سيموت الجميع. موظف المصرف الصيداوي الذي قصد المقهى للقاء صديقته، والنادل الفقير القادم من الضاحية الجنوبية. وإذا ما أجرينا مقاصّة بين احتمالات الضحية واحتمالات المتورطين فإن القسمة ستأتي عادلة، وهي أننا جميعنا قتلى، وجميعنا قَتَلة في آن واحد.
“الحياة”