تولى رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ثمّ وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، تذكير الغافلين (ومعظمهم لا يتغافل إلا عن سابق قصد) بأنّ العلاقات مع النظام السوري، أو آل الأسد على وجه التحديد، كانت وتظل على ما يرام: «لم تكن لدينا مشكلة مع نظام عائلة الأسد، فطوال 40 عاماً لم تطلق رصاصة في هضبة الجولان. والأمر المهم هو الحفاظ على حريتنا في العمل ضد أية جهة تعمل ضدنا»، قال نتنياهو، أواسط تموز (يوليو) الماضي، في اختتام زيارة حافلة إلى موسكو. ليبرمان، من جانبه، لم يغلق الباب أمام علاقات مستقبلية مع النظام، كمَنْ يتمنى لآل الأسد عمراً مديداً؛ مشدداً على أنّ «الجبهة السورية ستكون هادئة» مع استعادة الأسد «للحكم الكامل» في سوريا.
كان أمثال نتنياهو وليبرمان (أو الإعلامي والأكاديمي إيدي كوهين، الذي أعلن أنه «لا توجد أي دولة تريد إسقاط الأسد، حتى إسرائيل لن تسمح بإسقاطه لأنه يحمي حدودنا منذ 1967 ولن نجد أفضل منه في كل سوريا. سقوطه يهدد أمن إسرائيل القومي»؛ أو الصحافي الإسرائيلي المعروف زفي برعيل، الذي سار عنوان مقالته هكذا، ببساطة بليغة: «كيف أصبح الأسد حليف إسرائيل»)؛ يعيدون التشديد على حقيقة ظلت مرئية منذ 51 سنة في الواقع، وليس 40 سنة كما احتسب نتنياهو: أنّ الناظم لعلاقات القوّة بين سوريا حزب البعث، بعد 1967، ودولة الاحتلال، كان حالة العداء في اللفظ والجعجعة فقط، مقابل والاستسلام الفعلي على الأرض؛ ولم يكن حالة اللاسلم واللاحرب كما شاع، بل حالة سلم الأمر الواقع؛ الذي حالت أسباب مركبة، داخلية وتخصّ نظام «الحركة التصحيحية»، دون التعاقد عليه في اتفاقيات علنية.
هنا وقائع التاريخ التي تشهد على تلك الحال:
ـ في 1967 أعلن الفريق حافظ الأسد، وزير الدفاع، سقوط مدينة القنيطرة، وعدد من أبرز مرتفعات الجولان، حتى قبل أن تطأها قدم جندي إسرائيلي محتل.
ـ 1973، وافق النظام على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، وكان بذلك يعترف عملياً وحقوقياً بأنّ دولة الاحتلال جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة ومن نظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي.
ـ 1974، في أعقاب توقيع «اتفاقية سعسع» وإدخال النظام الأممي حول الفصل بين القوات، لم تُطلق في هضبة الجولان طلقة واحدة تهدد صيغة «السلام التعاقدي» المبرمة تحت الخيمة الشهيرة.
ـ بعد 1976 أيّد النظام قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدعو إلى «ضمانات حول سيادة، ووحدة أراضي، واستقلال جميع الدول في المنطقة»، و«الاعتراف بحقّ هذه الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها».
ـ 1982، وافق النظام على مبادرة الملك فهد وخطّة الجامعة العربية التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود (مع الإشارة إلى أنّ ذلك الاعتراف لم يرضِ دولة الاحتلال آنذاك).
ـ 1991 أرسل النظام مندوباً إلى مؤتمر مدريد.
ـ 1994، أقامت واشنطن «قناة السفراء» بين سفير النظام وليد المعلم، والسفير الإسرائيلي إيتمار رابينوفتش. في السنة ذاتها عُقدت اجتماعات بين رئيس أركان جيش النظام، حكمت الشهابي؛ ورئيس أركان جيش الاحتلال، إيهود باراك. في ما بعد سوف يقوم الدبلوماسيان الأمريكيان دنيس روس ومارتن إنديك بجولات مكوكية بين دمشق والقدس المحتلة، لمتابعة تفاهمات واشنطن.
ـ 1999، مفاوضات شبردزتاون، بين وزير خارجية النظام فاروق الشرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، برعاية أمريكية؛ في غمرة تركيز من النظام على ما سُمّي بـ«وديعة رابين».
ـ آذار (مارس) 2000، قبيل وفاته بنحو ثلاثة أشهر، اجتماع الأسد الأب مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون في جنيف.
ـ 2004، تقارير عن مفاوضات سرية، غير مباشرة، يتولاها الدبلوماسي الأمريكي جيفري أهرونسون ورجل الأعمال السوري إبراهيم سليمان.
ـ 2008، سلسلة من جولات التفاوض السرية، برعاية تركية.
لماذا، والحال هذه، فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاقية سلام؟
بعض الإجابة يرتد إلى سبب جوهري حكم تفكير الأسد الأب منذ مقتل باسل، ابنه والوريث المفضّل غير المتوّج، واضطراره إلى تعديل برنامج التوريث ونقله إلى بشار، وسط سباق محموم مع الزمن انطوى على عامل الصراع ضد سلسلة أمراض فتاكة لم تكن تمهل الأسد الأب وقتاً كافياً للطبخ على نيران هادئة. وهكذا توجّب الحسم حول واحد من خيارين، كلاهما حمّال مجازفات ومخاطر: 1) عقد اتفاقية سلام مستعجلة مع دولة الاحتلال، في حياة الأسد الأب، لن تجلب للنظام ما يحتاجه من مكاسب وضمانات لقاء هكذا خيار ستراتيجي؛ و2) التفرّغ، بدل ذلك، للمهمة الأكثر إلحاحاً وضرورة، أي ترتيب البيت الداخلي على أفضل وجه ممكن يتيح وراثة سلسة أمام فتى غير مجرّب، وسط غابة من ذئاب النظام وضباعه.
في الإطار الأعرض، الذي اتضح أكثر في ناظر الأسد الأب بعد لقاء جنيف مع كلنتون، بدا أنّ «وديعة رابين» ليست سوى رسالة غير مكتوبة حملها وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر، غير مُلزمة للجانب الإسرائيلي؛ ولكنّ الأسد الأب تلكأ في اغتنام تلك الفرصة، ثمّ عاد إلى التشبث بها بعد أن حمّلها أكثر مما تحتمل من أثر في أقنية التفاوض. كذلك لوّح الإسرائيليون بنفض الغبار عن خرائط ما قبل عام 1949، للمساجلة بأنّ القوّات السورية احتلت بالقوّة أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية، واحتفظت بها حتى العام 1967 حين «حرّرتها» القوّات الإسرائيلية. وإذا كانت سوريا تزعم شرعية سيادتها على هذه الأراضي لأنها احتفظت بها طيلة 18 عاماً، فلماذا لا يحقّ لدولة الاحتلال أن تزعم شرعية السيادة على الأراضي ذاتها التي احتفظـــت بها طيلة 32 سنة، أي منذ عام 1967؟
وفي خلاصة القول، ما الذي يجبر دولة الاحتلال على عقد أية اتفاقية سلام مع آل الأسد، والنظام في وضعه الراهن محض تابعية متشرذمة بين موسكو وطهران، وسلاح الجوّ الإسرائيلي يسرح ويمرح متى شاء وحيثما شاء في عمق الأراضي السورية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات الضامن شخصياً لأمن الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وعناصر الجيش الروسي شاركت في إعادة إحياء اتفاقية فصل القوات في الجولان بالرغم من وضوح بنود الاتفاقية التي تحظر على جيوش الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن المشاركة في أية مهامّ هناك…؟ لا شيء، بالطبع، بل لعلّ من الحماقة الطوعية أن يفكر أيّ مسؤول إسرائيلي في إقامة أيّ تعاقد مع هكذا نظام، ما دام تعاقد الأمر الواقع هو السيد والفاعل.
هذا إذا وضع المرء جانباً حقائق علاقة الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع نظام «الحركة التصحيحية»، في سياقات عربية عريضة أولاً (مثل انضمام جيش النظام إلى تحالف «عاصفة الصحراء»، أو تطويع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية)؛ أو في سياق الموقف من دولة الاحتلال والحقوق الفلسطينية. وبهذا المعنى فإنّ لجوء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى قرص أذني الأسد، أو حتى وصفه بـ«الحيوان»، ليس سوى سمة السطح في تراث طويل من الرضا الأمريكي عن النظام، والتصديق على خيار آخر ثمين لدى إدارات البيت الأبيض هو الرضا الإسرائيلي عن النظام.
فأيّ عجب في أن تستميت دولة الاحتلال دفاعاً عن آل الأسد، وأن تجد في نظامهم الراهن الحارس الأشدّ يقظة على مصالحها في الجولان المحتل، وفي… سائر سوريا؟