عندما صعدت أرواح أطفال الغوطة إلى السماء مختنقين بالغاز الذي أطلقه نظام الإجرام، وانتظر السوريون تنفيذ أوباما لتعهده بتوجيه ضربة للنظام السوري إذا تجاوز الخطوط الحمراء، كان السؤال الغائب، والكفيل إذا حضر أن يزيل النقمة على نكوص أوباما عن تعهده هو: ألم يخنق النظام السوري الحياة السياسية في سورية بسلاح أشد فتكًا من الكيماوي لمدة أربعين عامًا، من دون أن يتحرك العالم خطوة واحدة لفتح نوافذ للسوريين لكي يستنشقوا الهواء النقي؟
الدولة العظمى التي تناصر الديمقراطية -كما تدعي- أرخت سدولًا بينها وبين رؤية ألاف معتقلي الرأي المقتولين تحت التعذيب في سجون النظام، فهل يستغرب إذا أغراها الروس بصفقة التراجع عن معاقبة النظام مقابل تسليم ترسانته الكيماوية؟
الحق في الحياة الذي سلبه النظام السوري من السوريين، وجعل منه مكافأة عل الولاء، يفترض أنه حق طبيعي في المنظومة الفكرية التي قامت على أساسها الدولة العظمى.
وهذا الحق الطبيعي مستمد من القانون الطبيعي الذي افترضت نظرية الحقوق الطبيعية أن الله قد وضعه للكون عندما أنشأه من عدم، وأنه موجود في الحالة الطبيعية التي سبقت انتقال المجتمع إلى الحالة السياسية.
ثم جرى تقنين هذا الحق مع غيره من الحقوق الطبيعية، وأصبح مبدأ فوق دستوري لا يجوز المساس به، ولكن حرمته لم تراع عندما أسرف النظام السوري في القتل، وهو استمرار لغضّ النظر عن إهدار حقوق طبيعية أخرى، استمرأ نظام الإجرام هدرها عبر أربعة عقود.
ربما كان نسيان أصل هذا الحق، كما تفترض نظرية الحقوق سببًا في تحويله إلى حق يقتصر التمتع به على شعوب دون أخرى، فلو بقيت الذاكرة الجمعية محتفظة بفرضية استمداده من قانون وضعه الله، لكان مشاعًا لكل البشر؛ لأن الله ليس حكرًا على بعضها إلا في النظريات البائسة المنبوذة.
ولأن المجتمع المتخلف يحاكي المجتمع المتقدم من حيث يظن أنه يغايره، فقد فتح إهدار حق السوريين في الحياة على يد النظام، وعلى يد الصامتين عن جرائمه، أقول فتح المجال لتكريس الحق في الحياة عبر عودة إلى الله اختار لها المتطرفون في سورية طريقًا مصبوغًا بالدم.
فالحالة الطبيعية المفترضة في نظرية الحقوق الغربية، تقابلها نظرية الفطرة في النظرية الإسلامية، وهي فطرة يمثلها الدين الحق، فلا بد من قطع طريق راجع إليها مضى على تجاوزه زمن متطاول جدًا؛ لكي يصوّب انحراف هذه الفطرة.
وهو طريق رجعة معاكس لسيرورة التاريخ، يصبو إلى تحقيق فطرة الله، فلا ضير في إهدار حق الحياة، وتعبيد هذا الطريق بالدم؛ لأن الغاية النبيلة تبيح دفع هذا الثمن.
نسيان أصل الحقوق الطبيعية في العالم المتقدم أهدرها، وجعلها حكرًا على أبناء ذلك العالم، والإصرار على عكس مسيرة التاريخ للعودة إلى أصلها في العالم المتخلف أهدرها هنا، وجعلها حكرًا على سالكي هذا الطريق الوعر إذا أرادوا التمسك بها.
ليست مصادفة -كما نود أن نزعم- أن يكون اسم الطفل الخارج من تحت الأنقاض في حلب ” عمران”، وأن يتزامن ظهوره بوجهه المذهول، المصبوغ بالدم، مع ذكرى مجزرة الكيماوي، فهو يقول لمن أهدروا الحق في الحياة هنا وهناك: إن العمران أقوى من الخراب، والوجود أقوى من العدم، وقد حمّلني أصدقائي الذين قضوا في الغوطة رسالة فحواها: أننا-نحن أطفال سورية- لن نتخلى عن حقنا في الحياة، بتذكر أنه حق منحه الله، ومن دون انتهاج طريق عودة لا سبيل إلى انتهاجه إلا بهدر هذا الحق.
أنا العمران الذي غلب خرابكم، والحق الذي اضطرب عليه باطلكم فأُزهق.
رئيس التحرير