افتتاحية الموقع

لا يمثل رحيل رياض الترك حدث موت عادي انتهت فيه رحلة إنسان في الحياة، وإنما هو صعود روح سمت بصاحبها إلى مصاف الرجال العظماء الذين قلما يجود التاريخ الإنساني بأمثالهم.
وليس هذا إنشاء يتكلفه صاحبه بقصد التمجيد، وإنما هو ما تفرضه النظرة المتبصرة لمسيرة هذا الرجل الذي أصرّ منذ يفاعته أن يكون مسكونًا بهمّ كبير هو همّ مقاومة الاستبداد، وتحريض المسجونين في سجنه الكبير أن يصدحوا بمطلب الحرية ضده.
مسيرة نضال ضد حكم الاستبداد في عهد الوحدة، مرورًا بالنضال ضد الانقلاب البعثي، ولم تتوقف عند مناهضة الاستبداد الأسدي في عهدي الأب والابن.
لقد تمازجت هذه المسيرة النضالية مع قدرة فريدة على اقتناص اللحظة التاريخية، وسبر جوهر التحولات التي تجري في كل مرحلة، فلم يكن الترك مجرد ناشط سياسي مثقل بهمّ الحرية من دون إدراك لضرورة تغيير العدة المعرفية والسياسية في كل مرحلة.
كان الانشقاق عن الحزب الشيوعي السوري في السبعينيات تجسيدًا لإدراك عجز هذا التنظيم عن جدل صلة حية مع الواقع، وإصراره في غفلة غريبة على القفز فوقه بتقيد حرفي بنصوص تمتح من عمق أيديولوجي مفارق.
وكانت الاستفادة من فكر رائدي العقلانية في الفكر القومي الياس مرقص وياسين الحافظ وسنّهما لمطلب الديمقراطية كمطلب رئيس، ولضرورة تعريب الماركسية دليلًا قاطعًا على ان الترك لم يكن مناضلًا ذا فكر معلّب يأبى الانفتاح على ما يخدم قضية الحرية.
وكان إصرار الترك على أن المعركة الأساسية ضد الاستبداد تلزم بالانفتاح على كل التيارات السياسية السورية من دون مصادرة حق أي منها في أن يكون له صوته في فضاء النضال تعبيرًا عن حسّ وطني عال لم تثلمه الأيديولوجيا، ولم تأسره بين جدرانها الضيقة.
في مساهمته في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي تحقيق للنظري، وإنزال له من عالم الفكر إلى عالم السياسة، وفي استنكاره لبعض أفعال الإسلاميين مع تاكيد أن المسؤول الأول عن الاستقطاب الطائفي في سورية هو النظام الطائفي ما يعبر عن رؤية واضحة لا يضيع صاحبها بوصلته مهما تشابكت الخيوط، ومهما شاب الطريق من منعرجات.
لم يكن ثمة مناص أمام نظام القهر إلا أن يغيب هذه الشخصية التي لا تساوم في تحديد عدوها بمحاولة إسكات صوتها بسجن طويل في انفرادية قلبت ظهر المجنّ على هذا النظام بأن ساهمت في تحويل الترك إلى رمز وطنيّ، وشخصية نضالية عالمية.
لا أبالغ بالقول إن روحًا غير عادية تلك الروح التي لم يفتّ في عضدها المعتقل الطويل، وخرج صاحبها من المعتقل ليصدح بصوت عال بعد موت حافظ الأسد بمقولته الشهيرة: لقد مات الدكتاتور.
وفي تغييره لرؤية الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي إلى رؤية جديدة بمسمى جديد للحزب ما يقطع بأن ما ذكرناه من قدرة الترك على التقاط اللحظة التاريخية أمر تثبته مسيرته النضالية في كل محطة مفصلية منها.
في سنّ متقدمة تغلبت روح الترك على جسده المنهك بسبب الشيخوخة والتجربة المرة في المعتقل، فساهم مساهمة كبيرة في تنظيم الحراك الثوري الذي انطلق عام 2011، وكانت حركته الدائبة حركة شاب لم تمر عليه السنون، ولم توهنه تقلبات الزمان.
رحل التُرك في العام الفائت غريبًا عن سورية التي وهبها مهجته وعمره، وعلى الرغم من ألمًا ممضًا يعتصر قلوبنا لأنه لم يشهد اللحظة التي نذر عمره لأجل الوصول إليها، فإن طيف رياض الترك حاضر معنا في لحظة التحرير، وروحه العظيمة لا تزال تطوّف في ساحات الحرية في كل بقعة من سورية
مناف الحمد
رئيس التحرير