حسان القالش
هناك رغبة في تقسيم سورية منذ البداية، منذ أن كشفت الثورة، للسوريين وللعالم، تعقيد هذا البلد وحجم القضايا التاريخية والاجتماعية العالقة من دون حلول منذ ولادة هذا الكيان. ويأتي الزخم الأميركي اليوم ليؤكّد هذه الرغبة. على أنّ المفارقة المُرّة هنا هي في التفريق ما بين راغبين بتقسيم على مبدأ الغنائم والحصص، وبين راغبين فيه باعتباره أسهل الحلول أو الحل الذي لا بدّ منه. ولئن كانت النتيجة واحدة في النهاية، فالتفريق بين غايات الراغبين ضروري بلا شكّ، فإذا كانت نيات الفريق الأول المكوّن من نظام الأسد وإيران وروسيا غير خافية، وجب تفنيد فكرة التقسيم كحلّ لا يرى الفريق المقابل غيره في الأفق.
وقد تكون البداية من سؤال جوهري تسعى الأطراف جميعها للإجابة عنه: كيف تُقسّم سورية؟ وهو سؤال يكتسب أهميته من الإخفاقات التي واجهتها التجارب أو المحاولات التي جرت وما تزال تجري لإعادة رسم الخريطة السورية من قبل الأطراف جميعها، خاصة وأنّ هذه التجارب لم تصطدم بعامل التاريخ فقط، بل بعامل الجغرافيا أيضاً. الأمر الذي سيؤدي إلى طرح سؤالين بديلين: ما هو الشكل الذي سيؤول إليه الكيان السوري، أو بكلمات أخرى، كيف ستكون خريطة هذا الكيان. ومن ثم، هل من الممكن تقسيم البلاد إلى أقاليم أو دويلات قابلة للحياة؟
الحق أنّ هذه الأفكار ظهرت بداية في الحقبة العثمانية المتأخرة، وبتأثير من صراعها مع أوروبا، خاصة بعد ولادة متصرفية جبل لبنان في 1860، ما أسهم في إصدار قانون الولايات العثماني في 1864، وخلق ولاية سورية الذي ترافق مع قناعة السياسيين العثمانيين بضرورة تشجيع فكرة الانتماء السوري العثماني، كبديل عن صعود الانتماءات المحلية والدينية الانفصالية. على أنّ النضوج الحقيقي لهذه الأفكار كان في حقبة الانتداب الفرنسي، الذي واجه حقائق التاريخ والجغرافيا السورية. وكان خطأ الفرنسيين الأوّل في الاعتماد على عوامل التاريخ والاجتماع دون اهتمام بعوامل الجغرافيا. ذاك أنّ الدويلات التي شكّلها الفرنسيون لم تكن قابلة للاستمرار من دون تواصل مع محيطها، أي مع الدويلات المجاورة لها، وهذا ما فرض التفكير في الحل الأمثل الذي تمثّل بالفيدرالية غير المركزية. لكن غلبة الجناح الاستعماري على الجناح الإصلاحي بين السياسيين الفرنسيين أدّى إلى تأجيل هذا المشروع، وبالتالي، فرضت الواقعية السياسية نفسها على كل من الوطنيين السوريين والفرنسيين، ونتج عن ذلك الكيان الحالي، الذي قام على الحد الأدنى الضروري لقيام كيان سياسي قابل للاستمرار، بعد خسارة كل من سنجق الاسكندرونة والموصل والأقضية الأربعة في لبنان.
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ الحديث عن تقسيم سورية هو أقرب ما يكون إلى كسل سياسي منه إلى حلّ سياسي، وهذا ما ينطبق على الأوصاف والمصطلحات التي راجت أخيراً كـ «سورية المفيدة» وغيرها، فلا وجود لسورية مفيدة وأخرى غير مفيدة ضمن الخريطة الحالية. وبهذا، يكون هذا الوصف عبارة عن خدعة يرادُ إقناع العالم بها. وإلى هذا وذاك، يكون ما أسماه حازم صاغيّة أخيراً بـ «الطلاق» أمراً مستحيلاً أيضاً، وقد يكون الأجدى هنا أن يعاد تزويج أجزاء سورية إلى بعضها، ليكون زواج هذه الأجزاء، جماعات وأقاليم، زواجاً أوروبياً عصرياً، لا زواجاً شرقياً.
* كاتب وصحافي سوري