كانت لافتة تلك التأكيدات الغربية لأن الضربة العسكرية الأخيرة لا تستـــهدف بـــشار الأسد، وإنما تقتصر على معاقبته على استخدام الكيماوي فحسب. كان لافتاً أيضاً أن يتوجه مسؤول روسي إلى الغربيين بالقول عن بشار: إنه رجلكم قبل أن يكون رجلنا. التصريح الروسي يعكس تذمراً من إصرار غربي على تحميل موسكو وحدها مسؤولية جرائم الأسد، ولا يجانب الصواب مطلقاً بالإشارة إلى الحماية الغربية التي حظي بها بشار قبل التدخل العسكري الروسي، أي قبل أن يتولى الأخير المهمة القذرة بالأصالة عن أصحابه وبالنيابة عن القوى الغربية المتواطئة معه.
باستثناء بشار الأسد، لا يقدّم لنا التاريخ الحديث مثالاً آخر عن حاكم ارتكب أعمال إبادة وتهجير على نطاق واسع، وكلما تفاقمت وحشيته ازداد تمسك القوى الدولية به. القول إن القوى الدولية تضمر الشر للسوريين أو للمنطقة يجعل كل قول بعده بلا طائل، ما دام العداء راسخاً وجوهرياً، ويجعل مناشدات السوريين المجتمعَ الدولي وتكرارها بمثابة بلاهة، أو بالأحرى بمثابة الهَبَل. وحتى القول إن السياسات الدولية كانت هكذا دائماً، ولم يكن من طبيعتها يوماً الاكتراث بمآسي الشعوب الأخرى، يحمل في طياته تكذيباً مطلقاً لدعاوى الحرية والديموقراطية التي غلّفت تلك السياسات لحقبة طويلة، ومن جهة أخرى يُظهر وحشية تنظيم الأسد كممارسة مألوفة تم السكوت عن أمثالها دائماً.
إذا تجاوزنا المأساة الإنسانية، على أهميتها الأخلاقية، نحن إزاء قوى تخلت عن دعم ثورة نادت بالحرية والديموقراطية لصالح استبداد لا ينكر العالم بربريته حتى وهو يتحدث عن بقائه! هذا التبسيط يصحّ لو لم يكن الغرب نفسه في أزمة، واحد من تجلياتها غياب منظومة القيم الليبرالية عن واجهة السياسات الخارجية، أما داخلياً فالأحزاب التقليدية الحاملة لتلك القيم يميناً ويساراً هي في أسوأ حالاتها لصالح تقدم اليمين الشعبوي، وأحياناً اليسار الشعبوي.
الموضوع الذي يوحد مجمل الطبقة السياسية الغربية هو هاجس الإرهاب. بشار الأسد موجود ضمن هذا الهاجس، فهو منذ اندلاع الثورة وصمها بالإرهاب لاستثمار حربه عليها ضمن الحرب الدولية على الإرهاب. القول «أنا أو داعش» ينتمي إلى أفق عالمي، ولو كان صاحبه معروف لدى أجهزة المخابرات الدولية بلعب اللعبة المزدوجة لمحاربة الإرهاب، أي بالقيام بتصنيعه ثم قمعه، لأن الغرب غير مستعد لملء الفراغ الذي يخلّفه رحيل الاستبداد، فوق عدم استعداده لتحمل كلفة ترحيله.
داعش وبشار مقيمان في هواجس الغرب أكثر من أي اعتبار لحقوق السوريين أو لمآسيهم، تكرار هذا الكلام مرده انتماء الاثنين (سلباً وإيجاباً) إلى أفق عالمي يخص السياسة المباشرة. الثورة، في أحسن حالاتها وشعاراتها، لا تملك هذا الأفق العالمي بحكم عدم وجود هذه المنظومة القيمية في مقدمة الاهتمام. القوى الفاعلة في الغرب غير مكترثة إزاء أولئك المحليين الذين لهم مطالبهم الخاصة، من دون أن يستدعي هذا تصديق بروباغندا بشار التي تتهمهم جميعاً بالإرهاب.
ينتمي إلى السياق ذاته توقف الغرب أمام استخدام السلاح الكيماوي، لأن وجود هذا السلاح واستخدامه يمس منظومة دولية يصر الغرب على تطبيقها، ولا يتعلق إطلاقاً بمقدار الأذى الذي يتسبب به للسوريين. الغرب لا ينافق عندما يسكت عن إبادة السوريين بمختلف أصناف الأسلحة الأخرى، فهو لم يتعهد يوماً بوقف المقتلة السورية، ولم يتعهد حتى بمحاكمة بشار الأسد على استخدامه السلاح الكيماوي. ما يريده ويعلنه شديد الوضوح: فقط التخلص من المخزون الكيماوي وأدوات إنتاجه نهائياً، بسبب مخاطره المحتملة عالمياً ليس إلا، وهذا لا يتوقف عند أمن إسرائيل كما يحلو للبعض تأويله، لأن إسرائيل قادرة على التصرف (وهي تتصرف فعلاً) عندما يكون هناك خطر على أمنها.
بالطبع تستحق السياسات الغربية إزاء المقتلة السورية مختلف أصناف الهجاء، ولدينا مخزون كافٍ من هجائها بحيث يكون الهجاء الجديد تأصيلاً لما سبق. إلا أن موروث هجاء الغرب لا يستقيم مع استجداء تدخله، التناقض هنا ليس صورياً، إنه في صلب النظرة التي يُفترض بها استبعاد تدخل حميد من قبله. وإذا كان من مبرر لهجاء مختلف فينبغي مجيئه على أرضية مختلفة عما مضى، وهذه الأرضية إن لم تكن مشتركة مع الغرب نفسه سيكون الحاضر استئنافاً للقطيعة الماضية.
إن نظرة تتأرجح بين اعتبار الذات موضوعاً مرغوباً للسيطرة واعتبار الآخر قابلاً للاستثمار لن تحقق نقلة في العلاقة، ففي الحالة الأولى يتعين انتظار مصالح قوية تلتقي مع مصالحنا، فيحققها لنا ضمن استراتيجية أكبر لمناطق نفوذه، وفي الحالة الثانية ثمة افتراض ينص على استثمار الغرب كي يحقق لنا ما يريد عن طريق توريطه بأن تصبح سياساته أكثر تدخلية. في الحالتين لا تنعقد النية لأجل اشتباك أعمق مع الغرب، تحديداً في المنظومة الديموقراطية التي نادت بها الثورة.
لقد قدم السوريون للعالم مظلومية عظمى، وكان ثمة ظن بأنها ستكون مؤثرة على السياسات الدولية، لكن الهيئات الممثِّلة للثورة لم تطرح نقلة ذات أفق عالمي، بمعنى أنها لم تطرح انتقالاً جذرياً يجد له مساندة من قوى غربية شبيهة. هي ليست ثورة يسارية لتجد مساندة من اليسار، وليست ثورة ليبرالية لتجد دعماً من الليبراليين. وهم الخصوصية لا ينفع سوى في جعلها أكثر محلية، وقد جرّب الغرب من قبل دعاوى الخصوصية التي استخدمتها وتستخدمها أنظمة الاستبداد، ولم تكن تعني في أي وقت سوى خصوصية خنق الحريات.
في واقع يمتنع فيه التغيير من دون مساندة القوى الوازنة دولياً، يصعب تصور الحصول على دعم حقيقي من دون الوقوف على أرضية مشتركة مع الغرب. في الأصل واحد من أسباب اللامبالاة الغربية أن سورية كانت في العقود الأخيرة بعيدة جداً عن هذه الأرضية الـــمشتركة، وكانت العلاقة محتَكَرة لصالح الدائرة الضيقة جداً للسلطة، وأثناء الثورة كانت العلاقة تمر غالباً عبر رعاة إقليميين لا يحظى قسم كبير منهم بسمعة طيبة لدى الرأي العام الغربي. اللامبالاة الغربية، وهول ما حصل، لا يدلان فقط على لاأخلاقية السياسات الغربية، بل أيضاً على المسافة التي ما تزال تفصلنا عن تلك الضفة.