في الأشهر الأخيرة، بدأت الغُرَف الكائنة في مبني بيت نتيب بمدينة القُدس، والذي يأوي مركز سالم أو شليم للأبحاث، تتحول إلى غُرَف فارغة الواحدة تلو الأخرى، وذلك نتيجة حصول الكثير من العاملين بالمركز على إجازات طويلة، الأمر الذي ربما يشير إلى تراجع من نوعٍ ما في جودة المركز للوهلة الأولى، بيد أنه مع التدقيق سنجد أن ما حصل هو أن العشرات من المنتمين للمركز قد تركوا عالم الأبحاث واتجهوا لصناعة القرار بتولي مناصب مختلفة في الدولة الإسرائيلية، في إشارة لتنامي قوة المركز ونفوذه في الحقيقة.
منذ حوالي عام كان الباحث الاقتصادي عومير مُعاب يعمل في معهد السياسات الاقتصادية والاجتماعية التابع للمركز، وكان منكبًا على كتابة مقالٍ مفاده أن قوانين حماية العمل ليست بالضرورة مفيدة للطبقات العاملة، وهو أمر ليس بمستغرب بالنظر لكونه منتميًا للفكر المحافظ اقتصاديًا، فهو كغالبية زملائه في مركز سالم محسوب على اليمين الإسرائيلي المناصر لحزب الليكود، ولم يكن غريبًا إذن أن يصبح عومير فيما بعد رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين بوزارة المالية الإسرائيلية في حكومة نتنياهو، ليترك مقعده في مركز سالم شاغرًا.
مايكل أورِن كان أحد الأسماء اللامعة أيضًا في مركز سالم، وكان يعمل على مقال يستعرض فيه إحدى أفلام الممثل الأمريكي آدم ساندلر، والذي يحكي عن جندي إسرائيلي يفبرك أخبارًا عن وفاته، ثم يهرب ليعمل في نيويورك كحلاق ومصفف شعر، وهو ما انتقده أورِن في مقاله باعتباره ينبذ تمامًا الفكرة الصهيونية التي تقول بضرورة العودة لإسرائيل لا الخروج منها، إلا إذا كان الخروج مؤقتًا وفي صالح المشروع الإسرائيلي، وهو ما فعله أورِن بالضبط الذي يعمل الآن سفيرًا لإسرائيل في واشنطن، وهي مهمة شهدت تدبيره مع أصدقائه الجمهوريين خطاب نتنياهو في الكونجرس دون علم البيت الأبيض.
موشيه يعالون، القائد السابق لقوات الدفاع الإسرائيلية، هو اسم آخر خرج من مركز سالم، وكان قد كتب في دورية أزور الصادرة عن المركز مقالًا بعنوان “العملية الدبلوماسية يمكن أن تنتظر،” في إشارة لموقفه المعارض لاستكمال مفاوضات عملية السلام في الفترة الراهنة، والتي تعاملت معها إسرائيل بصلف شديد بالفعل أثناء محاولات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري التوسط فيها، قبل أن يترك أبحاثه في مركز سالم ويتجه لتولي وزارة الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الحالية.
ناتان شرانسكي هو اسم بارز كذلك في مركز سالم، وقد كان يتولي رئاسة معهد الدراسات الاستراتيجية في التابع للمركز، ولكنه على الأرجح سيتجه قريبًا لرئاسة الوكالة اليهودية، ومواقفه اليمينية لا تخفى على أحد، فقد نشر له المركز كتابًا عام 2004 بعنوان “دفاعًا عن الديمقراطية: قوة الحرية في تجاوز القهر والإرهاب،” وهو كتاب ألفه مع زميله آنذاك رون دِرمِر، الذي يرأس الآن قسم المعلومات بمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقد حاز على إعجاب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن.
حكاية مركز سالم
إبان نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينيات، شهدت الكثير من البلدان تزايد ما يُعرَف في الإنجليزية بالـ”ثينك تانكس” Think Tanks، وهي عادة ما تكون مراكز بحثية مهتمة بعملية صنع القرار بدلًا من كونها منصبة على البحوث النظرية البحتة كالمراكز البحثية التقليدية التابعة للجامعات، علاوة على كونها في علاقة مع جهة تمويل تؤثر عليها بشكل أو آخر، وتؤول بها في نهاية المطاف لتعزيز مصالح تلك الجهة، والتي قد تكون الحكومة والدولة نفسها كما الحال في أغلب هذه المراكز في فرنسا والصين، أو مجموعات ضغط لصالح أطراف داخلية أو خارجية كما الحال في الغالب في الولايات المتحدة.
في تلك الفترة، تأسس مركز سالم عام 1994 بهدف جلب الفكر المحافظ الجديد من الولايات المتحدة إلى الساحة السياسية الإسرائيلية، وكان تدشينه قد تم بشكل يجعله مماثلًا تمامًا للثينك تانكس المحافظة في الولايات المتحدة، إلا أنه ظل مهمّشًا لفترة طويلة نظرًا لحداثة الفكرة داخل إسرائيل، رُغم الدعم الذي حصل عليه من أسماء أمريكية كبيرة محسوبة على اليمين الأمريكي، مثل مؤسسة أسرة بِرنشتاين الناشطة في دعم القضايا اليهودية، وشيلدون أدِلسون الملياردير الجمهوري مالك صحيفة “إسرائيل حايوم” الأكثر توزيعًا في إسرائيل والداعمة لليمين والحكومة الحالية، وجورج رور رجل الأعمال المهتم بمبادرات التعليم اليهودية، ورون لودر رجل الأعمال الداعم لنتنياهو منذ سنوات.
شيلدون أدِلسون على عكازه في إحدى المؤتمرات
بصعود حزب الليكود في السنوات الأخيرة، ومع استمرار الروابط القوية بين ممولي وباحثي مركز سالم واليمين الإسرائيلي بشكل عام، لم يكن غريبًا أن يبرز نجم المركز البحثي بقوة، ليصبح اليوم الجهة الأكاديمية الأكثر تأثيرًا على الحكومة الإسرائيلية، وجسرًا يعبر عن طريقه العشرات من الطموحين لتولي المناصب وصنع القرار إلى قلب الدولة في إسرائيل، “لو لم أكن جزءًا من مركز سالم لما كنت في موقعي اليوم كمستشار لوزير المالية،” هكذا يقول عومير معاب، “نتنياهو وحزب الليكود قريبون من المركز جدًا نظرًا لأنه يشاركهم نفس الأيديولوجيا السياسية، ونفس المنظور الاقتصادي الليبرالي الذي أؤمن به.”
العلاقات وحدها ليست هي كلمة السر بالطبع، ولكن التمويل الكبير أيضًا، فالمركز رُغم صِغَر حجمه يحصل على أموال هي ربما الأعلى في إسرائيل كلها بين المنابر الأكاديمية الأخرى، كما أنه في ظل هيمنة اليمين سياسيًا يبدو اللاعب الوحيد في عالم الأكاديميا الإسرائيلية الذي يقف بجانب الحكومة ويؤثر عليها بهذا الشكل، فمعظم المفكرين والأكاديميين في إسرائيل غالبًا ما يميلون لليسار كما يشي بذلك وجود الكثير من مراكز السياسات اليسارية والقريبة من حزب العمال، وهو ما يجعل مركز سالم فريدًا كمنبر أكاديمي يميني صغير، ومطلوبًا بقوة من جانب الحكومة الحالية.
“ إنهم يريدون تدريب مجموعات كبيرة من المنتمين للفكر الصهيوني المحافظ ليدخلوا إلى عالم الإعلام والسياسة والأعمال، وتشكيل ملامح الدولة في السنوات القادمة، فالكثير من الباحثين الصغار التابعين لمركز سالم الآن يتولون مناصب صغيرة في وزارة المالية ومكتب رئيس الوزراء ووزارة الخارجية،” هكذا تقول ساريت بن سمحون الباحثة بجامعة تل أبيب والتي تدرس تأثير مراكز الأبحاث على السياسة الإسرائيلية.
بدوره، يقول المحلل السياسي والناقد الأدبي نسيم كالديرون أن مركز سالم يسير على درب الثينك تانكس اليمينية في الولايات المتحدة، والتي ظهرت نتيجة عدم امتلاك المحافظين لأي تأثير أكاديمي في الجامعات، حيث يميل أغلب الأكاديميين فيها للديمقراطيين، وهو ما دفعهم للالتفاف على المنابر الأكاديمية التقليدية وتأسيس الـ”ثينك تانكس” للتأثير على السياسة الأمريكية، وهو أمر ينطبق على الساحة الإسرائيلية التي هيمنت عليها أكاديميًا مجموعات اليسار بأفكار تقليدية كارهة لليمين، والذي انتمى له النازيون يومًا ما، ومتعاطفة مع اليسار الذي دعم الحراك اليهودي في بدايات المشروع الإسرائيلي.
منذ عامين، كتب كالديرون في صحيفة هآرتز أن مركز سالم، على عكس مفكري اليسار الإسرائيلي، لا يطمح للهيمنة على الجامعات الإسرائيلية، ولكن لغزو الكنيست، وهي نبوءة يعتقد أنها تحققت ولكن بأسرع مما تصور.
نون بوست